الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبعد
…
فإن من آثار انتقاد الصحابة والتابعين للإسرائيليات كبح جماح النقل عن بني إسرائيل وتتبع أخبارهم ومساءلتهم، فقد ولد شعوراً لدى المتلقين بالحذر من الإسرائيليات.
توجيه الرواية عن أهل الكتاب وسؤالهم:
والمعنيُ بذلك بدرجة أخص من انتقدوا الإسرائيليات وحدثوا بها؛ إذ لا ننكر أن بعض السلف - وبخاصة من التابعين - تسامح في نقل الإسرائيليات إلى درجة التساهل (1)، لكن من نقل عنهم انتقادها وروايتها، فلا بد من حمل روايتهم لها على محامل من أهمها ما يلي:
أولاً: ألاّ تعارض المرويات الإسرائيلية النصوص الشرعية، لأنها إذا كانت كذلك فهي داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (2)، أما إذا عارضت النصوص الشرعية ردوها وكذبوها، ومن شواهده:
1 -
ما تقدم عن ابن مسعود رضي الله عنه وقوله: «إن كنتم سائليهم لا محالة، فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه» .
وسبق تكذيب ابن مسعود لكعب في قوله: إن السموات تدور على منكب
(1) انظر الكلام عن السدي (ص 441).
(2)
سبق تخريجه (ص 39)
ملك، فرد عليه بقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (1).
2 -
ما وقع بين أبي هريرة وكعب الأحبار في تحديد ساعة الجمعة، فعن أبي هريرة قال:«خرجت إلى الطور، فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة، وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة (2) يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم - وهو يصلي - يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه» ، فقال كعب: ذلك في كل سنةٍ يومٌ، فقلت: بل في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول صلى الله عليه وسلم
…
ثم قال أبو هريرة: «ثم لقيت عبد الله بن سلام، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار، وما حدثته به في يوم الجمعة، فقلت: قال كعب ذلك في كل سنةٍ يومٌ، قال: قال عبد الله بن سلام: كذب كعب، فقلت: ثم قرأ كعب التوراة، فقال: بل هي في كل جمعة، فقال عبد الله بن سلام: صدق كعب، ثم قال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي؟ ، قال أبو هريرة: فقلت له: أخبرني بها ولا تضنَّ علي، فقال: هي آخر ساعة في يوم الجمعة، فقال أبو هريرة: وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا
(1) سورة فاطر من الآية (41).
(2)
أي: مستمعة منصتة، النهاية في غريب الحديث (3/ 64) مادة "صيخ".
يصادفها عبد مسلم وهو يصلي»، وتلك الساعة ساعة لا يصلى فيها؟ ! ، فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس مجلساً ينتظر الصلاة، فهو في صلاة حتى يصلي» ؟ ، قال أبو هريرة: بلى، قال عبد الله: فهو ذلك» (1).
وقد وقع في هذا النص رد الإسرائيليات وقبولها، والمعيار في ذلك السنة النبوية.
ثانياً: أنهم كانوا يسألون أهل الكتاب على سبيل الاستطراف والتعجب من أخبارهم، فإن كان فيها ما ينكر ردوها، ويرد السؤال أحياناً على سبيل اختبار أهل الكتاب وامتحانهم، أو معرفة أرائهم الخاصة حول بعض الآيات (2)، فقد قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: «أين جهنم؟ ، فقال: البحر، فقال: ما أراه إلا صادقاً
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب النداء للصلاة، باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة (1/ 165 - 166)، وأبو داود في كتاب الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة (1/ 274)، والنسائي في سننه، في كتاب الجمعة، باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة (3/ 114)، والحاكم في المستدرك (1/ 278)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 250)، قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي، وبعضه في الصحيحين، انظر: صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة (1/ 224)، وصحيح مسلم، كتاب الجمعة (2/ 585) برقم (854).
(2)
تفسير الصحابة د. بدر (ص 87).
{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} (1)، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} » (2).
ولم يكن الاتصال بأهل الكتاب وسؤالهم على سبيل التتلمذ عليهم أو الاتصال بهم اتصال المتعلم بمعلمه، وإنما على سبيل الاستكشاف ورؤية ما لديهم، ثم التعامل معه وفق المقتضى الشرعي (3).
ولذلك يمكن وصف مساءلتهم أهل الكتاب بأنها للاستشهاد والاعتبار بها، لا للاعتماد عليها (4).
ثالثاً: احتمال أن تكون مرويات الصحابة عن أهل الكتاب من إدراج بعض الرواة، وأقحم الصحابة فيها مع عدم صحتها عنهم، وبخاصة إذا وجد فيها ما يستنكر، وعندما ذكر ابن كثير بعض المرويات الإسرائيلية في قصة خلق آدم، وأمر الملائكة بالسجود له عقب بقوله: «فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام
(1) سورة الطور آية (6).
(2)
سورة التكوير آية (6)، والأثر تقدم تخريجه (ص 238).
(3)
انظر تفسير الصحابة (ص 83).
(4)
انظر نماذج من سؤالات الصحابة والتابعين لأهل الكتاب في: الجامع لابن وهب (1/ 29، 2/ 80)، وتفسير عبد الرزاق (2/ 135)، وسنن سعيد بن منصور (5/ 64)، وجامع البيان (9/ 438، 20/ 121، 21/ 568، 24/ 207 - 208)، وتفسير ابن أبي حاتم (3/ 761، 8/ 2596، 2597، 2602، 2603، 2617، 9/ 3028)، والدر المنثور (2/ 72، 4/ 248، 5/ 310).
الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم» (1).
ومما سبق يتبين أن الصحابة كانوا أشد في إنكار الإسرائيليات من التابعين، والذي نقل عنهم في نقدها أكثر مما نقل عن التابعين، وبعض الصحابة أشد في إنكار الإسرائيليات من بعض كما رأينا من ابن مسعود رضي الله عنه، ومن خلال استقرائي للموضوع لم أجد عن التابعين نقداً صريحاً للإسرائيليات سوى ما نقل عن الحسن في تكذيب أهل الكتاب (2)، وما جاء عن الأعمش في بيان سبب اتقاء بعض الكوفيين لتفسير مجاهد لكونه يروي عن بني إسرائيل، وقد تقدم قريباً.
وقوة إنكار الصحابة رضي الله عنهم للإسرائيليات وتحذيرهم منها يفسر لنا قلة الرواية عن بني إسرائيل في عهدهم مقارنة بعصر التابعين (3).
وحين نقارن الروايات النقدية للإسرائيليات المنقولة عن الصحابة والتابعين بالروايات التي تسامحوا فيها بنقلها وروايتها على ضوء الدوافع والمحامل السابقة نستطيع القول بأنهم تعاملوا معها- في الجملة - وفق المنهج الذي رسمه النبي صلى الله عليه وسلم وإن اختلفنا مع بعضهم في بعض الجزئيات - وأنهم كانوا على وعي تام حين سماع الإسرائيليات وروايتها، فلم يخرجوا بالتحديث بها عن المسار المسموح به والله أعلم.
(1) تفسير القرآن العظيم (1/ 110)، وانظر أيضاً نحو هذا الكلام في (5/ 194) من الكتاب نفسه.
(2)
انظر: تفسير عبد الرزاق (1/ 268)، وجامع البيان (12/ 427).
(3)
انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 345)، والإسرائيليات في التفسير والحديث، د. الذهبي (ص 22).