الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني الأسس المتعلقة بالدراية
وفيه:
أولاً: مخالفة اللغة العربية
.
ثانياً: اشتمال التفسير على ما يخل بمقام الأنبياء والملائكة وعصمتهم.
ثالثاً: مخالفة الواقع.
رابعاً: معارضة التفسير بالقياس.
خامساً: أن يكون التفسير غير مفيد.
سادساً: نقد التفسير بذكر ما يترتب عليه.
أولاً
مخالفة اللغة العربية
من الأمور الضرورية للمفسر الإلمام باللغة العربية، لأن النتيجة الحتمية للجهل بها وإهمال تعلمها وقوع الخلل في فهم القرآن، وهذا الأمر أشبه بقاعدة مقررة في التفسير:
يقول الشاطبي: «كل معنى مستنبط من القرآن غير جار على اللسان العربي، فليس من علوم القرآن في شيء، لا مما يستفاد منه، ولا مما يستفاد به، ومن ادعى فيه ذلك فهو في دعواه مبطل» (1).
ويقول الزركشي عن أهمية اللغة: «وهذا الباب عظيم الخطر، ومن هنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن، وتركوا القول فيه حذراً أن يزلوا فيذهبوا عن المراد، وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين» (2).
ويقول ابن عاشور (3): «إن القرآن كلام عربي، فكانت قواعد العربية طريقاً لفهم معانيه، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم لمن ليس بعربي بالسليقة» (4).
(1) الموافقات (4/ 224 - 225).
(2)
البرهان (1/ 398).
(3)
هو محمد الطاهر بن عاشور المالكي، ولد بتونس عام (1296) وتعلم بها، ودرَّس في جامع الزيتونة وتولى مشيخته، وتولى رئاسة الإفتاء بتونس، من آثاره التحرير والتنوير، توفي بتونس عام (1393).
انظر: الأعلام (6/ 174)، ومعجم المفسرين (2/ 541).
(4)
التحرير والتنوير (1/ 16)، وانظر في خطورة جهل المفسر باللغة العربية: التفسير اللغوي (ص 41) وما بعدها، وأسباب الخطأ في التفسير (2/ 988) وما بعدها.
وما قرره العلماء من خطورة الجهل باللسان العربي على المفسر لم يغب عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فقد تقدم بيان اهتمامهم باللغة العربية للوصول إلى فهم صحيح للقرآن، وجاء عن بعض التابعين التحذير من خطورة الجهل بالعربية لمن أراد فهم القرآن:
فقد سأل رجل الحسن البصري رحمه الله فقال: «يا أبا سعيد، الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته؟ ، قال: حسن يا بن أخي فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية، فيعيى بوجهها فيهلك» (1).
ولما ذكر عنده الاختلاف في التفسير قال: «إنما أتي القوم من قبل العجمة» (2).
وعنه قال: «أهلكتهم العجمة يتأولون القرآن على غير تأويله» (3).
وجاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء رحمه الله فقال: «يا أبا عمرو يخلف الله وعده؟ ، قال: لا، قال: أفرأيت إن وعده على عمل عقاباً يخلف وعده؟ ، فقال أبو عمرو: من العجمة أتيت يا أبا عثمان! إن الوعد غير الوعيد، إن العرب لا تَعُدُّ خلفاً ولا عاراً أن تَعِدَ شراً ثم لا تفعله؛ ترى أن ذاك كرماً وفضلاً، إنما الخلف أن تَعِدَ
(1) الجامع لابن وهب (3/ 43)، وفضائل القرآن لأبي عبيد (2/ 179)، وسنن سعيد بن منصور (1/ 167)، والفقيه والمتفقه (1/ 198).
(2)
السنة للمروزي (ص 8).
(3)
الجامع لابن وهب (3/ 44)، وهو في التاريخ الكبير (3/ 1/93)، وخلق أفعال العباد للبخاري (ص 101) مختصراً.
خيراً ثم لا تفعله، قال: فأوجدني هذا في كلام العرب؟ ، قال: أما سمعت إلى قول الأول:
لا يرهب ابن العم ما عشت صولتي صولتي صولتي
…
ولا أختشي من خشية المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته
…
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي» (1)
والجهل باللغة العربية يشمل علوم اللسان العربي كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأساليب العرب في كلامهم ونحو ذلك (2).
والأمثلة النقدية عن الصحابة والتابعين التي سأذكرها كلها عن ابن عباس رضي الله عنهما عدا المثال الأخير:
1 -
قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (3).
