الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدهما: إبطال استدلالكم به على جواز الحيل (1).
وثانيهما (2): بيان دلالته على نقيض مطلوبكم؛ إذ هذا شأن كل دليل صحيح احتج به محتج على باطل؛ فإنه لا بد أن يكون فيه ما يدل على بطلان قوله ظاهرًا أو إيماءً، مع عدم دلالته على قوله.
[بحث في دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام]
فأمَّا المقام الأول فنقول: غاية ما دل الحديث [عليه](3) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى بثمنٍ ثم يبتاع بثمنها تمرًا آخر، ومعلوم قطعًا أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن في العقد الباطل؛ فلا بد أن يكون العقد الذي أذن فيه صحيحًا، والشأن كل الشأن في العقد المتنازع فيه؛ فلو سلم لكم المنارعُ صحته لاستغنيتم عن الاستدلال بالحديث، ولا يمكن الاستدلال [بالحديث] (4) على صحته؛ لأنه ليس بعام؛ فإن قوله:"بع" مطلق لا عام؛ فهذا البيع لو كان صحيحًا متفقًا على صحته لم يكن هناك لفظ عام يحتج به على تناوله، فكيف وهذا البيع مما قد دلت السنة الصحيحة وأقوالُ الصحابة والقياسُ الصحيح على بطلانه كما تقدم؟ ولو اختلف رجلان في بيعٍ هل هو صحيح أو فاسد، وأراد كل واحد منهما إدخاله في هذا اللفظ؛ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا المطلق؛ فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع ألبتة.
ونكتة الجواب أن يقال: الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ومَنْ سلَّم لكم أن هذه الصورة التي تَوَاطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعلا (5) السلعة الدخيلة محللًا له غير مقصودة بالبيع بيعٌ صحيح؟ واذا كان الحديث ليس فيه عموم، وإنما هو مطلق، والأمر بالحقيقة المطلقة لشى أمرًا بشيء من صُورَها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد، والقَدْر المشترك ليس هو ما (6) يميز به كل واحد من الأفراد عن (7) الآخر، ولا هو مستلزمًا له؛ فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال، وإن كان مستلزمًا لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون
(1) في (ك): "التحيل".
(2)
في (ك) و (ق): "والثاني".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(5)
كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "وجعل".
(6)
في (ك) و (ق): "مما".
(7)
في (ك): "على".
عامًا لها على سبيل البَدَل، لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع (1)، وهو المطلق (2) في قوله:"بع هذا الثوب" لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا أو كذا، ولا بهذه السوق أو هذه؛ فإن اللفظ لا دلالة له على شيء [من شيء](3) من ذلك، إذا أتى بالمسمَّى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة [وجود](4) تلك القيود، وهذا الأمر لا خلاف فيه، لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إِلا بقرينة وهو خطأ، والصواب أن القيود لا تنافي الأمر ولا تستلزمه، وإن كان لزوم بعضها لزومًا عقليًا ضرورة وقوع القدر المشترك في ضمنِ قيدٍ من تلك القيود، وإذا تبين هذا فليس في الحديث أمره أن يبيع التمر لبائع النوع الآخر ولا لغيره ولا بحلولٍ ولا بأجلٍ (5) ولا بنقدِ البلد ولا غيره (6) ولا بثمن المثل أو غيره، وكل هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعمٌ أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها، وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بثمن مؤجَّل أو بغير نقد البلد من العُرْفِ الذي ثبت للبيع المطلق، وكذلك ليس في اللفظ ما يدل على أنه يبيعه من البائع بعينه ولا غيره، كما ليس فيه ما يمنعه، بل كل واحد من الطرفين يحتاج إلى دليل خارج عن اللفظ المُطْلق؛ فما (7) قام الدليل على إباحته أبيح فعله بالدليل الدال على جوازه لا بهذا اللفظ وما قام دليل على المنع منه لم يُعارَض دليلُ المنع بهذا اللفظ المطلق حتى يطلب الترجيح، بل يكون دليل المنع سالمًا عن المعارضة بهذا، فإن عورض بلفظ عام متناول لإباحته بوضع اللفظ له أو بدليل خاص صحت المعارضة؛ فتأمل هذا الموضع (8) الذي كثيرًا ما يغلط فيه الناظر والمناظر، وباللَّه التوفيق.
وقد ظهر بهذا جواب مَنْ قال: "لو كان الابتياع من المشتري حرامًا لنهى
(1) انظر في الفرق بين المطلق والعام: "كشف الأسرار"(1/ 312 - وما بعده) و"المدخل إلى علم أصول الفقه"(192 وما بعدها) للدواليبي، و"المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي"(573) للدريني، وتعليقي على "الخلافيات"(1/ 494).
(2)
في هامش (ق): "لعله: كالمطلق".
(3)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).
(5)
في المطبوع: "ولا تأجيل".
(6)
في (ك) و (ق): "بغيره".
