الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعاً
نقد تفسير المتشابه
ورد في الكتاب والسنة ذم تتبع متشابه القرآن وطلب تأويله، فمن الكتاب العزيز قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1).
ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما تلا الآية السابقة: «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم» (2).
وعلى هذا المنهج سار السلف الصالح من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فحذروا من اتباع المتشابه وتأويله.
وكي ندرك - بوضوح - موقف الصحابة والتابعين من تفسير المتشابه وتأويله؛ ينبغي أولاً معرفة مفهومهم له.
(1) سورة آل عمران آية (7).
(2)
تقدم تخريجه (ص 32).
فأكثر تعريفات الصحابة والتابعين ومن بعدهم تتفق على أن المتشابه هو ما كان في معناه خفاء، وهذا موافق لمعنى المتشابه في اللغة؛ حيث يطلق على الملتبس، فيقال: اشتبهت الأمور وتشابهت: إذا التبست وأشبه بعضها بعضاً، ويقال: شبه عليه الأمر: إذا لبس عليه (1).
وإذا تأملنا تعريفات السلف الاصطلاحية للمتشابه أمكن تقسيمه إلى قسمين (2):
القسم الأول: المتشابه المطلق، وهو ما لا يتمكن أحد من تأويله، كأن يكون الله تعالى استأثر بعلمه، وهذا القول مروي - أيضاً - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (3).
وعلى هذا المعنى يحمل قول ابن عباس رضي الله عنهما عندما قسم التفسير إلى أربعة أوجه،
(1) أساس البلاغة (ص 320)، ولسان العرب (4/ 2190) مادة "شبه".
(2)
انظر هذا التقسيم في: مجموع الفتاوى (3/ 62، 13/ 144، 17/ 380 - 383)، والموافقات (3/ 315)، والتيسير في قواعد التفسير (ص 40)، وأصول في التفسير (ص 49).
(3)
انظر: زاد المسير (1/ 351)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 1251)، ومجموع الفتاوى (17/ 419)، وجابر بن عبد الله هو ابن رئاب الأنصاري السلمي، شهد بيعة العقبة الأولى، قال ابن عبد البر:«شهد بدراً، وأحداً، والخندق، وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أول من أسلم من الأنصار قبل العقبة الأولى» .
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 2/114)، والاستيعاب "بذيل الإصابة"(2/ 108)، وأسد الغابة (1/ 306).
فذكر منها: «وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه فهو كاذب» (1).
ويندرج تحت هذا القسم صور:
الصورة الأولى: حقيقة صفات الله والإحاطة بكنهها وكيفيتها، وهي متشابهة من هذه الجهة، أما من حيث معرفة معانيها ودلالتها فهي من المحكم، كما قال الإمام مالك عن الاستواء: الاستواء معلوم، والكيف مجهول (2).
ومما يدل على دخولها في المتشابه ما جاء عن طاوس قال: «سمعت رجلاً يحدث ابن عباس بحديث أبي هريرة هذا (3)، فقام رجل فانتفض، فقال: ما فرق
(1) تفسير عبد الرزاق (1/ 59)، وجامع البيان (1/ 70)، وأخرجه ابن جرير في (1/ 70)، وابن المنذر في تفسيره (1/ 131) عن ابن عباس مرفوعاً، ولفظه عند ابن جرير:«ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب» ، وذكر أن في إسناده نظراً، قال ابن كثير في تفسيره (1/ 18):«والنظر الذي أشار إليه في إسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي، فإنه متروك الحديث، لكن قد يكون إنما وهم في رفعه، ولعله من كلام ابن عباس» .
(2)
انظر تفصيل ذلك في: مجموع الفتاوى (3/ 57 - 59، 13/ 306، 17/ 373، 379، 426)، والرسالة التدمرية مع التحفة المهدية (ص 232) وما بعدها، والقواعد الكلية للأسماء والصفات (ص 303)، وسيأتي تخريج قول مالك قريباً.
(3)
هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فأما النار فإنهم يلقون فيها، وتقول: هل من مزيد؟ ، فلا تمتلئ حتى يضع رجله - أو قال: قدمه - فيها، فتقول: قط، قط، قط، فهنالك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض» ، أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب التفسير، باب:{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} (6/ 47 - 48).
هؤلاء يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟ ! » (1).
الصورة الثانية: ما أخبر الله به عن الساعة وأشراطها وما يقع فيها، فإنه لا يعلم وقته وقدره ونوعه وصفته إلا الله عز وجل (2).
الصورة الثالثة: الحروف المقطعة عند من يرى أنه لا سبيل إلى معرفة المراد بها، فابن عباس في بعض أقواله يرى أنها من المتشابه (3).
