الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية، وإعطائها دلالة أوسع.
رابعاً: مع الاختلاف مودة وألفة
.
لم يتخذ الاختلاف بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في التفسير شكلاً عنيفاً، أو يخرج عن مساره الشرعي، بل اتسم ببقاء المودة والألفة؛ إذ لم يكن فيه خصام أو تهاجر أو تقاطع أو اقتتال.
ولا يعني ذلك ألا يصدر من بعضهم ألفاظ شديدة على مخالفيه، فهم كغيرهم يعتريهم ما يعتري البشر من الغضب، وغالباً ما يكون دافع هذه الشدة النصيحة للمسلمين ومحبة الخير لهم، ورد المخطئ إلى الجادة، فيصدر عن بعضهم ألفاظ شديدة في حق المخالف، لكنها لا تؤدي إلى التهاجر والتقاطع (1)، ومن شواهد ذلك:
1 -
قول عائشة رضي الله عنها: «من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» (2).
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 229، 6/ 520).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (4/ 83)، وفي كتاب التفسير، باب تفسير سورة النجم (6/ 50)، ومسلم في كتاب الإيمان (1/ 159) برقم (287) واللفظ له.
وهذا القول قال به بعض الصحابة (1).
2 -
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: «كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2)، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك، وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني، فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها» (3).
وكان مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يأمر بذلك، ويغلظ على من يخالفه مستدلاً بأدلة منها هذه الآية، فنهاه معاوية فلم ينته، وحصل بينهما هذا النقاش؛ حتى كتب فيه إلى عثمان رضي الله عنهم (4).
3 -
وعن القاسم بن أبي بزة (5) قال: «قال لي مجاهد: سل عكرمة عن قوله
(1) انظر: سنن الترمذي (9/ 28 - 30)، ومصنف ابن أبي شيبة (11/ 511)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (2/ 335)، وشرح النووي على مسلم (3/ 4)، وفتح الباري لابن حجر (8/ 608).
(2)
سورة التوبة من الآية (34).
(3)
رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الزكاة، باب ما أدي زكاته فليس بكنز (2/ 111)، وفي كتاب التفسير، باب {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (5/ 203).
(4)
انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 84).
(5)
هو أبو عبد الله القاسم بن نافع بن يسار المدني المخزومي مولاهم، أشهر رواة التفسير عن مجاهد، روى عن أبي الطفيل وابن جبير، وعنه ابن جريج وشعبة، وكان قليل الحديث، توفي عام (114 أو 115).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 352)، والجرح والتعديل (3/ 2/122)، وتهذيب التهذيب (3/ 408).
تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} (1) فسألته، فقال: الإخصاء، فقال مجاهد: ما له لعنه الله! ، فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء، ثم قال لي: سله، فسألته، فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (2) قال: لدين الله، فحدثت به مجاهداً، فقال: ما له أخزاه الله؟ ! »، وفي بعض الروايات أن مجاهداً قال: كذب العبد (3).
وقد يصل الأمر بالمختلفين إلى المباهلة، ومن شواهده:
1 -
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «من شاء لاعنته ما نزلت: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (4) إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها، وإذا وضعت المتوفى عنها فقد حلت؛ يريد بآية المتوفى عنها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}» (5).
(1) سورة النساء من الآية (119).
(2)
سورة الروم من الآية (30).
(3)
جامع البيان (7/ 495 - 496).
(4)
سورة الطلاق من الآية (4).
(5)
سورة البقرة من الآية (234)، وأثر ابن مسعود في: جامع البيان (23/ 54 - 55)، وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب في عدة الحامل (2/ 293)، والنسائي في السنن الكبرى، في كتاب الطلاق، باب ما استثني من عدة المطلقات (3/ 391)، وعبد الرزاق في المصنف (6/ 471)، والطبراني في المعجم الكبير (9/ 329)، وعزاه في الدر المنثور (6/ 235) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
2 -
واختلف الصحابة في توريث الإخوة مع وجود الجد، فكان علي وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم لا يحجبون الإخوة به، وخالفهم ابن عباس رضي الله عنهما فحجبهم به، وكان يقول:«ليتق الله زيد أيجعل ولد الولد بمنزلة الولد، ولا يجعل أب الأب بمنزلة الأب؟ ! ، إن شاء باهلته عند الحجر الأسود» (1).
