الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحو الجسر رجل معه كتاب، قلنا: ما هذا؟ ، قال: هذا كتاب، قلنا: وما كتاب؟ ، قال: كتاب دانيال، فلولا أن القوم تحاجزوا لقتلوه، وقالوا: كتاب سوى القرآن؟ ! أكتاب سوى القرآن؟ ! » (1).
دواعي نقد الإسرائيليات:
لم يكن انتقاد الصحابة والتابعين للإسرائيليات غير ذي معنى، وإنما كانت له مبرراته ودواعيه الصحيحة المتفقة مع النصوص والقواعد الشرعية، ومنها ما يلي:
أولاً: الخشية من مزاحمة المرويات الإسرائيلية لما مع المسلمين من الكتاب والسنة؛ إذ الانشغال بها يؤثر - ولا بد - على ارتباط المسلم بكتاب ربه خاصة إذا وافق قصوراً في الحصيلة الشرعية عند بعض الناس، ولذلك لما ضرب عمر الرجل الذي نسخ كتاب دانيال قرأ عليه صدر سورة يوسف؛ تنبيهاً له على الاشتغال بقصص القرآن وأخباره عن غيرها.
ولما محا ابن مسعود الصحيفة اليهودية قال: «إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن، ولا تشغلوها بغيره» (2).
ثانياً: الخشية من تصديق أهل الكتاب والوثوق بأقوالهم والركون إليهم مع
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 162).
(2)
انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/ 42).
ثبوت التحريف والتبديل في كتبهم، وهذا جعل الصحابة يحذرون منهم، وينهون عن سؤالهم؛ ومن آثار الوثوق بالمرويات الإسرائيلية أنه يؤدي إلى تكذيب الحق وتصديق الباطل، وقد أشار ابن مسعود إلى ذلك بقوله:«فتكذبوا بحق وتصدقوا الباطل» .
ومن توابع ذلك تكذيب ما جاء في الكتاب والسنة ومعارضتهما بتلك المرويات.
ثالثاً: أن الصحابة ينتقدون من يتتبع الأخبار الإسرائيلية ويبحث عنها، ويهتم بمعرفتها، أو يكثر من التحديث بها مع وجود ما ينكر فيها:
فعمر رضي الله عنه ينهى كعب الأحبار عن التحديث بالأخبار الإسرائيلية كما سبق، لكنه في أثر آخر يسأله ويقول:«ما أول شيء ابتدأه الله من خلقه؟ فيقول كعب: كتب الله كتاباً لم يكتبه بقلم ولا مداد، ولكن كتبه بإصبعه يتلوها الزبرجد واللؤلؤ والياقوت: أنا الله لا إله إلا أنا، سبقت رحمتي غضبي» (1).
وقد ذكر ابن كثير أن كعباً لما أسلم في الدولة العمرية جعل يحدث عمر رضي الله عنه من كتبه القديمة، فربما استمع له، فترخص الناس في استماع ما عنده ونقلوا عنه الروايات غثها وسمينها (2).
فكأن عمر - والله أعلم - استمع لكعب أول الأمر تأليفاً له، وبناء على
(1) جامع البيان (9/ 171).
(2)
تفسير القرآن العظيم (7/ 28).
الرخصة في ذلك، ثم لما أكثر من التحديث نهاه وقال له:«لتنتهين أو لألحقنك بأرض القردة» (1).
ويستفاد ذلك أيضاً من كلام عائشة رضي الله عنها في ابن عمرو، وقولها: إنه يتتبع الكتب، وتتبعه الكتب يفيد مزيد عنايته بها، فهي ليست مجرد رواية عابرة، وإنما تتبع واهتمام، وقد اشتهر ابن عمرو بالتحديث عن بني إسرائيل، فقد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما (2).
رابعاً: أن المستهدف من النقد بالدرجة الأولى عامة الناس ونقلة الأخبار ممن ليس لديهم الحصيلة العلمية الكافية للتعامل الصحيح مع الروايات الإسرائيلية، فلا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل، وقد يضعون تلك الروايات في غير موضعها، فتحدث خللاً في عقائدهم وتصوراتهم (3).
إن هؤلاء لو لم يطرق أسماعهم سوى الإذن بالتحديث عن بني إسرائيل لأصبح لهم شأن آخر مع الروايات الإسرائيلية، فقد يبالغون في التصديق بها واعتمادها، ويكثرون من تتبعها والاهتمام بها، ومما يدل على ذلك:
(1) انظر البداية والنهاية (11/ 371).
(2)
انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 366)، والبداية والنهاية (1/ 52، 3/ 546)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/ 14)، والزاملة هي: البعير التي يحمل عليها المتاع، والمراد أنه أصاب حملي بعير من كتب أهل الكتاب، انظر لسان العرب (3/ 1864) مادة "زمل".
(3)
انظر: البداية والنهاية (11/ 371)، والإسرائيليات في التفسير والحديث، د. الذهبي (76).
1 -
ما جاء عن ابن عباس في عدة روايات أنه سأل أهل الكتاب، وسبق تشديده في النهي عن سؤالهم، لكنه خاطب فيه عامة المسلمين فقال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب
…
إلخ (1).
2 -
وكعب الأحبار مع كونه من المكثرين من الأخبار الإسرائيلية يستشعر هذا الخطر فيقول: «عليكم بالقرآن فإنه أحدث الكتب عهداً بالرحمن» .
وفي رواية أخرى عنه أنه قال: «وإن الله تعالى قال في التوراة: يا موسى إني منزل عليك توراة حديثة، أفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً» (2).
وكأنه شعر بكثرة الأسئلة التي ترد إليه عما في الكتب السابقة، فأراد لفت انتباه المسلمين إلى أن ما بأيديهم أحسن من التوراة القديمة، والتي تعرضت للتحريف مع تقادم الزمن، وقد أنزل الله على المسلمين ما هو أحدث منها، فكيف يقبلون على القديم ويتركون الحديث؟ ! .
ووقوف العالم القوي ضد الإسرائيليات مؤثر في أتباعه، وقد ظهر ذلك جلياً في شدة موقف ابن مسعود رضي الله عنه من الإسرائيليات، وتأثر أتباعه بمنهجه، فقد اتقوا تفسير مجاهد لما رأوه يسأل أهل الكتاب.
(1) صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يسأل أهل الكتاب عن الشهادة وغيرها (3/ 163)، وانظر تفسير التابعين، د. الخضيري (2/ 886).
(2)
عزاه ابن حجر في فتح الباري (13/ 499) لابن أبي حاتم، وحسن إسناده.