الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويزيده وضوحًا: أن المعنى الذي منع الاستثناء عقد اليمين لأجله، هو بعينه في الطلاق والعتاق؛ فإنه إذا قال:"واللَّه لأفعلنَّ اليوم كذا -إن شاء اللَّه-" فقد التزم فعله في اليوم إن شاء اللَّه له ذلك، فإن فعله فقد علمنا مشيئة اللَّه له، وإن لم يفعله علمنا أن اللَّه لم يشأه؛ إذ لو شاءه لوقع ولا بدُّ.
[لا بد من مشيئة اللَّه لوقوع فعل العبد]
ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة العبد (1) إن شاءه فقط، فإن العبد قد يشاء الفعلَ ولا يقع، فإن مشيئته ليست موجبة (2) ولا تلزمه، بل لا بد من مشيئة اللَّه [له](3) أن يفعل، وقد قال تعالى في المشيئة الأولى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال في المشيئة الثانية:{كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 - 56]، وإذا كان تعليق الحلف بمشيئته تعالى (4) يمنع من انعقاد اليمين، وكذلك تعليق الوعد، فإذا قال:"أفعل إنْ شاء اللَّه"، ولم يفعل لم يكن مُخْلِفًا كما لا يكون في اليمين حانثًا وهكذا إذا قال:"أنت طالق إن شاء اللَّه" فإن طلَّقها بعد ذلك، علمنا أن اللَّه [سبحانه](5) قد شاء الطلاق فوقع، وإن لم يطلقها تبيّنَّا أن اللَّه لم يشأ الطلاق فلا تطلق، فلا فرق في هذا بين اليمين والإيقاع، فإن كلًا منهما إنشاءٌ وإلزامٌ مُعلَّق بالمشيئة.
قالوا: وأما الأثران اللّذان ذكرتموهما عن الصحابة فما أحسنهما لو ثبتا ولكن كيف بثبوتهما (6) وعطية ضعيف، وجميع بن عبد الحميد مجهول، وخالد بن يزيد ضعيف؟ قال ابن عدي (7): أحاديثه لا يتابع عليها وأثرُ ابن عباس لا يعلم حالُ إسناده حتى يُقبل أو يُرد.
[آثار في مقابلة آثار المانعين من الأخذ بالاستثناء]
على أن هذه الآثار مقابلة بآثار أُخر لا تثبت أيضًا:
فمنها: ما رواه البيهقي في "سننه" من حديث إسماعيل بن عيَّاش، عن
(1) في المطبوع و (ك): "مشيئة اللَّه للعبد"!.
(2)
في (ق): "ليست توجبه".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
في (ق) و (ك): "سبحانه"
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.
(6)
في (ق): "كيف تثبتونهما".
(7)
في "الكامل"(3/ 887).
حميد بن مالك، عن مكحول، عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، ما خلق اللَّه شيئًا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق، و [ما خلق اللَّه شيئًا على وجه الأرض] (1) أحب إليه من العتاق، فإذا قال الرجل لمملوكه: أنت حرٌّ إن شاء اللَّه، فهو حرّ ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، فله استثناؤه ولا طلاق عليه"(2) ثم ساقه من طريق [محمد بن مصفَّى: ثنا معاوية بن حفص، عن حميد، عن مالك اللخمي: حدثني مكحول، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: [أنه سأل](3) رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، فقال:
(1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(2)
رواه البيهقي في "سننه الكبرى"(7/ 361)، وعبد الرزاق في "مصنفه"(6/ 390) رقم (11331)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 694)، والدارقطني (4/ 35)، ومحمد بن الحسن في "مخارج الحيل"(ص 6)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (1066)، وفي "التحقيق"(1718 أو 9/ 167 رقم 2078 - ط قلعجي) كلهم من طريق إسماعيل بن عياش به.
ومدار هذا الحديث على حميد بن مالك هذا، وقد ضعَّفه يحيى بن معين، وقال ابن عدي: وأحاديثه مقدار ما يرويه منكر.
قال البيهقي بعد روايته: حميد بن مالك مجهول، ومكحول عن معاذ بن جبل منقطع.
وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "مكحول لم يلق معاذًا، وإسماعيل بن عيَّاش وحميد ومكحول كلهم ضعاف".
أقول: قوله: مكحول أنه من الضعفاء هذا من أعجب العجب، فمكحول من الثقات المشاهير، فلعله سبق قلم.
ومما يدل على ضعف حميد بن مالك: أنه اضطرب فيه، فقد رواه الدارقطني في "سننه"(4/ 35) من طريقه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل. وفي إسناده من لا يعرف أيضًا، انظر:"بيان الوهم والإيهام"(3/ 170 - 171) و"تنقيح التحقيق"(3/ 221) لمحمد بن عبد الهادي.
وقال البيهقي (7/ 361): وقد قيل: عن حميد عن مكحول عن خالد بن معدان عن معاذ.
وقال الذهبي في "التنقيح"(9/ 168): "هذا لم يثبت مع نكارته وانقطاعه، وضعف حميد" وقال محمد بن عبد الهادي في "التنقيح"(3/ 222): "وقد تكلم في حميد أئمة الجرح، منهم ابن معين، وأبو زرعة وأبو حاتم وابن عدي، والأزدي، وقال النسائي: لا أعلم روى عنه غير إسماعيل بن عياش، وقد روى عنه غيره إلا أنه كذاب، والحمل في هذا الحديث عليه -يعني حميدًا - لكن مكحول أصلح من هؤلاء" ونقل -قبل- عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله عن الأحاديث الواردة في الباب: "لم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة" وقال عن حديثنا هذا: "رواه أبو يعلى عن داود بن رشيد عن إسماعيل".
