الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تأتي بمثل ذلك، ونحن لا ننكر أن في ذلك نوع ضرر عليه، لكن رأى احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء، وما يُنكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما؟
فصل [الجواب على شبه أصحاب الحيلة السريجية]
قال الموقّعون: لقد دعوتم الشُّبَهَ الجَفَلَى (1) إلى وليمة هذه المسألة، فلم تَدَعُوا منها داعيًا ولا مجيبًا، واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابةَ الاجتهاد، وليس كل مجتهد مصيبًا، ونثرتم عليها ما لا يصلح مثلها (2) للنثار، وزيّنتموها بأنواع الحلي، ولكنه حُلىٌّ مستعار؛ فإذا استردت العارية زال الالتباس والاشتباه، وهناك (تسمع بالمُعَيْدِيِّ خير من أن تراه)(3).
فأما قولكم: "أنا ارتقينا مرتقى صعبًا، وأسأنا الظن بمن قال بهذه المسألة" فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيمًا أو تبديعًا فمعاذ اللَّه! بل أنتم أسأتم بنا الظن، وإن أردتم بإساءة الظن أنَّا لم نصوبهم في هذه المسألة، ورأينا الصواب في خلافهم فيها؛ فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تَنَازَعْنا فيه، بل سائر المتنازعين بهذه المثابة، وقد صرح الأربعة الأئمة (4) بأن الحق في واحد من الأقوال المختلفة، وليست كلها صوابًا (5).
(1) قال (و): "الجفلى: أي دعاها بجماعتها وعافتها"، ونحوه في (ط) وزاد: "وقد أخذ هذا التعبير من قول الشاعر:
نحن في المشتاة ندعو الجفلى
…
لا ترى الآداب فينا ينتقر"
قلت: وانظر: "لسان العرب"(1/ 643).
(2)
في (د) و (ك) و (ق): "مثله".
(3)
مثل يضرب فيمن شهر ذكره، وتزدري مرآته.
ومعيدي: تصغير مَعَدِّي -بفتح الميم والعين وكسر الدال مع تشديدها-" (و).
وانظر: "جمهرة الأمثال"(1/ 266)، "الأمثال"(9) للضبي، "الفاخر"(65)، "فصل المقال"(121)"مجمع الأمثال"(1/ 86)، "المستصفى"(148)"اللسان"(معد).
(4)
في (ق): "الأئمة الأربعة".
(5)
وهذا هو الحق، فالمجتهدون منهم المصيب وله أجران، ومنهم المخطئ، وله أجر واحد، فالحق أن الحق واحد لا يتعدد، وانظر هذه المسألة في "الإحكام في أصول الأحكام"(4/ 189)، و"المستصفى"(2/ 363)، و"المحصول"(6/ 33 - 65)،=
وأما قولكم: "إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي" فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنها لو كانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الأئمة يحتج له ولا يحتج به، وقد نازعه الجمهور فيها، والحجة تفصل ما بين المتنازعين.
الثاني: أن الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه لم ينصَّ عليها ولا على ما يستلزمها.
وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله: "أنت طالق قبل موتي بشهر"(1) فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينَّا وقوع الطلاق، وهذا [قد](2) وافقه عليه مَنْ يبطل هذه المسألة، وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها، وليس فيه سبق الطلاق لشرطه، ولا هو متضمن للمُحَال؛ إذ حقيقتُه؛ إذا بَقي من حياتي شهر فأنت طالق.
وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه، وإنما نظير المسألة المتنازع فيها أن يقول:"إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر" وهذا المحال بعينه، وهو نظير قوله:"إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" أو يقول: "أنت طالق عامَ الأول" فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سريج شيء، ويدل عليه أن الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق؛ فلو مات عقيب اليمين لم تطلق، وكانت بمنزلة قوله:"أنت طالق في الشهر الماضي" وبمنزلة قوله: "أنت طالق قبل أن أنكحك" فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق؛ لأنها في أحدهما لم تكن محلًا، وفي الثاني لم تكن فيه طالقًا قطعًا، فقوله:"أنت طالق في وقت قد مضى" ولم تكن فيه طالقًا إما إخبارٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل، وقد قيل: يقعُ عليه الطلاق ويلغو قوله: "أمس" لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وَصَلَ به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصح (3) ويقع لغوًا، وكذلك قوله:"أنت طالق طلقة قبلها طلقة" ليس فيه إيقاع
= و"الإحكام"(5/ 70) لابن حزم، و"روضة الناظر"(ص 324 - 334)، و"المسودة"(ص 497 - 506)، و"شرح اللمع"(43/ 102)، و"البحر المحيط"(6/ 241 - 253)، و"إرشاد الفحول"(ص 260 - دار الفكر).
