الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يريد به طلاقًا ماضيًا أو مقارنًا للمتكلَّم به أو مستقبلًا؛ فإن أراد الماضي أو المقارن وقع لأنه لا يعلق على الشرط، وإن أراد المستقبل -ومعنى كلامه إن شاء اللَّه أن تكوني في المستقبل طالقًا فأنت طالق- وقع أيضًا؛ لأن مشية اللَّه بطلاقها (1) الآن يوجب طلاقها في المستقبل، فيعود معنى الكلام إلى أنّي إنْ طلَّقتك الآن بمشيئة اللَّه فأنت طالق، وقد طلَّقها بمشيئته، فتطلق؛ فههنا ثلاث دعاوي:
أحداها (2): أنه طلقها.
والثانية (3): أنَّ اللَّه شاء ذلك.
الثالثة: أنها قد طلقت؛ فإن صحَّت الدعوى الأولى صحت الأخريان (4)، وبيان صحتها أنه تكلم بلفظ صالح للطلاق، فيكون طلاقًا وبيان الثانية أنه حادث؛ فيكون (5) بمشيئة اللَّه، فقد شاء اللَّه طلاقها فتطلق، فهذا غاية ما تمسك به الموقعون.
[جواب المانعين وإثبات أن الاستثناء يمنع وقوع الطلاق]
قال المانعون: أنتم معاشر الموقعين قد ساعدتمونا على صحة تعليق الطلاق بالشرط، ولستم ممن يبطله كالظَّاهرية وغيرهم كأبي عبد الرحمن الشافعي، فقد كفيتمونا نصف المؤنة، وحَمَلتم عنا كلفة الاحتجاج لذلك، فبقي الكلام معكم في صحة هذا التعليق المعيَّن، هل هو صحيح أم لا؟ فإن ساعدتمونا على صحة التعليق قرُب الأمر، وقطعنا نصف المسافة الباقية.
ولا ريب أن [هذا](6) التعليق صحيحٌ؛ إذ لو كان محالًا لما صح تعليق اليمين والوعد والنَّذر وغيرهما بالمشيئة، ولكان ذلك لغوًا لا يفيد، وهذا بيِّن البطلان عند جميع الأمَّة، فصح التعليق حينئذ فبقي بيننا وبينكم منزلة أخرى، وهي [أنه](7) هل وجود هذا الشرط ممكن أم لا؟
فإن ساعدتمونا على الإمكان ولا ريب في هذه المساعدة قربت المسافة جدًّا وحصلت المساعدة على أنه طلاق معلَّق صحّ تعليقه على شرط ممكن، فبقيت منزلة أخرى، وهي أنَّ تأثير الشرط وعمله يتوقف على الاستقبال أم لا يتوقف [عليه](7) بل يجوز تأثيره في الماضي والحال والاستقبال؟
(1) في (ق) و (ك): "لطلاقها".
(2)
في (ق): "أحدها".
(3)
في (ق): "الثانية".
(4)
في (ق): "الآخرتان".
(5)
في (ك): "ويكون".
(6)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(7)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
فإن ساعدتمونا على توقف تأثيره على الاستقبال، وأنه لا يصح تعلقه (1) بماض ولا حال -وأنتم بحمد اللَّه على ذلك مساعدون- بقي بيننا وبينكم منزلة واحدة، وهي أنه هل لنا سبيل إلى العلم بوقوع هذا الشرط فيترتب المشروط عليه عند وقوعه، أم لا سبيل لنا إلى ذلك البتة، فيكون التعليق عليه تعليقًا على ما لم يجعل اللَّه لنا طريقًا إلى العلم به؟ فههنا معترك النزال، ودعوة الأبطال، فنَزَالِ نَزَال، فنقول:
من أقبح القبائح، وأبْيَن الفضائح، التي تشمئز منها قلوب المؤمنين، وتنكرها فطر العالمين، ما تمسَّك به بعضكم (2)، وهذا لفظه بل حُرُوفه (3)، قال: لَنا أنَّه علَّق الطلاق بما لا سبيل لنا إليه فوجب أن يقع؛ لأن أصله الصفات المستحيلة، مثل قوله:"أنت طالق إنْ شاء الحَجَرُ" أو "إنْ شاء الميتُ"، أو "إن شاء هذا المجنون المطبق الآن"، فيالك من قياس ما أفسده، وعن طريق الصواب ما أبعده! وهل يستوي في عقل أو رأي أو نظر أو قياس مشيئة الرب جل جلاله، ومشيئة الحجر والميت والمجنون (4) عند أحد من عقلاء الناس؟ وأقبحُ من هذا -واللَّه المستعان، وعليه التكلان، وعياذًا به (5) من الخذلان، ونزغات الشيطان- تمسّك بعضهم بقوله:"علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ لا تُعلم مشيئته فلم يصح التعليق"(6)، كما لو قال:"أنت طالق إن شاء إبليس"، فسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك (7)، ولا إلهَ غيرُك، وعياذًا بوجهك الكريم، من هذا الخذلان العظيم، ويا سبحان اللَّه! لقد كان لكم في نصرة هذا القول غنًى عن هذه الشبهة الملعونة في (8) ضروب الأقيسة، وأنواع المعاني والإلزامات فسحة ومتسع، واللَّه شرف نفوس الأئمة الذين رفع اللَّه قدرهم، وشاد في العالمين ذكرهم، حيث يأنفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات التي تسودُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلُّ بقمر الإيمان المحاقَ، وعند هذا فنقول:
علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ جميعُ الحوادث مستندةٌ إلى مشيئته، وتُعْلَم مشيئته عند وجود كل حادث أنه إما وقع بمشيئته، فهذا التعليق من أصح التعليقات، فإذا أنشأ المعلِّق طلاقًا في المستقبل تبينّا وجود الشرط بإنشائه فوقع؛ فهذا أمر معقول شرعًا وفطرة، وقدرًا وتعليق مقبول.
