الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حيلة في الخلاص مما سبق به اللسان]
المثال الحادي (1) والستون: إذا سبق لسانُه بما يؤاخذ به في الظاهر ولم يرد معناه، أو أراده ثم رجع عنه وتاب منه، أو خاف أن يشهد عليه به شهود زور ولم يتكلم به، فرفع إلى الحاكم وادعى عليه به، فإن أنكر شهدوا عليه. وإن أقرَّ حكم عليه، ولا سيما إن كان لا يرى قبول التوبة من ذلك، فالحيلة في الخلاص أن لا يقر به ولا ينكر، فيشهد عليه الشهود، بل يكفيه في الجواب أن يقول:"إن كنت قلته فقد رجعت عنه، وأنا تائب إلى اللَّه منه" وليس للحاكم بعد ذلك أن يقول: لا أكتفي منك بهذا الجواب، بل لا بد من الإقرار أو الإنكار، فإن هذا جواب كافٍ في مثل هذه الدعوى، وتكليفه بعد ذلك [خطة الخسف](2) بالإقرار -وقد يكون كاذبًا فيه، أو الإنكار وقد تاب منه بينه وبين اللَّه تعالى، فيشهد عليه الشهود- ظلم (3) وباطل؛ فلا يحل للحاكم أن يسأله بعد هذا هل وقع منك (4) ذلك أو لم يقع، بل أبلغ من هذا لو شهد عليه بالردة فقال:"لم أزل أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه منذ عَقَلْت وإلى الآن" لم يُسْتَكْشف عن شيء، ولم يسأل لا هو ولا الشهود عن سبب ردته، كما ذكره الخرقي في "مختصره"(5) وغيرُهُ من أصحاب الشافعي، فإذا ادعى عليه بأنه قال كذا وكذا فقال:"إن كنت قلته فأنا تائب إلى اللَّه منه" أو: "قد (6) تبت منه" فقد اكتفى منه بهذا الجواب، ولم يكشف عن شيء منه (7) بعد ذلك.
[هل يجوز تعليق التوبة بالشرط
؟]
فإن قيل: هذا تعليق للتوبة أو الإسلام بالشرط، ولا يصح تعليقه بشرط.
قيل: هذا من قلَّة فقه مُورِدِه؛ فإن التوبة لا تصح إلا على هذا الشرط، تلفظ به أو لم يتلفَّظ به، وكذلك تجديدُ الإسلام لا يصح إلا بشرط أن يوجَدَ ما يناقضه فتلفظه بالشرط تأكيد لمقتضى عقد التوبة والإسلام، وهذا كما إذا (8) قال: "إن
(1) في (ك) و (ق): "التاسع والخمسون".
(2)
بدل ما بين المعقوفتين بياض في (ق)، وفى (ك):"حَظه الحسف".
(3)
قبلها في (ق) بياض ثم: "وظلم".
(4)
في (ق) و (ك): "منه".
(5)
(12/ 286 - 287، مع "المغني" - ط هجر).
(6)
في (ك) و (ق): "فقد".
(7)
سقط من (ك) و (ق).
(8)
في (ق): "لو".
كان هذا ملكي فقد بعتك إياه" فهل يقول أحد: إن هذا بيع معلق بشرط فلا يصح؟ وكذلك إذا قال: "إن كانت هذه امرأتي فهي طالق" لا يقول أحد: إنه طلاق معلق، ونظائره أكثر من أن تذكر، وقد شرع اللَّه سبحانه لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد، حتى بينه وبين ربه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير وقد شَكَتْ إليه وقت الإحرام، فقال: "حُجِّي واشترطي على ربك فقولي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن لك ما اشترطت على ربك" (1) فهذا شرط مع اللَّه في العبادة، وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الأمة إليه، ويفيد شيئين: جواز التحلل (2)، وسقوط الهَدْي، وكذلك الداعي بالخيرة يشترط على ربه في دعائه، فيقول: اللهم إن كان هذا الأمر خيرًا لي في ديني ومَعَاشي وعاقبة أمري [عاجله وآجله](3) فاقْدُرْهُ لي ويسره لي (4)، فيعلق طلب الإجابة بالشرط لحاجته إلى ذلك لخفاء المصلحة عليه. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه أيما رجل سَبَّهُ أو لعنه وليس لذلك بأهل أن يجعلها كفارة له وقربة يقربه بها إليه (5)، وهذا تعليق للمدعو به بشرط الاستحقاق. وكذلك المصلِّي على الميت شرع له تعليق الدعاء بالشرط، فيقول: اللهم أنت أعلم بسره وعلانيته، وإن كان محسنًا فتقبل حسناته، وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته (6)؛ فهذا طلب للتجاوز عنه
(1) أخرجه البخاري (5089) في "النكاح": باب الإكفاء في الدين، ومسلم (1207) في "الحج": باب جواز اشتراط المحرم التحلل، من حديث عائشة.