(1)
انظر: "الأم"(5/ 198) و"معرفة السنن"(11/ 67 - 68)، و"مغني المحتاج"(3/ 302، 333، 334)، و"المهذب"(2/ 86).
(2)
سقط من (ق).
(3)
كذا في (ن) و (ق) و (ك) وفي سائر النسخ: "فلا يصلح".
الطلقة (1) الموصوفة بالقَبْلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الإيقاع، وإنما فيه إيقاع طلقتين إحداهما قبل الأخرى؛ فمن ضرورة قوله:"قبلها طلقة" إيقاعُ هذه السابقة أولًا ثم إيقاع الثانية بعدها؛ فالطلقتان إنما وقعتا بقوله: "أنت طالق" لم تتقدم إحداهما على زمن الإيقاع، وإن تقدمت على الأخرى تقديرًا، فأين هذا من التعليق المستحيل؟ فإن أبيتم وقلتم: قد وصل (2) الطلقة المنجّزة بتقدّم مثلها عليها، والسبب هو قوله: أنت طالق؛ فقد تقدم وقوع الطلقة المعلَّقة بالقَبْلية على المنجزة، ولما كان هذا نكاحًا صح، وهكذا قوله:"إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبلها ثلاثًا" أكثَرُ ما فيه تقدم الطلاقِ السابق على المنجز، ولكن المحل لا يحتملهما؛ فتدافعا وبقيت الزوجية بحالها، ولهذا لو قال:"إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قَبْله واحدة" صح لاحتمال المحل لهما.
فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة، ولم تسبق إحداهما إيقاعه، ولم يتقدم شرط الإيقاع؛ فلا محذور، وهو كما لو قال:"بعدها طلقة، أو معها طلقة" وكأنه قال: "أنت طالق طلقتين معًا، أو واحدة (3) بعد واحدة" ويلزم من تأخر واحدة (4) عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى، فلا إحالة، أما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقَصْدُه باطل، والتعبير عنه إن كان خبرًا فهو كذبٌ، وإن كان إنشاءً فهو منكرٌ؛ فالتكلّمُ به منكرٌ من القول وزور (5) في إخباره، منكر في إنشائه، وأما كون المعلق تمام الثلاث فههنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما وهما وجهان في مذهب أحمد (6) والشافعي رضي الله عنهما (7):
أحدهما: يصح هذا التعليق ويقع المنجز والمعلق، وتصير المسألة على وزان ما نص عليه الشافعي من قوله:"إذا مات زيد فأنت طالق قبله بشهر" فمات بعد شهر، فهكذا إذا قال:"إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة" ثم مضى زمن تمكن فيه القَبْلية ثم طلقها تبينَّا وقوع المعلق في ذلك الزمان وهو متأخر عن الإيقاع؛ فكأنه قال: "أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقًا" فهو تطليق في زمن متأخر.
(1) في (ق): "للطلقة".
(2)
في (ك) و (ق): "وصف".
(3)
في (ك) و (ق): "وواحدة".
(4)
في (د): "واحدًا".
(5)
في (ق): "وزور زور".
(6)
"المغني"(7/ 164)،"كشاف القناع"(5/ 333).
(7)
انظر ما مضى قريبًا.
والقول الثاني: أن هذا محال أيضًا، ولا يقع المعلق؛ إذ حقيقته أنت طالق في الزمن السابق على تطليقك تنجيزًا أو تعليقًا فيعود إلى (1) سبق الطلاق للتطليق، وسبق الوقوع للإيقاع (2)، وهو حكمٌ بتقديم (3) المعلول على علَّته.
يوضحه أن قوله: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله" إما أن يريد طالق قبله بهذا الإيقاع أو بإيقاعٍ متقدم. والثاني ممتنع، لأنه لم يسبق هذا الكلام منه شيء. والثاني لأنه يتضمن (4):"أنت طالق قبل أن أطلقك" وهذا عين المحال. فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر مأخذها، وقد تبين أن مسألة الشافعي هذه لون وهي لون آخر (5).
