الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادساً: التدرج في تعلم التفسير
.
اتبع الصحابة والتابعون في تعلم تفسير القرآن منهجاً فريداً، حيث كانوا يتعلمونه شيئاً فشيئاً، وآية آية، فكانوا لا يتجاوزون قدراً يسيراً من الآيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، ثم ينتقلوا إلى غيرها، وقد ساعدهم هذا التدرج على فهم القرآن والتأمل في آياته، والوقوف على المعاني الصحيحة لها، ويصف ابن مسعود رضي الله عنه هذه الطريقة بقوله:«كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن» (1).
وعن أبي عبد الرحمن السلمي (2): «حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى، حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قالوا: فعلمنا العلم
(1) أخرجه ابن جرير في جامع البيان (1/ 74) وصححه في (1/ 83)، والحاكم في المستدرك (1/ 557).
(2)
هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة السلمي الكوفي المقرئ، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قرأ على عثمان وعلي وحدث عن عمر، وقرأ عليه عاصم وابن وثاب، أقرأ في خلافة عثمان إلى أن توفي عام (74 أو 73).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 119)، والمعرفة والتاريخ (2/ 589)، ومعرفة القراء الكبار (1/ 52).
والعمل» (1).
وهذه الطريقة في تعلم القرآن لها أثر في فهمه، والإلمام بتفاصيل أحكامه، والوقوف على بديع أسراره ومعانيه، والإنسان إنما يُؤتى من قبل العجلة وعدم التريث في فهم النصوص.
ولكون هذه الطريقة هي المتبعة لديهم يمكث أحدهم في تعلم السورة الواحدة مدة طويلة (2)، فقد مكث ابن عمر رضي الله عنهما في سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها (3)، ويدل هذا على أن الأمر عندهم لم يكن مجرد حفظ للآيات دون فهم وتعلم لفقهها، وإلا لما بقي ابن عمر هذه المدة الطويلة في سورة واحدة مع ما مَنَّ الله عليهم من قوة الحفظ وحدة الذاكرة، فلم يكن صنيع ابن عمر لبطء حفظه أو ضعف ذاكرته، وإنما لأنه كان يتعلم فرائضها وأحكامها وما يتعلق بها (4).
(1) مسند الإمام أحمد (5/ 410)، ومصنف عبد الرزاق (3/ 380)، والطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 119)، ومصنف ابن أبي شيبة (10/ 460)، وجامع البيان (1/ 74).
(2)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 331).
(3)
رواه مالك بلاغاً كما في الموطأ، رواية يحيى الليثي (1/ 282)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/ 511)، ووصله ابن سعد في الطبقات الكبرى (4/ 121)، لكن ذكر أنه تعلمها في أربع سنين، وفي شعب الإيمان للبيهقي (4/ 512) عن ابن عمر قال:«تعلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما أتمها نحر جزوراً» ، وانظر الدر المنثور (1/ 21).
(4)
تنوير الحوالك للسيوطي (1/ 208).
ولارتباط الحفظ بالفهم والعمل كان الصحابة ينظرون لمن يحفظ سورة البقرة وآل عمران نظرة إجلال وتقدير، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ فينا، أي: عظم، وفي رواية أخرى: يعد فينا عظيماً (1).
سابعاً: التدبر لكتاب الله والتأمل في معانيه:
والتدبر للقرآن الكريم إلى جانب كونه يفيد القارئ في اتعاظه بالقرآن، وانتفاعه بأوامره ونواهيه وزواجره، فإنه يفتح له آفاقاً أوسع في فهم القرآن، ويطلع بسببه على معاني وفوائد وحكم لم تكن لتظهر له لولا تمهله في قراءته وتدبره لكتاب الله.
والتدبر في معناه اللغوي يعود إلى التأمل في الشيء، والنظر والتفكر في عاقبته (2)، وقد ذم الله تعالى الكفار على إعراضهم عن تدبر القرآن الكريم، مما ترتب
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند (3/ 120 - 121)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (2/ 62)، والبغوي في شرح السنة (13/ 305 - 306)، وقول أنس رضي الله عنه ورد في قصة النصراني الذي أسلم ثم ارتد ثم مات كافراً، والقصة دون الشاهد هنا في صحيح البخاري، في كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (4/ 181)، ومسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/ 2145) برقم (2781).
(2)
انظر الجامع لأحكام القرآن (3/ 1860)، والقاموس المحيط (ص 499) مادة "دبر".
عليه عدم فهم معانيه، حتى شبه الله قلوبهم التي لا تعي القرآن ولا تدرك معانيه بأنها كالقلوب التي عليها الأقفال قد أحكم غلقها، فلا يمكن أن يصل إليها شيء من معاني القرآن، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1).
يقول قتادة عند هذه الآية: «إذاً والله يجدون في القرآن زاجراً عن معصية الله، لو تدبره القوم فعقلوه، ولكنهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا عند ذلك» (2).
ولما أمر تعالى بتدبر القرآن في سورة النساء، ذكر امتناع الاختلاف والاضطراب في القرآن؛ تنبيهاً على أن التدبر التام المفضي إلى فهم القرآن يمتنع معه وجود الاختلاف والتناقض، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (3)، وبالمقابل عدم تدبر القرآن الكريم يؤدي إلى الخلل في فهمه، ومن ثم الظن بأن في القرآن اختلافاً وتناقضاً، فعلم بذلك أن الخطأ في فهم القرآن سببه عدم التدبر لآياته (4).
يقول القرطبي (5): «دلت هذه الآية على وجوب تدبر القرآن ليعرف
(1) سورة محمد آية (24)، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 203).
(2)
جامع البيان (21/ 216).
(3)
سورة النساء آية (82).
(4)
انظر البرهان (2/ 319).
(5)
هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي فرح الأنصاري القرطبي المالكي المفسر، كتابه الجامع أشهر مصنفاته، وله: التذكرة، والتذكار في أفضل الأذكار، والكتاب الأسنى، توفي في شوال سنة (671).
انظر: الديباج المذهب (ص 406)، وطبقات المفسرين للسيوطي (ص 79)، وطبقات المفسرين للداودي (2/ 69).
معانيه» (1).
ومما جاء عن الصحابة والتابعين في ذلك:
1 -
قال رجل لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «قرأت المفصل البارحة، فقال: هَذَّاً كهَذِّ الشعر! ، إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم» (2).
والمراد بقوله: هذاً كهذِّ الشعر؛ سرعة القراءة من غير تأمل كما ينشد الشعر (3).
2 -
وقال رجل لابن عباس: «إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لأن أقرأ البقرة في ليلة، فأدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ كما تقول» (4).
(1) الجامع لأحكام القرآن (3/ 1860).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه، في كتاب فضائل القرآن، باب الترتيل في القراءة (6/ 109 - 110) واللفظ له، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/ 563) برقم (822).
(3)
فتح الباري لابن حجر (9/ 90).
(4)
فضائل القرآن لأبي عبيد (1/ 326)، وسنن سعيد بن منصور (2/ 477، 480)، وأخلاق حملة القرآن وأهله للآجري (ص 98)، والسنن الكبرى للبيهقي (2/ 396).
فالصحابة رضي الله عنهم عابوا السرعة في قراءة القرآن؛ لأنها تفضي إلى عدم التدبر، وما يترتب عليه من الخلل في فهم القرآن الكريم.
3 -
وعن محمد بن كعب قال: «لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بإذا زلزلت، والقارعة لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما وأتفكر، أحب إلي من أن أهذَّ القرآن ليلتي هَذَّاً، أو قال: أنثره نثراً» (1)، ولذلك انتفع بهذه القراءة المتدبرة، فقال عن أثرها:«إن عجائب القرآن تورد علي أموراً، حتى إنه لينقضي الليل، ولم أفرغ من حاجتي» (2).
ثامناً: سؤال المختصين بتفسير القرآن الكريم.
ومن الأمور التي عُني بها الصحابة والتابعون للوصول إلى الفهم السليم لمعاني القرآن الكريم أن أحدهم إذا مر بآية وأشكل عليه معناها سأل علماء التفسير؛ لأنهم هم المؤهلون للبت في معني الآيات، وبيان المعنى الصحيح، واللجوء إلى المتخصصين بتفسير القرآن هو السبيل الأمثل والطريق الأقصر لمعرفة المراد بآيات الكتاب العزيز، وشواهد هذا الأمر كثيرة جداً، وتقدم بعضها.
(1) الزهد لابن المبارك (ص 87)، وفضائل القرآن للفريابي (ص 222)، وحلية الأولياء (3/ 214).
(2)
حلية الأولياء (3/ 214)، وسير أعلام النبلاء (5/ 66).