الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الذي يأتي به مناظره، وحينئذٍ يصبح من المراء المنهي عنه في عموم قوله صلى الله عليه وسلم:«مراء في القرآن كفر» (1).
وقد أوجز ابن تيمية ما سبق بقوله: «والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها، أو من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال» (2).
ومن المقاصد التي تعود إلى المخالفين أن الحد من مناظرتهم والتقليل منها قدر الإمكان يؤدي إلى قلة من يستمع إليهم ويناقشهم، وهذا له أثر في غيظهم وقهرهم وكمدهم، ولذلك قال أيوب رحمه الله:«لست براد عليهم بشيء أشد من السكوت» (3).
الجدال المحمود:
وقد يحيط بالموقف ظروف وملابسات تجعل مناظرة المبطلين وجدالهم في القرآن أمراً محموداً؛ يصل في بعض المواقف إلى درجة الوجوب، ومن الأهداف والمقاصد المشروعة للجدال:
(1) انظر: الإبانة "الإيمان"(2/ 546 - 548)، والشريعة (ص 71)، والحديث سبق تخريجه (ص 45).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (7/ 174).
(3)
الشريعة (ص 67)، والإبانة "الإيمان"(2/ 471)، وانظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 19).
1 -
أن يرى المناظر الحاجة ماسة إلى المناظرة، لعدم وجود من يقوم بها غيره، ويرى في نفسه الأهلية لكونه من أصحاب الحجة والبيان، ويرجو بمناظرته أن يهدي الله خصمه بمناظرته، وكان ابن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلاً إن كلمته طمعت في رجوعه (1)، وتقدم جدال ابن عباس للخوارج ورجوع كثير منهم بسبب ذلك (2).
2 -
أن يكون المرء في مجلس فيتكلم أحد الناس بكلام فيه بلية وفتنة، وليس في المجلس من لديه حجة على مقابلته، وقد يخفى على الحاضرين ما يرمي إليه، فيخشى إن سكت أن يؤثر فيهم بما يلقيه من شبه حول الكتاب العزيز، فيرجو بمجادلة الخصم وإفحامه تثبيت من في المجلس، وكشف شبهاته لهم (3).
3 -
أن يقصد بمناظرته إقامة الحجة على بعض الناس، وقد لا يتأتى ذلك إلا بالمجادلة والمناظرة ونقض الأدلة التي يستدل بها، كما فعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله مع الخوارج والقدرية (4)، وقد عقد ابن عبد البر باباً في "جامع بيان العلم وفضله" في إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة، وساق نصوصاً كثيرة لإثباتها في إظهار الحق
(1) الإبانة "الإيمان"(2/ 541).
(2)
وانظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 106)، والجامع لأحكام القرآن (2/ 1094، 7/ 5736).
(3)
انظر الإبانة "الإيمان"(2/ 542).
(4)
تقدم نقل بعض مناظراته للقدرية، وانظر في مناظرته الخوارج جامع بيان العلم وفضله (2/ 105).
وإزهاق الباطل (1).
وقد وقع بين الصحابة والتابعين جدال حول دلالة بعض الآيات، ولم يرد عنهم ذم من فعله، ومن شواهده أن زر بن حبيش (2)
قال: «قلت لحذيفة بن اليمان: أصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت المقدس؟ ، قال: لا، قلت: بلى، قال: أنت تقول ذاك يا أصلع! بم تقول ذلك؟ ، قلت: بالقرآن، بيني وبينك القرآن، فقال حذيفة: من احتج بالقرآن فقد أفلح، فقال زر:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (3)، قال: أفتراه صلى فيه؟ ، فقلت: لا، قال: لو صلى فيه لكتبت عليكم الصلاة فيه، كما كتبت الصلاة في المسجد الحرام. قال حذيفة: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدابة طويلة الظهر ممدودة هكذا، خطوه مد
(1)(2/ 99 - 108).
(2)
هو أبو مريم زر بن حبيش بن حباشة الأسدي الكوفي، أدرك الجاهلية، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن عمر وعثمان وعلي، وعنه إبراهيم النخعي وعاصم، عُمر فبلغ مائة وعشرين، وتوفي سنة (81 أو 82).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 71)، والتاريخ الكبير (2/ 1/447)، وتهذيب التهذيب (1/ 627).
(3)
سورة الإسراء من الآية (1).
بصره، فما زايلا ظهر البراق (1) حتى رأيا الجنة والنار، ووعد الآخرة أجمع، ثم رجعا عودهما على بدئهما» (2).
ومما سبق يتبين أن السلف وعلى رأسهم الصحابة والتابعون لم يكونوا منغلقين على أنفسهم؛ محجمين عن الجدال بالكلية، وبالمقابل لم يكونوا متسامحين إلى حد يؤدي إلى تمادي المبطلين، كما أن هذا المنهج المعتدل في الجدال لم يقلل من حرصهم على عامة المجتمع وحمايتهم من التأثيرات الخارجية والأفكار المنحرفة.
(1) يريد: ما فارق النبي وجبريل ظهره، تحفة الأحوذي (8/ 584).
(2)
أخرجه الترمذي في سننه، في أبواب التفسير، باب ومن سورة بني إسرائيل (8/ 296)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» ، وهو في مسند الطيالسي (ص 55)، وتفسير عبد الرزاق (1/ 317)، ومسند أحمد (5/ 387، 392، 394)، ومصنف ابن أبي شيبة (14/ 306)، وجامع البيان (14/ 444)، والمستدرك (2/ 359)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 103)، قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي.
قال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (5/ 20): «وهذا الذي قاله حذيفة رضي الله عنه نفي، وما أثبته غيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربط الدابة بالحلقة، ومن الصلاة بالبيت المقدس مقدم على قوله، والله أعلم بالصواب» بتصرف يسير، وانظر فتح الباري لابن حجر (7/ 208).