الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالإخبار عن الجنة بأنها تستغرق السموات والأرض قد يُفهم منه ألا يوجد مكان للنار؛ لذا أُورد هذا السؤال، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس بلازم بالقياس على الليل والنهار؛ إذ لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل (1).
ب - نقد الإسرائيليات:
يتخذ بعض المفسرين الروايات الإسرائيلية طريقاً لتفسير القرآن، وبخاصة فيما يتعلق بأخبار الأمم السابقة ، وما جرى للرسل مع أقوامهم، حتى أصبح ذلك سمة ظاهرة في بعض التفاسير؛ لما في الروايات الإسرائيلية من تفصيلات لا توجد في الكتاب والسنة.
وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم بالتحديث عن بني إسرائيل، فقال:«حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» (2).
واستمع لحبر من أحبار اليهود قال له: «يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 99).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (4/ 145) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
بدت نواجذه؛ تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} » (1).
ومع مجيء هذا الإذن الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله، فقد جاء عنه ما يدل على أنه ليس مطلقاً، وانتقد صراحة من سأل أهل الكتاب أو تتبع كتبهم، فغضب صلى الله عليه وسلم من عمر رضي الله عنه حينما رأى في يده صحيفة من التوراة، وقال:«أَمُتَهَوِّكُوْنَ (2) فيها يا بن الخطاب؟ ! والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني» (3).
(1) سورة الزمر من الآية (67)، والحديث أخرجه البخاري في مواطن عدة من صحيحه؛ منها كتاب التفسير، باب قوله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (6/ 33) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2)
متهوكون أي: متهورون من التهوك، وهو التهور والوقوع في الأمر بغير روية، وقيل معنى التهوك: التحير. النهاية في غريب الحديث (5/ 282) مادة "هوك".
(3)
رواه الإمام أحمد في مسنده (3/ 387) وهذا لفظه، وروى نحوه في (ص 338) من الجزء نفسه، ورواه الدارمي في سننه (1/ 122)، وابن أبي شيبة في مصنفه (9/ 47)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 27) كلهم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وفي إسناده مجالد بن سعيد الهَمْداني، وليس بالقوي؛ فقد تغير في آخر عمره كما في تقريب التهذيب (ص 520)، وانظر مجمع الزوائد (1/ 174)، وقد صحح إسناده ابن كثير في البداية والنهاية (1/ 215)، وقال في موضع آخر (3/ 35):«إسناده على شرط مسلم» ، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (6/ 34).
ورواه أحمد في المسند (3/ 470، 4/ 265)، وعبد الرزاق في المصنف (6/ 113) من حديث عبد الله بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، وفي إسناده جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف كما في تقريب التهذيب (ص 137)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 173) عن هذا الحديث:«رجاله رجال الصحيح إلا أن فيه جابراً الجعفي، وهو ضعيف» ، وانظر فتح الباري لابن حجر (13/ 334)، وأشار البخاري في التاريخ الكبير (3/ 1/39) إلى عدم صحة إسناده، وللحديث شاهد عند ابن الضريس في فضائل القرآن (ص 54)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 161) عن الحسن البصري أن عمر بن الخطاب فذكر نحوه، وله شاهد آخر عند عبد الرزاق في مصنفه (6/ 112) عن أبي قلابة أن عمر فذكر نحوه، لكن هذان الشاهدان فيهما انقطاع بين عمر وبين الحسن وأبي قلابة.
والحاصل أن الحديث لا تخلو أسانيده من ضعف، لكنه ليس بالشديد، ثم هو ينجبر بتعدد طرقه وشواهده، قال ابن حجر في فتح الباري (13/ 525) بعد سياق طرقه:«وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به، لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلاً» .
وإنما غضب النبي صلى الله عليه وسلم على عمر خشية انصراف الناس عما جاء به القرآن، وإقبالهم على كتب أهل الكتاب ركوناً إليها وإتباعاً لها؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:
…
«أمتهوكون فيها» أي: هل أنتم في شك مما جئتكم به؟ ، وأكد ذلك بأن موسى عليه السلام لو كان حياً ما وسعه إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم بما جاء به، وهذا يدل على أن المفسر لا ينبغي له الانصراف عن تفسير القرآن بالكتاب والسنة إلى أخبار إسرائيلية لا يمكن الوثوق بصحتها، بل فيها ما يتعارض مع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم (1).
(1) ويشهد لذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت آية: 51]، وقد روي في سبب نزولها أن رجالاً من المسلمين أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بكتب فيها بعض كلام اليهود، فلما نظر فيها ألقاها، وقال:«كفى بها حماقة قوم، أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم» ، فنزلت الآية. رواه الدارمي في سننه (1/ 131)، وأبو داود في المراسيل (ص 149)، والطبري في جامع البيان (18/ 429) - وهذا لفظه - عن يحيى بن جعدة مرسلاً، وعزاه السيوطي في الدر المنثور (5/ 148) للإسماعيلي في معجمه وابن مردويه عن يحيى بن جعدة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو كذلك في معجم الإسماعيلي المطبوع (2/ 772).
ومما يؤيد ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تصديقهم فيما ينقلونه من الأخبار، فقال:«لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» (1)، وهذا يضع الأخبار الإسرائيلية في مرتبة المشكوك فيه، ويقلل الثقة بها؛ لما دخلها من التحريف والتبديل، ولعدم الثقة بمن يرويها من أهل الكتاب، فقد تحملهم العصبية والحمية لدينهم إلى تحريف ما ينقلونه، فلا يجوز جعل تلك الأخبار المشكوك فيها معاني لكتاب الله مقطوعاً بها، والواجب التريث في قبولها، حتى ينظر فيها وتنتقد، فإن لم يوجد فيها محذور أو خطأ أذن في روايتها مع التوقف في تصديقها أو تكذيبها (2) ، وهذا وجه من أوجه النقد، وفيه تنبيه لمن يتصدى لتفسير القرآن أن يكون حذراً يقظاً تجاه الروايات الإسرائيلية، قادراً على نقدها ورد ما يعارض الكتاب والسنة، فلا يدخل في تفسيره
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (5/ 150) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
انظر فتح الباري لابن حجر (8/ 170).