ورواه مسلم (1208) من حديث ابن عباس.
(2)
في (ن): "جواز التحليل"!
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك).
(4)
هو جزء من حديث الاستخارة، أخرجه البخاري (6382) "كتاب الدعوات": باب الدعاء عند الاستخارة وطرفاه في (1162، 7390).
(5)
ورد هذا من حديث عدد من الصحابة: منها حديث أبي هريرة: رواه البخاري (6361) في (الدعوات): باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة"، ومسلم (2601) بعد (89) و (90) في (البر والصلة): باب من لعنه النبي صلى الله عليه وسلم أو سبّه. . .
ومن حديث عائشة: رواه مسلم (2600)، ومن حديث جابر رواه مسلم أيضًا (2602)، ومن حديث أنس رواه مسلم (2603)، وفي (ك):"تقربها إليه".
(6)
رواه أحمد في "مسنده"(2/ 256 و 345 و 363 و 459)، وأبو داود (3200) في (الجنائز): باب الدعاء للميت وابن أبي شيبة (3/ 292 و 10/ 410)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(1076 و 1078)، والطبراني في "الدعاء"(1178 و 1179 و 1180 و 1182 - 1185)، والبيهقي في "الكبرى"(4/ 42)، وقد وقع في إسناده اضطراب لكن قال =
بشرط، فكيف يمنع تعليق التوبة بالشرط؟ وقال شيخنا: كان يشكل عليَّ أحيانًا حالُ مَنْ أصلِّي عليه [من](1) الجنائز، هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: يا أحمد الشرط الشرط، أو قال: علق الدعاء بالشرط، وكذلك أرشد أمته صلى الله عليه وسلم (2) إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط فقال:"لا يتمنى (3) أحدكم الموتَ لضر نزل به، ولكن ليَقُلْ: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"(4). وكذلك قوله في الحديث الآخر: "وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفني إليك غيرَ مفتون"(5)
= الطبراني بعد (1184): لم يضبط أبو بلج ولا شعبة إسناد هذا الحديث وأثبته عبد الوارث.
أقول: طريق عبد الوارث الذي أشار إليه: رواه عن أبي الجلاس عقبة بن سيار: حدثني علي بن شماخ قال: شهدت مروان سأل أبا هريرة: كيف سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة؟. . . فذكره.
ورجاله ثقات غير علي بن شماخ، قال فيه الحافظ في "التقريب": مقبول: وهو لم يوثقه إلا ابن حبان وهو متابع، لكن في أسانيده اضطراب كما ذكرت، ومع هذا فقد حسنه الحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات الربانية"(4/ 176).
وقد صح عن أبي هريرة قوله، أخرجه مالك (1/ 228 - رواية يحيى و 1016 - رواية أبي مصعب و 164 - 165 رواية محمد بن الحسن) -ومن طريقه عبد الرزاق (6425) والقاضي إسماعيل في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم"(رقم 93) - وله حكم الرفع، وانظر "جلاء الأفهام"(518 - 519/ بتحقيقي) وللحديث شواهد عديدة، انظرها في "أحكام الجنائز"(ص 158 - 159).
(1)
ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك).
(2)
في (ق): "أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته".
(3)
في (ق): "يتمنين".
(4)
رواه البخاري (5671) في "الرضى": باب تمني المريض للموت، و (6351) في "الدعوات": باب الدعاء بالموت والحياة، و (7233) في "التمني" باب ما يكره من التمني، ومسلم (2680) في (الذكر والدعاء): باب كراهة تمني الموت لضر نزل به من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
هو جزء من حديث اختصام الملأ الأعلى، اختلف في أسانيده اختلافًا كثيرًا، لا أريد الإطالة بذكره، ذكره ابن أبي حاتم في "العلل"(1/ 25)، وقال محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" -كما في "النكت الظراف" (4/ 382) -: هذا حديث اضطرب الرواة في إسناده، وليس يثبت عن أهل المعرفة.
وقال الدارقطني في "علله"(6/ 75): ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة، ونحوه قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية"(1/ 34).
ولابن رجب رسالة مفردة في طرقه وشرحه، وهي مطبوعة.
وورد هذا الجزء في حديث أوله: "اللهم إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات. . .". =