الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك دليل على جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء، أو تقليد الأعلم كقول طائفة أخرى (1)، أما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الآية ما يقتضيه.
[دفع الاعتراض]
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد (2) لوجوه:
أحدها: أن الاتباع المأمور به في القرآن كقوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، ونحوه لا يتوقف (3) على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل (4).
الثاني: أنه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق؛ لأن اتباع موجب الدليل يجب أن يُتَّبع فيه كل أحد، فمن قال قولًا بدليل صحيح وجب موافقته فيه.
الثالث: أنه إما أن تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا [تجوز](5) فإن لم تجوز فهو المطلوب، وإن جازت مخالفتهم فقد خُولفوا في خصوص الحكم (6)، واتبعوا في أحسن الاستدلال (7)، فليس جَعْل من فعل ذلك متبعًا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفًا لمخالفته في عين الحكم (7).
(1) انظر: تحريرًا بديعًا للمسألة في "الموافقات" للشاطبي (5/ 280 - 285).
(2)
في هذا رد على من زعم أن اتباعهم هو سلوك سبيل الاجتهاد. (س)، وفي (ك):"يلتزم الاجتهاد".
(3)
وفيه رد أيضًا على من زعم أن اتباعهم هو اتباع المجتهد (س).
(4)
ذلك أن قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره حجة بنفسه، وكذلك ما يدخل في سبيل المؤمنين من دلالات قولية أو فعلية، فهو لا يحتاج إلى دليل يشهد له (س).
(5)
في (ق): "وإن جاز فقد خولفوا في تخصيص الحكم".
(6)
وهذا ليس على إطلاقه؛ لأن المخالفة في الحكم يمكن أن تأتي من اختلاف طريقة الاستنباط مع الموافقة في أصل الاجتهاد (س).
(7)
فالمخالف في الحكم لا يسمى موافقًا، فكيف يسمى متبعًا (س)، وفي (ق) و (ك):"حسن الاستدلال".
الرابع: أن من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعًا لهم أصلًا بدليل أن من خالف مجتهدًا [من المجتهدين](1) في مسألة بعد اجتهاده (2) لا يصح أن يقال: "اتبعه"، وإن أطلق ذلك فلا بد من تقييده بأن يقال: اتبعه في الاستدلال والاجتهاد (3).
الخامس: أن الاتِّباع افتعال من اتبع، وكون الإنسان تابعًا لغيره نوع افتقار إليه ومشي خلفه، وكلُّ واحد من المجتهدين المستدلين ليس تبعًا للآخر ولا مفتقرًا إليه بمجرد ذلك (4) حتى يستشعر موافقته والانقياد له (5)، ولهذا لا يصح أن يقال لمن وافق رجلًا في اجتهاده أو فتواه اتفاقًا إنه متَّبعٌ له.
السادس: أن الآية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين، وبتقدير ألا يكون (6) قولهم موجبًا للموافقة ولا مانعًا من المخالفة -بل إنما يتبع القياس مثلًا- لا يكون لهم [هذا](7) المنصب، ولا يستحقون هذا المدح والثناء (8).
السابع: أن من خالفهم في خصوص [الحكم فلم](9) يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعًا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة، وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد، ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به (10)؛ لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته، وإذا وجد الفارق الأخص والجامع الأعم -وكلاهما مؤثر- كان التفريق رعاية للفارق أولى (11) من الجمع رعاية للجامع.
وأما قوله: {بِإِحْسَانٍ} فليس المراد به أن يجتهد، وافق أو خالف؛ لأنه إذا
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
في المطبوع: "بعد اجتهاد".
(3)
في المطبوع: "اتبعه في الاستدلال أو الاجتهاد".
(4)
في (ق): "ليس متبعًا للآخر مقتديًا به بمجرد ذلك".
(5)
في (ق): "ليس يشعر موافقته والانقياد له".
(6)
في (ق): "متبوعين ومقلدين إلا أن يكون"، وفي (ك):"متبعين" بدل "متبوعين".
(7)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(8)
فلا يتحقق اتباعهم إلا بالانقياد لهم، والامتناع من مخالفيهم (س).
(9)
بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "لم".
(10)
إذ كل الفرق الضالة تجتهد في الظاهر وتسلك سبيل الاستدلال، فيلزم أن تكون كلها من التابعين لهم بإحسان!! فتأمل (س).
(11)
في (ق): "وأولى".
خالف لم يتبعهم (1) فضلًا عن أن يكون بإحسان؛ ولأن (2) مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم، لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد (3) والقول، فلا بد مع ذلك أن يكون المتَّبعُ محسنًا بأداء الفرائض واجتناب المحارم (4)، لئلا يقع اغترار (5) بمجرد الموافقة قولًا، وأيضًا فلا بد أن يحسن المتبع لهم القول فيهم، ولا يقدح فيهم، اشترط اللَّه ذلك لعلمه بأن (6) سيكون أقوام ينالون منهم (7).
وهذا مثل قوله تعالى بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، وأما تخصيص اتّباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح؛ لأن الاتباع عام، ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعًا لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب (8)، ولم يكن فرق بين أتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها.
وأيضًا فإنه إذا قيل: "فلان يتبع فلانًا، واتبع فلانًا (9)، وأنا (10) متبع فلانًا" ولم يقيد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية؛ فإنه (11) يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتَّى فيها الاتباع؛ لأن من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف، ولأن الرَّضوان حكمٌ تعلق باتباعهم، فيكون الاتباع سببًا [له؛ لأن الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضي أن ما منه الاشتقاق سبب، وإذا كان اتباعهم سببًا](12) للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده، ولا اختصاص للاتِّباع (13) بحال دون حال، ولأن الاتباع يؤذن بكون الإنسان تبعًا لغيره
(1) في (ك): "يتبع".
(2)
في (ك): "لأن".
(3)
في (ك): "الاعتماد".
(4)
فالإحسان لا يتحقق إلا بالعقيدة الصحيحة، وتلقي العلم الصحيح، والقول الصحيح، حتى يكون معها العمل المستوفي للصفات المقبولة (س)، وسقطت "المتبع" من (ق).
(5)
في المطبوع: "الاغترار".
(6)
في (ق): "لأن".
(7)
كدأب الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة (س).
(8)
وفي ذلك إبطال لثمرة اتباعهم الذي قررته الآية (س).
(9)
في (ق): "أو تبع فلانًا".
(10)
في (ق): "أو أنا".
(11)
في (ق): "فهذا".
(12)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(13)
في (ق) و (ك): "لا اختصاص اتباع".