(3)
بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "سئل".
"له استثناؤه"، فقال الرجل (1): يا رسول اللَّه، وإن قال لغلامه: أنت حرٌّ إن شاء اللَّه قال: "معتق (2)، لأن اللَّه يشاء العتق، ولا يشاء الطلاق"] (3).
ثم ساق من طريق إسحاق بن أبي نجيح (4)، [عن عبد العزيز بن أبي روَّاد: عن ابن جريج، عن عطاء] (5)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، أو لغلامه: أنت حر إن شاء اللَّه، أو عليه المشي إلى بيت اللَّه الحرام إن شاء اللَّه؛ فلا شيء عليه" (6)، ثم ساق من طريق الجارود [بن يزيد](7)، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا في الطلاق وَحْدَهُ أنه لا يقع (8).
(1) في (ك): "رجل".
(2)
في (ك): "يعتق".
(3)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 361)، ورواه ابن عدي (2/ 694)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1067).
ووقع في (ق) بدل ما بين المعقوفتين: "محمد بن مصطفى عن معاذ بنحو ذلك".
(4)
كذا في جميع النسخ: "ابن أبي نجيح"!، وصوابه:"ابن أبي يحيى" كما سيأتي.
(5)
بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بسنده".
(6)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 361)، ورواه ابن عدي (1/ 331)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (1064) و"التحقيق"(9/ 169 - 170 رقم 2081 - ط قلعجي) من طريق إسحاق بن أبي يحيى الكعبي، عن عبد العزيز بن أبي رواد به.
وإسحاق بن أبي يحيى قال فيه ابن عدي: حدث عن جماعة من الثقات مناكير. . .، ولم أر لإسحاق من الحديث إلا مقدار عشرة أو أقل. . .، ومقدار ما رأيته مناكير.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار.
وقال الذهبي: هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات. وضعَّفه ابن الجوزي وأقره محمد بن عبد الهادي والذهبي.
(تنبيه): وقع عند ابن القيم، وفي "نصب الراية" (2/ 135) اسم إسحاق هكذا: إسحاق بن أبي نجيح، وهو تحريف، وظنّه محقق "نصب الراية" إسحاق بن نجيح الملطي الدجّال، وليس الأمر كذلك.
(تنبيه آخر): أخرج محمد بن الحسن في "مخارج الحيل"(ص 5) من طريق محمد بن عبيد اللَّه العرزمي عن عطاء عن ابن عباس قوله. والعرزمي متروك.
وأخرجه أيضًا (ص 7) من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه قوله، والحسن بن عمارة متروك أيضًا.
(7)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(8)
رواه البيهقي في "السنن الكبرى"، وهو لم يسق سنده -كما قال ابن القيم- وإنما قال: وروي عن الجارود بن يزيد به. =
ولو كنَّا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنِّفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيدًا لقوله لفرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غنية، فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
أما الحديث الأول: ففيه عدة بلايا:
إحداها (1): حميد بن مالك، ضعّفه أبو زرعة وغيره.
الثانية: أن مكحولًا لم يَلْقَ مُعاذًا، قال أبو زرعة:(2) مكحول عن معاذ منقطع.
الثالثة: أنه قد اضطرب فيه حميد هذا الضعيف، فمرة يقول: عن مكحول عن معاذ، ومرة يقول: عن مكحول، عن خالد بن معدان، عن معاذ، وهو منقطع أيضًا وقيل: مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ، قال البيهقي:[و](3) لم يصح.
الرابعة: أن إسماعيل بن عياش ليس ممن يقبل تفرده بمثل هذا.
ولهذا لم يذهب أحد من الفقهاء إلى هذا الحديث، وما حكاه أبو حامد الإسفرائيني عن أحمد من القول به فباطل عنه لا يصح البتة، وكل من حكاه عن أحمد فمستنده حكاية أبي حامد الإسفرائيني أو من تَلَقّاها عنه.
وأما الأثر الثاني؛ فإسناده ظُلمات (4) بعضها فوق بعض، حتى انتهى أمره إلى الكذّاب: إسحاق بن [أبي](5) نجيح الملطي (6).
وأما الأثر الثالث؛ فالجارود بن يزيد قد ارتقى من حَدِّ الضعف إلى حد الترك!!
والمقصود أن الآثار من الطرفين لا مُسْتَراحَ فيها.
= وقد وصله ابن عدي في "الكامل"(2/ 595)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل"(1065)، و"التحقيق"(9/ 169 رقم 2080)، والجارود هذا وصف بالكذب، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن عدي: بَيّن الأمر في الضعف. وانظر: "تنقيح التحقيق"(3/ 221) لمحمد بن عبد الهادي و (9/ 169) للذهبي.
(1)
في (ق) و (ك): "أحدها".
(2)
انظر: "المراسيل"(ص 211)، لابن أبي حاتم، و"تحفة التحصيل"(ص 314 - 315).
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
في (ق): "كلمات"!.
(5)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).
(6)
الصواب أنه ابن أبي يحيى الكعبي، كما قدّمناه في التخريج.