وأما قولكم: "إن الحُكمَ لا يجوز تقدمه على علّته، ويجوز تقدمه على شرطه (6) كما يجوز تقدمه على أحد سببيه -إلى آخره" فجوابه أن الشرط إما أن يوجد جزءًا من المُقْتضى أو يوجد خارجًا عنه، وهما قولان للنُّظار، والنزاع لَفْظِيٌّ؛ فإن أريد بالمقتضى التام فالشرط جزءٌ منه، وإن أريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرط وعدم مانعه فالشرطُ ليس جزءًا منه، ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه، والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة، والأولى (7) طريقة المانعين من التخصيص، وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط؛ لأنه يستلزم وقوع الحكم بدون سببه التام؛ فإن الشرط إن كان جزءًا من المقتضى فظاهرٌ، وإن كان شرطًا لاقتضائه فالمعقق على الشرط [لا](8) يوجد (9) عند عدمه، وإلا لم يكن شرطًا؛ فإنه لو كان يوجد بدونه لم يكن شرطًا، فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام، فإن سببه لا يتم إلا بالشرط، فعاد الأمر إلى سبق الأثر لمؤثره والمعلول لعلته، وهذا محال، ولهذا لما لم يكن لكم حيلةَ في دَفْعه وعلمتم لزومه فررتم إلى ما لا يُجْدِي عليكم شيئًا، وهو جَعلُ
(1) في (ن) و (ق): "على".
(2)
في (ق): "الإيقاع للوقوع".
(3)
في (ك) و (ق): "بتقدم".
(4)
كذا في (ن) و (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ:"والثاني كذلك؛ لأنه لا يتضمن".
(5)
كذا في (ن) و (ق) و (ك). وفي سائر النسخ: "أن مسألة الشافعي لون وهذه لون آخر".
(6)
في (ن): "على أحد شرطه"، وفي (ق):"على أحد شرطيه".
(7)
في (ك) و (ق): "الأول".
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك)، وفي هامش (ق):"لعله: لا".
(9)
في (ك): "يوجده".
الشرط مجرد علامة ودليل ومعرِّف، وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطًا وإبطال لحقيقته؛ فإن العلامة والدليل والمعرف ليست شروطًا في المدلول المعرَّف، ولا يلزم من نفيها نفيه، فإن الشيء يثبت بدون علامةٍ ومعرِّف له، والمشروط ينتفي لانتفاء شرطه وإن لم يوجد لوجوده. وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والأمارة المَحْضَة وأن حقيقة أحدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه، وإن كان قد يقال: إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول، فذاك أمر وراء الشرط في الوجود الخارجي، فهذا شيء وذاك (1) شيءٌ آخر، وهذا حقٌّ، ولهذا ينتفي العلم بالمدلول عند انتفاء دليله، ولكن هل يقول أحد: إن المدلول ينتفي لانتفاء دليله؟
فإن قيل: نعم، قد قاله غير واحد، وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله.
قيل: نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله، فدليلُه موجِبٌ لثبوته، فإذا انتفى الموجِب انتفى الموجَب، ولهذا [يقال:] (2) لا موجِبَ فلا موجَبَ، أما شرط (3) اقتضاء السبب لحكمه فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه، ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيًا بدون شرطه، وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته، وهو محال.
وأما تقديم الحكم على أحد سببيه في الصورة التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين، أو تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الأخرى؛ فالتنظير به مَغْلَطة (4)؛ فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه، وهذا محال، وإن وقع تسامحٌ في عبارة الفقهاء، فإن انقضاء الحول مثلًا والحنثُ والموتُ بعد الجرح شرطٌ للوجوب (5)، ونحن لم نقدِّم الوجوبَ على شرطه ولا سببه، وإنما قدَّمنا فعلَ الواجب. والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب، وبين تقدم أداء الواجب، فظهر أن هذا وهم أو إيهام (6)، وقد ظهر أن تقديمَ شَرْط علة الحكم وموجبه على (7) الحكم أمرٌ ثابت عقلًا وشرعًا، ونحن لم نأخذ ذلك عن نصِّ أهل اللغة حتى تطالبونا بنقله، بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من أحكامه. وليس ذلك متلقَّى من [أهل](8)
(1) كذا في (ن)، وفي غيرها:"وذلك".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
في (ق): "لشرط" بدل "أما شرط".
(4)
في (ق): "مغالطة".
(5)
في (ق): "بشرط الوجوب".
(6)
في (ن) و (ك) و (ق): "وهم وإيهام".
(7)
في (ق): "وموجب علة الحكم".
(8)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك).