الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علمناها ما حل لنا أن نكتمكموها» (1).
وهذا المنهج العام الذي اتبعه الصحابة والتابعون في الامتناع عن الإفتاء في مسائل لم تقع، أو إبداء الرأي في أمر اجتهادي قد يخطئ وقد يصيب قلل من المسائل الخلافية بينهم، وقلل من حديثهم في المسائل التي لا طائل تحتها.
والأقوال السابقة وإن كانت تتعلق بالفتيا فإنها تعطينا تصوراً واضحاً عن مدى الجدية التي كان عليها الصحابة والتابعون، واهتمامهم بالأمور النافعة المثمرة، وهذا المنهج الذي اتبعوه أثر في موقفهم من تفسير بعض الآيات، ومن ذلك الخوض في تفسير بعض الآيات التي لا فائدة تعود من الكلام في تفاصيلها؛ كالتفاصيل الدقيقة لما وقع للأمم الماضية مما أعرض القرآن الكريم عن ذكره؛ لأجل ذلك أعرض الصحابة والتابعون في الجملة عن الخوض فيها، وعاملوها معاملة المسائل التي لم تقع.
ثالثاً: اختلاف تنوع لا تضاد
.
ومن السمات البارزة لما وقع بين الصحابة والتابعين من الاختلاف في التفسير اعتبار أكثره من اختلاف التنوع الذي يمكن الجمع بين أقواله، وهذا النوع من الاختلاف أشار إليه ابن تيمية، وجاء في كلام المتقدمين ما يدل عليه، فقال أبو
(1) سنن الدارمي (1/ 53).
الدرداء رضي الله عنه (1): «لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً كثيرة» (2).
وعن سفيان بن عيينة (3) قال: «ليس في تفسير القرآن اختلاف، إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا» (4).
وهذا النوع أحد نوعي الخلاف اللذين ذكرهما ابن تيمية في تفسير السلف.
والنوع الثاني خلاف التضاد، والمقصود به: القولان المتنافيان الذي يلزم من
(1) هو عويمر بن عامر وقيل ابن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، تأخر إسلامه قليلاً فأسلم يوم بدر وشهد أحداً وما بعدها، انتقل إلى الشام وولاه معاوية قضاءها، وتوفي بدمشق في خلافة عثمان عام (32).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 2/117)، وأسد الغابة (6/ 97)، والإصابة (7/ 182).
(2)
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/ 255)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/ 2/114)، والإمام أحمد في الزهد (ص 134)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/ 211)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (47/ 173)، وانظر فتح الباري لابن حجر (13/ 383).
(3)
هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران الهلالي الكوفي، ولد سنة (107)، روى عن عمرو بن دينار والزهري، وعنه الأعمش والشافعي وأحمد، قال الشافعي:«لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز» ، توفي عام (198).
انظر: التاريخ الكبير (2/ 2/94)، وتذكرة الحفاظ (1/ 262)، وتهذيب التهذيب (2/ 59).
(4)
سنن سعيد بن منصور (5/ 312) برقم (1061)، والسنة للمروزي (ص 7)، والدر المنثور (1/ 15، 3/ 306).
القول بأحدهما نفي القول الآخر (1)، وذكر ابن تيمية أن هذا النوع موجود بين السلف (2)، إلا أن غالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف التنوع (3).
والمراد باختلاف التنوع: ما لا تنافي بين الأقوال، فيمكن حمل الآية على جميع ما قيل فيها من غير تعارض (4).
وذكر الشاطبي من ضروب الخلاف الذي لا يعتد به «ما كان ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك، وأكثر ما يقع ذلك في تفسير الكتاب والسنة؛ فتجد المفسرين ينقلون عن السلف في معاني ألفاظ الكتاب أقوالاً مختلفة في الظاهر، فإذا اعتبرتها وجدتها تتلاقى على العبارة كالمعنى الواحد، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بمقصد القائل، فلا يصح نقل الخلاف فيها عنه» (5).
وهذا النوع من الاختلاف له صور، منها:
1 -
أن يعبر كل واحد من السلف عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 151)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (19/ 139).
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 343).
(3)
المصدر السابق (13/ 333).
(4)
انظر المصدر السابق (19/ 139).
(5)
الموافقات (5/ 210).
على معنى في المسمّى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمّى، فهي في حقيقتها ترجع إلى شيء واحد، لكن يوهم نقلها على اختلاف اللفظ على أنه خلاف محقق (1).
مثل اختلاف عبارات السلف في المراد بالصراط المستقيم، فعن علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما أن الصراط المستقيم كتاب الله تعالى.
ورواية أخرى عن ابن مسعود وجابر وابن عباس رضي الله عنهم أنه الإسلام.
وعن أبي العالية والحسن قالا: «هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده» (2).
وعند تأمل هذه الأقوال نجدها متفقة، فكلها من الصراط المستقيم، فالإسلام لا يكون إلا بإتباع القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.
قال ابن تيمية بعدما ذكر الأقوال في معنى الصراط المستقيم: «فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة، لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها» (3).
2 -
أن يذكر كل واحد منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه، ومن أمثلته:
(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 333)، والموافقات (5/ 211).
(2)
جامع البيان (1/ 173 - 175)، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 30).
(3)
مجموع الفتاوى (13/ 336).
الخلاف في معنى المنّ الوارد في قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (1).
فعن بعض السلف أنه كان ينزل عليهم مثل الثلج.
وعن آخرين: أنه مثل العسل، وقيل: خبز الرقاق مثل الذرة، وقيل: الزنجبيل (2).
قال الشاطبي معلقاً على هذا الاختلاف: «فهذا كله يشمله اللفظ؛ لأن الله منَّ به عليهم، ولذلك جاء في الحديث: «الكمأة من المنِّ الذي أنزله الله على بني إسرائيل» (3)، فيكون المنُّ جملة نعم، ذكر الناس منها آحاداً» (4).
3 -
ومنها أن يكون اللفظ المفسر محتملاً للأمرين، كأن يكون مشتركاً
(1) سورة البقرة من الآية (57).
(2)
انظر: جامع البيان (1/ 700 - 703)، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 115، 5/ 1591 - 1592).
(3)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم في صحيحه؛ في كتاب الأشربة (3/ 1620) برقم (2049) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه وتمامه: «وماؤها شفاء للعين» ، وأخرجه البخاري عنه بلفظ:«الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين» . صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (5/ 148).
(4)
الموافقات (5/ 211).
لفظياً، أو متواطئاً (1).
مثال المشترك: لفظ "قسورة" في قوله تعالى: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} (2)، فعن ابن عباس وأبي موسى ومجاهد وعكرمة أن المراد به الرماة.
وعن أبي هريرة ورواية عن ابن عباس، وهو قول زيد بن أسلم (3) أن المراد به الأسد (4).
ومثله لفظ "عسعس" في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} (5)، فعن علي وابن عباس وقتادة والضحاك أن المراد به إدبار الليل، وعن الحسن أنه إقباله (6).
(1) اللفظ المشترك هو: اللفظ الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعاً أولاً من حيث هما كذلك، وأما المتواطئ فيطلق على أشياء متغايرة بالعدد متفقة بالمعنى الذي وضع الاسم عليها، انظر في تعريفهما: المستصفى للغزالي (1/ 31)، وروضة الناظر (1/ 100)، والتعريفات للجرجاني (ص 252، 269).
(2)
سورة المدثر آية (51).
(3)
هو أبو عبد الله زيد بن أسلم القرشي العدوي، مولى عمر بن الخطاب، روى عن ابن عمر وجابر وأنس، وروى عنه الثوري وابن عيينة، وكانت له حلقة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، توفي عام (136).
انظر: التاريخ الكبير (2/ 1/387)، وتذكرة الحفاظ (1/ 132)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 182).
(4)
انظر: جامع البيان (23/ 455 - 460)، والدر المنثور (6/ 286).
(5)
سورة التكوير آية (17).
(6)
جامع البيان (24/ 159 - 161).
قال ابن تيمية: «فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف» (1).
ومثال المتواطئ الاختلاف في عود الضمير إذا احتمل شيئين كقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (2)، فعن ابن عباس أن الذي دنا هو الرب جل وعلا، وعن الحسن وقتادة أنه جبريل عليه السلام (3).
4 -
ومن صور اختلاف التنوع أن يرد عن السلف في تفسير الآية ألفاظ متقاربة، فيحكيها بعض الناس عنهم على أنها اختلاف، يقول الزركشي حين ذكر تفاسير الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: «يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم، ويحكيه المصنفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ، ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافاً فيحكيه أقوالاً، وليس كذلك، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الآية، وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل، أو لكونه أليق بحال السائل، وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره، والآخر بمقصوده وثمرته، والكل يؤول إلى معنى واحد غالباً، والمراد الجميع، فليتفطن لذلك، ولا
(1) مجموع الفتاوى (13/ 341).
(2)
سورة النجم الآيتان (8 - 9).
(3)
جامع البيان (22/ 14 - 15)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 341).
يفهم من اختلاف العبارات اختلاف المرادات» (1).
ومن أمثلته لفظ "تبسل" في قوله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (2)، فمن عبارات السلف في معناها: تُرتهن، وقيل بمعنى: تُحبس، وقيل: تُسلم، وقيل: تُؤخذ.
وقد علق ابن كثير على هذه الأقوال بقوله: «وكل هذه العبارات متقاربة في المعنى؛ وحاصلها الإسلام للهلكة والحبس عن الخير، والارتهان عن درك المطلوب، كما قال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} (3)» (4).
وبهذا التفصيل يمكن تصنيف كثير من اختلاف الصحابة والتابعين في التفسير على أنه من اختلاف التنوع، وأن الخلاف الحقيقي المعتبر مما له ثمرة قليل.
وبتصنيف أكثر تفسير الصحابة والتابعين على أنه من اختلاف التنوع يمكن القول بأن اختلافهم يفيد المفسر في فهم القرآن الكريم، فهو يثري معارفه ويعطيه مجالات أرحب في فهم الآيات؛ لأن حقيقة هذا الاختلاف زيادة في إيضاح معنى
(1) البرهان (2/ 301)، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 341).
(2)
سورة الأنعام من الآية (70).
(3)
سورة المدثر الآيتان (38، 39).
(4)
تفسير القرآن العظيم (3/ 274)، وانظر: جامع البيان (9/ 320 - 322)، وتفسير ابن أبي حاتم (4/ 1318)، والجامع لأحكام القرآن (3/ 2452)، وبحوث في أصول التفسير ومناهجه د. الرومي (ص 44).