وفي رواية قال: «لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفوني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين» (2).
3 -
وعن الشعبي رحمه الله قال: «من شاء حالفته لأنزلت النساء القصرى [يريد سورة الطلاق] بعد الأربعة الأشهر والعشر التي في سورة البقرة» (3).
وقد تبدو ألفاظ الروايات السابقة قاسية شديدة، إلا أنها بقيت في إطارها، ولم تخرج بالمختلفين عن الحد المعقول، وإذا قيست بالخلافات التي نشأت بعد ذلك
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 107).
(2)
مصنف عبد الرزاق (10/ 255)، وهو بنحوه في سنن سعيد بن منصور (3/ 1/61) ط. الدار السلفية، وسنن الدارمي (2/ 813)، وانظر في خلاف الصحابة في الجد مع الإخوة: مصنف ابن أبي شيبة (11/ 292، 318)، وسنن الدارمي (2/ 809 - 814).
(3)
جامع البيان (23/ 56)، ولمزيد شواهد انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 107)، والدر المنثور (5/ 198).
تبين مفارقتها لها من حيث الكثرة والشدة.
وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم أن الخلاف بعدهم سيتخذ أشكالاً أخطر، ولعلهم فهموا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لبعض المختلفين في وقته:«قد اختلفتم وأنا بين أظهركم، فأنتم بعدي أشد اختلافاً» (1).
ومما جاء عن الصحابة في ذلك:
1 -
قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين خطب الناس، وذكر اختلافهم في الأحاديث التي يروونها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافاً» (2).
2 -
واستشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه المهاجرين والأنصار في الاغتسال من الإكسال (3)، فاختلفوا، فقال عمر: «هذا وأنتم أصحاب بدر، فمن بعدكم أشد
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف (11/ 389 - 390)، والطبراني في المعجم الكبير (3/ 135)، ونعيم بن حماد في الفتن (ص 408) من حديث الحسين بن علي، قال الهيثمي في المجمع (8/ 5):«رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح» ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (7/ 2/771).
(2)
ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ (1/ 2 - 3) من مراسيل ابن أبي مليكة.
(3)
المراد به مجامعة الرجل أهله دون إنزال، انظر: معجم مقاييس اللغة (ص 892)، والنهاية في غريب الحديث (4/ 174) مادة " كسل ".
اختلافاً» (1).
3 -
وقال عثمان للصحابة رضي الله عنهم: «إني أرى أن أجمع الناس على مصحف واحد لا يختلفون بعدي، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافاً» (2).
وفي بعض الروايات أن عثمان رأى اختلاف القراء عنده في المدينة، فخطب وقال:«أنتم عندي تختلفون فيه وتلحنون، فمن نأى عني من أهل الأمصار أشد فيه اختلافاً» (3).
فالصحابة كانوا مدركين أن الاختلاف بعدهم سيكون أشد، لبعده عن عصر النبوة، فإن العصر كلما كان أشرف كان الاجتماع والائتلاف أقوى (4)، ولذلك علم عثمان رضي الله عنه أن الاختلاف في الأمصار النائية أشد منه في المدينة؛ لكثرة العلماء فيها من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، أما الأمصار التي يقل فيها الصحابة فالاختلاف سيكون فيها أعظم وأكثر.
وأما قول سعيد بن المسيب: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في
(1) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 87، 88).
(2)
أخبار المدينة لابن شبة (3/ 213)، والشريعة للآجري (ص 607).
(3)
جامع البيان (1/ 57)، والمصاحف لابن أبي داود (1/ 204).
(4)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 332)، وانظر بحوث في أصول التفسير ومناهجه د. الرومي (41 - 42).