وعن داود بن أبي هند (4) قال: «كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور، فيقول: يا داود إن لكل كتاب سراً، وإن سر هذا القرآن فواتح السور فدعها، وسل
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 423)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 212)، قال الألباني في تعليقه عليه:«إسناده صحيح» ، وقوله:«ما فرق هؤلاء؟ ! » أي: ما خوفهم وفزعهم عند ذكر أحاديث الصفات، وانتفض الرجل استنكاراً للحديث والصفة المذكورة فيه؛ إما لأن عقله لم يحتمله، أو لاعتقاده عدم صحته، وأنكر عليه ابن عباس؛ لأن الواجب الإيمان والتسليم لما صح عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يحط به علماً. انظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 515)، والقول المفيد لابن عثيمين (2/ 304).
(2)
انظر: جامع البيان (5/ 199)، ومجموع الفتاوى (13/ 278، 17/ 372 - 373).
(3)
معالم التنزيل للبغوي (2/ 8).
(4)
هو داود بن دينار القشيري، أبو بكر البصري، رأى أنساً، وروى عن كبار التابعين، كان من حفاظ البصرة، قال الذهبي:«كان رأساً في العلم والعمل» ، توفي سنة (139 أو 140).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 2/20)، وتذكرة الحفاظ (1/ 146).
عما بدا لك» (1).
القسم الثاني: المتشابه النسبي الذي يتفاوت الناس في معرفته، فيعرفه بعضهم ويخفى على آخرين، ويندرج تحت هذا القسم صور:
الصورة الأولى: المنسوخ، والقول بأنه من المتشابه مروي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة والضحاك والسدي (2).
وقد سبق بيان مفهوم المنسوخ عند السلف وأنه أعم من المنسوخ الاصطلاحي، فيشمله ويشمل كل نص تُرك ظاهره لمعارض راجح، مثل: المطلق إذا جاء ما يقيده، والعام إذا جاء ما يخصصه، والمجمل إذا ورد ما يبينه.
ووجه كون هذه الثلاثة من المتشابه احتمالها أكثر من معنى، ووجود الاحتمال مظنة الاشتباه عند بعض الناس، وتوهم إرادة بعض المعاني، فإذا جاء التقييد والتخصيص والبيان رفع ما يتوهم دخوله في معنى الآية، ولذا عُدت هذه الأشياء قبل ورود مبيناتها من المتشابه.
وأما وجه دخول المنسوخ الاصطلاحي في المتشابه؛ فلأن الناس مأمورون بالإيمان المجمل به دون الوقوف على تفصليه بخلاف الناسخ، فإنهم مأمورون
(1) الدر المنثور (1/ 23) وعزاه لابن المنذر.
(2)
جامع البيان (5/ 193 - 196، 205).
بالعمل به، فيلزمهم معرفة تفصليه (1).
وجاء في كلام السدي ما يدل على أن المنسوخ بمعناه الواسع داخل في المتشابه، ففي قوله تعالى:{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} قال رحمه الله: «يتبعون المنسوخ والناسخ، فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مكان هذه الآية، فتركت الأولى وعمل بهذه الأخرى، هلاّ كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نسخت؟ ! ، وما باله يعد العذاب من عمل عملاً يعذبه في النار، وفي مكان آخر من عمله فإنه لم يوجب النار؟ » (2).
الصورة الثانية: ما احتمل أوجهاً من التأويل، وعدم القطع بأحد احتمالات التأويل يجعل الآية مشتبهة خفية المعنى عند من لم يقطع بشيء فيها، وقد صنف الطبري تحت هذه الصورة قول محمد بن جعفر بن الزبير (3) في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ، قال: «فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت
(1) انظر في ذلك: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 272، 14/ 101، 133، 17/ 388)، وإعلام الموقعين (1/ 35)، والموافقات (3/ 306، 344).
(2)
جامع البيان (5/ 205).
(3)
ابن العوام القرشي الأسدي، روى عن عمه عبد الله بن الزبير ولم يسمع منه، وروى عنه ابن إسحاق وابن جريج، وكان من فقهاء المدينة وقرائهم، وحديثه في الكتب الستة، توفي بعد سنة عشرٍ ومائة.
انظر: التاريخ الكبير (1/ 1/54)، وتهذيب التهذيب (3/ 530).
عليه، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق» (1).
والآيات التي تحتمل أكثر من وجه في التأويل يحتاج المفسر فيها إلى بعض المرجحات ليصل إلى المعنى المراد.