ذهب جمهور الصحابة ومن بعدهم إلى أن لفظ الإخوة في الآية يشمل الاثنين
(1) تاريخ بغداد (12/ 175 - 176)، والإبانة لابن بطة " كتاب القدر "(2/ 301)، وإعراب القراءات السبع وعللها لابن خالويه (1/ 54)، والجامع لشعب الإيمان للبيهقي (2/ 104)، ومعالم التنزيل (2/ 267)، والبيتان نسبهما ابن منظور في لسان العرب (2/ 1099)، والزبيدي في تاج العروس (1/ 60) لعامرِ بن الطُّفَيل، وانظر ديوانه (ص 191).
(2)
التحرير والتنوير (1/ 16).
(3)
سورة النساء من الآية (11).
فصاعداً (1)، وأنكر ابن عباس ذلك، ودخل على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وقال له:«لم صار الأخوان يردان الأم إلى السدس؟ ، وإنما قال الله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ}، والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة، فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس ومضى في الأمصار؟ » (2).
فابن عباس ضعف القول بأن لفظ الآية يشمل الاثنين لأن لفظه لفظ الجمع، وعلل ابن عباس تضعيفه لهذا القول بأنه ليس معروفاً في لغة قريش، وقد ذكر ابن القيم أن رأيه أقرب إلى ظاهر اللفظ، ورأي جمهور الصحابة أقرب إلى المعنى وأولى به، ثم أفاض القول في ترجيح رأي الجمهور (3).
ويفهم من كلام عثمان موافقة ابن عباس في قوله: إن الأخوين ليسا بجمع، ولذا لم ينكر عليه، وإنما تمسك بما أجمع عليه الناس ومضى في الأمصار.
(1) جامع البيان (6/ 464)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/ 198).
(2)
جامع البيان (6/ 465)، والمستدرك (4/ 335)، والسنن الكبرى للبيهقي (6/ 227)، والمحلى لابن حزم (9/ 315). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي.
(3)
إعلام الموقعين (1/ 359).
(4)
التفسير الكبير (3/ 517)، ونحو هذا الكلام لابن حزم في المحلى (9/ 315).
وهذا يؤكد ما ذكره ابن القيم من أن مذهب ابن عباس أقرب إلى اللفظ، لكنَّ الأمر استقر وأجمعت الأمة على معاملة الاثنين معاملة الثلاثة فأكثر في المواريث، كميراث الأختين والبنتين، «وهذا هو القياس الصحيح والميزان الموافق لدلالة الكتاب وفهم أكابر الصحابة» (1).
وجاء عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ما يفيد بأن الإخوة في كلام العرب يشمل الأخوين أيضاً، فعنه قال:«الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعداً» (2).
وهذا الكلام كله إذا أخذنا بتصحيح أثر ابن عباس كما فعل الحاكم، فإن بعض العلماء ذكر أن فيه نظراً (3).
2 -
وعن سعيد بن جبير قال: «بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس: أتاه
(1) إعلام الموقعين (1/ 360)، وانظر التفسير الكبير (3/ 517)، وهذه المسألة مرتبطة بمسألة أصولية، وهي أقل الجمع، انظر فيها: المستصفى (2/ 91)، والإحكام للآمدي (2/ 222)، وروضة الناظر (2/ 688)، وشرح الكوكب المنير (3/ 144).
(2)
المستدرك للحاكم (4/ 335)، وانظر نحواً من هذا الكلام لزيد في السنن الكبرى للبيهقي (6/ 227).
(3)
قال ابن كثير في تفسيره (2/ 199): «وفي صحة هذا الأثر نظر، فإن شعبة هذا [الراوي عن ابن عباس] تكلم فيه مالك بن أنس، ولو كان هذا صحيحاً عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به، والمنقول عنهم خلافه» ، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 85) عن تصحيح الحاكم:«وفيه نظر، فإن فيه شعبة مولى ابن عباس، وقد ضعفه النسائي» .
رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ ، قال: بلى، فقرأ:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (1) حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، من ثَمَّ أُمرت أن تأتي، فقال له الرجل: يا أبا الفضل، كيف بالآية التي تتبعها:{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (2)؟ فقال: إي ويحك! وفي الدُّبر من حرث؟ ! ، لو كان ما تقول حقًّا، لكان المحيض منسوخاً، إذا اشتغل من ههنا، جئتَ من ههنا، ولكن:{أَنَّى شِئْتُمْ} من الليل والنهار» (3).
وفي قوله: وفي الدبر من حرث؛ إشارة إلى بطلان ما فهمه الرجل من الآية، وهو جواز إتيان المرأة في الدبر، لأن الآية نصت على أن النساء حرث للرجال، والدبر ليس محلاً للحرث في لغة العرب.