(1) في (ق): "تعليقه".
(2)
في (ق): "بعضهم".
(3)
المذكور في "الذخيرة البرهانية"(ق 104/ ب) بالحرف.
(4)
في (ق): "والمجنون والميت".
(5)
في (ك): "باللَّه".
(6)
في (ق): "فلا يصح التعليق".
(7)
"أصل الجد: الحظ والسعادة والغنى"(و).
(8)
في (ق): "وفي".
يبينه أن قوله: إن شاء اللَّه لا يريد به إن شاء اللَّه طلاقًا (1) ماضيًا قطعًا بل إما أن يريد به هذا الطلاق الذي تلفَّظ به، أو طلاقًا مستقبلًا غيره، فلا (2) يصح أن يراد به هذا الملفوظ، فإنه لا يصح تعليقه بالشرط، إذ الشرط إنما يؤثر في الاستقبال، فحقيقةُ هذا التعليق: أنت طالق إن شاء اللَّه طلاقَكِ في المستقبل، ولو صرح بهذا لم تطلق حتى ينشئ لها طلاقًا آخر.
ونقرره (3) بلفظ آخر فنقول: علَّقه بمشيئة مَنْ له مشيئة صحيحة معتبرة، فهو أولى بالصحة من تعليقه بمشيئة آحاد الناس، يبيّنه أنه لو علَّقه بمشيئة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في حياته لم يقع في الحال، ومعلوم أن ما شاءه اللَّه (4) فقد شاءه رسوله، فلو (5) كان التعليق بمشيئة اللَّه موجبًا للوقوع في الحال؛ لكان التعليق بمشيئة رسوله في حياته كذلك، وبهذا يبطل ما عوَّلتم عليه.
وأما قولُكم: "إن اللَّه تعالى قد شاء الطلاق حين تكلّم به المكلّف (6) " فنعم إذا؛ لكن شاء الطلاق المُطْلَق أو المعلّق؟ ومعلوم أنه لم يقع منه طلاق مُطْلَق، بل الواقع منه طلاق معلَّق على شرط، فمشيئة اللَّه [سبحانه له](7) لا تكون مشيئة للطلاق المُطْلَق، فإذا طلَّقها بعد هذا علمنا أن الشرط قد وجد، وأن اللَّه قد شاء طلاقها فطلقت.
وعند هذا فنقول: لو شاء اللَّه أن يطلق (8) العبد لأنطقه بالطلاق مطلقًا من غير تعليق ولا استثناء، فلما أنطقه به مقيَّدًا بالتعليق والاستثناء، علمنا أنه لم يشأ له الطلاق المنجز، فإن ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومما يوضح هذا الأمر أن مشيئة اللفظ لا تكون مشيئة الحكم حتى يكون اللفظ صالحًا للحكم، ولهذا لو تلفظ المكره أو زائلُ العقل أو الصبي أو المجنون بالطلاق، فقد شاء اللَّه منهم وقوع اللفظ، ولم يشأ وقوع الحكم، فإنه لم يرتب على ألفاظ هؤلاء أحكامها لعدم إرادتهم لأحكامها فهكذا المعلِّقُ طلاقَه بمشيئة اللَّه يريد (9) أن لا يقع طلاقه، وإن كان اللَّه قد شاء [له](10) التلفظ بالطلاق، وهذا في غاية الظهور لمن أنصف.
(1) في المطبوع: "طلاقها".
(2)
في (ق): "ولا".
(3)
في (ق): "ويفرده".
(4)
في (ق): "ما شاء اللَّه".
(5)
في (ق): "ولو".
(6)
في المطبوع: "تكلم المكلف به".
(7)
بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "تعالى".
(8)
في المطبوع: "يُنْطق".
(9)
في (ك) و (ق): "مريد".
(10)
ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).