الصورة الثالثة: الآيات التي يظهر منها التعارض، وهذه تشتبه على بعض الناس، فلا يعرف - بدقة - وجه تأويلها، ولا يمكنه الوقوف على معناها الصحيح إلا بالنظر في الأدلة الأخرى للترجيح أو الجمع بينها (2).
ولما سأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن بعض الآيات التي ظاهرها التعارض، قال له ابن عباس:«إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت: ألقي على ابن عباس متشابه القرآن» (3).
ومما تقدم يتبين سعة مفهوم المتشابه عند الصحابة والتابعين، فهم يعتبرون كل ما أشكل معناه والتبس على بعض الناس فهمه متشابهاً، قال ابن تيمية: «ولهذا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يسمون ما أشكل على بعض الناس حتى فهم منه
(1) جامع البيان (5/ 197).
(2)
فتح القدير (1/ 317).
(3)
سيأتي ذكره كاملاً.
غير المراد متشابهاً» (1).
والتقسيم المتقدم للمتشابه من حيث معرفة تأويله.
وهناك تقسيم آخر للمتشابه من حيث حكم الخوض في تفسيره وتأويله، وهو مقصود البحث ومحط الاهتمام، وهو وثيق الارتباط بالتقسيم السابق؛ إذ لا يمكن معرفة الجائز من تأويل المتشابه من غير الجائز عند الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وغيرهم إلا بالتصور التام لمرادهم به.
والمتشابه الذي انتقد الصحابة والتابعون طلب تأويله، وعليه تحمل النصوص الواردة عنهم في ذمه هو:
* المتشابه المطلق الذي لا يمكن إدراك معناه، والمنع من تأويل هذا النوع ظاهر.
* والمتشابه النسبي الذي يتفاوت الناس في معرفته، وانتقاد الصحابة والتابعين لمن طلب تأويل هذا النوع ليس على إطلاقه، وإنما في بعض الحالات، كمن يبحث في معنى المتشابه أو يسأل عنه على سبيل التعنت وضرب القرآن بعضه ببعض؛ لا على سبيل الاسترشاد وطلب فهم المعنى، وحين ذم القرآن الكريم
(1) بيان تلبيس الجهمية (8/ 499)، وانظر: تأويل مشكل القرآن (ص 102)، والاعتصام (1/ 233)، والبرهان (2/ 200).
متبعي المتشابه ذكر صفتهم المنفرة عنهم، وهي زيغ قلوبهم وانحرافها، وذكر علتهم ومقصدهم في اتباع المتشابه، وهي اتباعه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وهذان الأمران - أعني زيغ القلوب وابتغاء الفتنة - يمنعان المرء من الوصول إلى المعنى الصحيح للآية (1).
ومن صور الفتنة التي يسعى إليها من يطلب تفسير المتشابه ويثير الأسئلة حوله: اتباع المتشابه للاستدلال به على أهوائه وآرائه، وتفسيره بما يتفق مع مذهبه ومعتقده، وفي المقابل مجادلة أهل السنة ومخاصمتهم به، والتشكيك في قناعات ومعتقدات عامة الناس، ومما يؤكد إرادته الفتنة أنه في مقابل اتباع المتشابه يدع الآيات الواضحة البينة المحكمة التي لا لبس فيه ولا غموض، ولا تحتاج إلى تكلف تأويلها، كمن يترك قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2)، وقوله تعالى:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (3)، وقوله:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} (4)، وقوله:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5)، فيدع هذه الآيات المحكمات الصريحة في
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 275).
(2)
سورة البقرة آية (163).
(3)
سورة طه من الآية (14).
(4)
سورة المؤمنون من الآية (91).
(5)
سورة الصمد الآيتان (3، 4).
وحدانية الله، ويزعم أن الله تعالى ثالث ثلاثة، أو أن المسيح ابن الله، ويستدل بالمتشابه من آيات الكتاب كقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (1)، وفي مثل هؤلاء نزل قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (2)، وهؤلاء النصارى لهم نظير من أهل البدع؛ فكم تركوا من الآيات المحكمات وتعلقوا ببعض المتشابه، وردوا بها نصوصاً صريحة صحيحة.
ومن أمثلة ذلك:
1 -
اتباعُ القدرية قوله تعالى: {
…
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (3)، وقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (4)، وتركُ الآيات التي بينتها، مثل قوله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (5).
2 -
اتباع الخوارج لقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (6)، وترك مبينه وهو
(1) سورة النساء من الآية (171).
(2)
انظر ما تقدم في التمهيد (ص 32)، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 277).
(3)
سورة فصلت من الآية (40).
(4)
سورة الكهف من الآية (29).
(5)
سورة الإنسان من الآية (30).
(6)
سورة الأنعام من الآية (57).