(7)
في (ك): "فيما".
(8)
كذا في (ك) و (ق)، وفي سائر الأصول:"الوضع".
عنه" فإن مقصوده صلى الله عليه وسلم إنما كان لبيان (1) الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع (2) وموانعه؛ لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة، أو لأن المخاطب أحِيلَ على فهمه وعلمه بأنه إنما أُذِن له في بيعٍ يتعارفه الناس، وهو البيع المقصود في نفسه، ولم يُؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربًا صريح، وكان القوم أعلم باللَّه ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه أذِنَ لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيعٌ وباطنها ربًا، ونحن نشهد باللَّه أنه كما لم يأذن فيها بوجه لم يفهمها عنه أصحابه بخطابه بوجه، وما نظير هذا الاستدلال إِلا استدلال بعضهم على جواز أكل [كل] (3) ذي الناب والمخْلَب بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، واستدلال آخر بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] على جواز نكاح الزانية المُصِرَّة على الزنا، واستدلال آخَرَ على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ]} (4) [النور: 32]، واستدلال غيره به على صحة نكاح التحليل بذلك (5)، وعلى صحة نكاح المتعة، واستدلال آخر (6) على جواز نكاح المخلوقة من مائهِ إذا كان زانيًا، ولو أن رجلًا استدل بذلك على [جواز] (7) نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأخَذَ يُعَارض به السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال، بل لو استدل به على كل نكاح حرَّمته السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال، وكذلك قوله: "بع الجمع" (8) لو استدل به مستدلٌ على بيع من البيوع المتنازع فيها لم يكن فيه حجة، وليس الغالب (9) أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يُقال: هذه الصورة غالبة فيُحمل اللفظ عليها، ولا هو المتعارف عند الإطلاق عرفًا وشرعًا. وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها من اللفظ ممتنع، وإرادتها مع غيرها فرعٌ على عمومه، ولا عُمُومَ له، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفًا وشرعًا، وعلى التقديرات كلها لا تدخل هذه الصورة.
(1) في (ق): "بيان".
(2)
في (ك): "المبيع".
(3)
ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.
(4)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).
(5)
في (ن) و (ق): "نكاح المحلل".
(6)
في (ن) و (ك) و (ق): "آخرين".
(7)
ما بين المعقوفتين سقط من (ك).
(8)
في (د) و (ط): "بع الجميع"! وهو خطأ كما تقدم.
(9)
في المطبوع: "بالغالب".
ومما يدل على ذلك أن هذه الصورة لا تدخل في أمر الرجل لعبده وولده ووكيله أن يشتري له كذا، فلو قال:"بع هذه الحنطة العتيقة واشْتَرِ لنا جديدة" لم يفهم السامع إِلا بيعًا مقصودًا، وشراءً (1) مقصودًا، فثبت أن الحديث ليس فيه إشعار بالحيلة الربوية البتة.
يوضحه أن قوله: "بع كذا، واشتر كذا" أو "بعت، واشتريت" لا يفهم [منه](2) إِلا البيع الذي يُقْصَد به نَقلُ ملك المبيع نقلًا مستقرًا؛ ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المكرِه، ولا بيع الحيلة، ولا بيع العِينَةِ، ولا يعدُّ الناسُ من اتخذ خرزةً أو عرضًا يحلل به الرِّبا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصوده تاجرًا، وإنما يسمونه مرابيًا ومتحيلًا، فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي صلى الله عليه وسلم؟
يزيدهُ إيضاحًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوْكسُهُما أو الربا"(3) و"نهى عن بيعتين في بيعة"(4)، ومعلومٌ أنهما متى تواطَئَا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون ما نهى عنه داخلًا تحت ما أذن فيه (5).
يوضحه أيضًا أنه قال: "لا يحل سَلَفٌ وبيع، ولا شَرْطان في بيع"(6) وتواطؤهما على أن يبيعه السلعة بثمن ثم يشتري منه غيرها بذلك الثمن منطبق على لفظ الحديث؛ فلا يدخل ما أخبر أنه لا يحل تحت ما أذن فيه.
يوضحه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا"(7) وهذا يقتضي بيعًا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معًا؛ فلا يكون الثاني عقدًا مستقلًا مبتدأ، بل هو من تتمّة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهرُ الحديثِ أنه أمر بعقدين مستقلين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه.
(1) في المطبوع و (ك): "أو شراء".
(2)
ما بين المعقوفتين سقط من (ق).
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سبق تخريجه.
(5)
قال في (د) و (ط): "في نسخة: "داخلًا فيما أذن فيه" (انظر: "إعلام الموقعين" ط المنيرية ج 3 ص 197) ". وما بين المعقوفتين زيادة (ط) على (د)، والنسخ المشار إليها هي (ن) و (ك) و (ق).
(6)
سبق تخريجه.
(7)
الحديث سبق تخريجه قريبًا، وفي (د) و (ط) و (ح):"بع الجميع"!!