وجاء عنه ما يوضح ذلك، فإنه قال في هذه الآية:«إنما المحترث من القبل الذي يكون منه النسل والحيض، وكان ينهى عن إتيان المرأة في دبرها، ويقول: إنما نزلت هذه الآية: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} يقول: من أي وجه شئتم» (4).
(1) سورة البقرة من الآية (222).
(2)
سورة البقرة من الآية (223).
(3)
جامع البيان (3/ 750)، وتفسير ابن أبي حاتم (2/ 402).
(4)
أخرجه ابن جرير في جامع البيان (3/ 748)، وروى عن عطاء إنكار هذا الفهم أيضاً.
3 -
وفي رواية قال: «غُلب فريق الموالي، وأصابت العرب، هو الجماع، ولكنَّ الله يعف ويكني» .
وفي ثالثة: «أخطأ الموليان وأصاب العربي، الملامسة النكاح، ولكنَّ الله يكني ويعف» (2).
(1) فتح القدير (1/ 226).
(2)
الأثر برواياته في جامع البيان (7/ 63 - 65)، وانظر: مصنف عبد الرزاق (1/ 134)، وسنن سعيد بن منصور (4/ 1262)، والسنن الكبرى للبيهقي (1/ 125)، وهو في مصنف ابن أبي شيبة (1/ 167) مختصراً.
ووصف ابن عباس أحد الفريقين بالموالي، والآخر بالعرب، يشير - والله أعلم - إلى أن سبب خطأ الموالي وإصابة العرب المعرفة باللغة العربية.
4 -
وسئل ابن عباس عن هذه الآية: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) فقال: «إن أول ما خلق الله عز وجل القلم، ثم النون وهي الدواة، ثم خلق الألواح، فكتب الدنيا وما يكون فيها حتى تفنى من كل خلق مخلوق أو عمل معمول من بر أو فجور، وما كان من رزق حلال أو حرام، ومن كل رطب ويابس، ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه، دخوله في الدنيا وبقاؤه فيها، ثم وكل بذلك الكتاب ملكاً، ووكل بالخلق ملائكة، فتأتي ملائكة الخلق إلى ملائكة الكتاب، فينسخون ما يكون في يوم وليلة مقسوماً على ما وكلوا به، وتأتي ملائكة الخلق فيحفظون الناس بأمر الله، ويسوقونهم إلى ما في أيديهم من تلك النسخ، فإذا انتفت النسخ عن شيء لم يكن هاهنا بقاء ولا مقام، فقال رجل لابن عباس: ما كنا نرى هذا إلا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة، فقال: ألستم قوماً عرباً؟ ! {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب؟ ، وفي رواية: وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل» (2).
والرجل - كما يبدو من كلامه - فهم من الآية أن الملائكة تكتب عمل كل
(1) سورة الجاثية من الآية (29).
(2)
الإبانة لابن بطة " القدر "(1/ 340)، وجامع البيان (21/ 104).
يوم وليلة في وقتها، فبين ابن عباس أن لفظ {نَسْتَنْسِخُ} يبطل هذا الفهم، إذ المعلوم من لغة العرب أن الاستنساخ معناه النقل من أصل.
5 -
وسأل رجل أبا العالية عن قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (3) ما هو؟ ، فقال أبو العالية: هو الذي لا يدري عن كم ينصرف: عن
(1)(6/ 4407) مادة "نسخ"، وأوله منقول من تهذيب اللغة (7/ 182)، وهذا أحد معنيين مشهورين للنسخ، والمعنى الآخر: الإزالة، انظر تفصيل ذلك في: تهذيب اللغة (7/ 181)، والصحاح (1/ 433)، ومفردات ألفاظ القرآن (ص 801)، والقاموس المحيط (ص 334) مادة "نسخ"، والناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 424)، والإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي (ص 47)، والمستصفى (1/ 107)، والإحكام للآمدي (3/ 102).
(2)
فتح القدير (5/ 11).
(3)
سورة الماعون آية (5).
شفع أو عن وتر؟ ، فقال الحسن: مه يا أبا العالية! ليس هكذا، بل الذين سهوا عن ميقاتها حتى تفوتهم، قال الحسن: ألا ترى قوله عز وجل: {عَنْ صَلَاتِهِمْ} (1).
(1) بيان إعجاز القرآن للخطابي (ص 32)، وانظر: تفسير عبد الرزاق (2/ 108)، والدر المنثور (6/ 400).
(2)
بيان إعجاز القرآن (ص 33)، وانظر البرهان (1/ 398).