الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه» (1)، فليس مراده الاختلاف المؤدي إلى التقاطع والمعاداة والتهاجر، وإنما أراد تباين آرائهم في تحديد الصلاة الوسطى وكثرة أقوالهم فيها.
خامساً: كراهة الاختلاف
.
تقدم أن من أسباب قلة الاختلاف بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم كراهتهم له، وكراهة المرء للشيء تدعوه إلى تركه والإعراض عنه، وقد جاء في القرآن النهي عن الاختلاف وذمه وذم أهله، كقوله تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2)، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3).
ومن الأسباب التي جعلت الصحابة يبغضون الاختلاف وينفرون منه ما كانوا يرونه من بغض النبي صلى الله عليه وسلم له ونهيه عنه؛ خاصةً الاختلاف في القرآن الكريم، فحين رأى اختلاف الصحابة في بعض آيات الكتاب خرج إليهم مغضباً كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، وقال لهم: «بهذا أمرتم، أو بهذا بعثتم؟ ! أن تضربوا كتاب
(1) جامع البيان (4/ 372)، وفتح الباري لابن حجر (8/ 197).
(2)
سورة آل عمران آية (105).
(3)
سورة الأنعام آية (159).
الله بعضه ببعض؟ ! إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا» (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا» (2).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سمعت رجلاً قرأ آية سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم خلافها، فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «كلاكما محسن» ، قال شعبة (3): أظنه قال: «لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» (4).
وهذه التربية العملية من النبي صلى الله عليه وسلم أثرت على الصحابة في نظرتهم إلى الخلاف، ونفورهم منه وبعدهم عنه (5)، وإذا أضفنا إلى ذلك ما كان يدركه الصحابة
(1) هذا الحديث أحد روايات الحديث المتقدم (ص 43) أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 196)، وحسن إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند (11/ 434).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب العلم (4/ 2053) برقم (2667) من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
(3)
هو أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي البصري، أحد أئمة الحديث ونقاده، روى عن الحسن وقتادة، وعنه ابن المبارك، قال عنه الثوري:«أمير المؤمنين في الحديث» ، توفي عام (160).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 2/38)، وتذكرة الحفاظ (1/ 193)، وتهذيب التهذيب (2/ 166).
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الإشخاص والملازمة والخصومة بين المسلم واليهود (3/ 88).
(5)
انظر: إعلام الموقعين (1/ 259)، وبحوث في أصول التفسير ومناهجه (ص 41).
من مساوئ الاختلاف وعواقبه السيئة علمنا القدر الكبير الذي يحملونه تجاهه، ومن الشواهد عنهم:
1 -
اختلف أبي بن كعب وابن مسعود في صلاة الرجل في الثوب الواحد، فقال أبي: يصلي في الثوب الواحد، وقال ابن مسعود: في ثوبين، فبلغ عمر، فأرسل إليهما، فقال: اختلفتم في أمر فلم يدر الناس بأي ذلك يأخذون؟ ! ، لو أتيتما لوجدتما عندي علماً، القول ما قال أبي، ولم يأل ابن مسعود (1).
وذكر ابن القيم أنه لم يكن أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشد عليه الاختلاف من عمر (2).
2 -
وقال علي رضي الله عنه لقضاته: «اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي» (3).
3 -
وترك ابن مسعود رضي الله عنه مخالفة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه في إتمام الصلاة بمنى، وكان يرى القصر كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فترك ذلك وأتم مع عثمان، وقال: «وددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين، فقيل له في ذلك، فقال: الخلاف
(1) مصنف عبد الرزاق (1/ 356) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 84).
(2)
إعلام الموقعين (1/ 259).
(3)
صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي رضي الله عنه (4/ 208 - 209).
شر» (1).
فابن مسعود ترك ما يعتقد أنه الأفضل وفعل المفضول؛ معللاً ذلك بكراهة الخلاف (2)، وهذا يدل على أن الواقع الذي كانوا يعيشونه قلل من فرص الاختلاف.
4 -
وكان يقول رضي الله عنه: «لا تختلفوا في القرآن ولا تنازعوا فيه، فإنه لا يختلف لكثرة الرد، ألا ترون أن شرائع الإسلام فيه واحدة؛ حدودها وفرائضها وأمر الله فيها، فلو كان شيء من الحرفين يأمر بشيء ينهى عنه الآخر كان ذلك اختلافاً، ولكنه جامع ذلك كله» (3).
5 -
وعن ابن عباس في قوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ
(1) أخرجه أبو داود في سننه، في كتاب المناسك، باب الصلاة بمنى (2/ 199)، وعبد الرزاق في المصنف (2/ 516)، وأبو يعلى في مسنده (9/ 255)، والبيهقي في السنن الكبرى (3/ 143 - 144)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 394)، وأصله في البخاري ومسلم دون قوله: الخلاف شر؛ أخرجه البخاري في كتاب تقصير الصلاة، باب الصلاة بمنى (2/ 35)، وفي كتاب الحج، باب الصلاة بمنى (2/ 173)، وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1/ 483) برقم (695).
(2)
انظر شرح النووي على مسلم (5/ 205).
(3)
أخرجه أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام (1/ 189)، وهو بنحوه مطولاً عند الإمام أحمد في المسند (1/ 405)، وابن جرير في جامع البيان (1/ 26).
آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا} (1)، وقوله:{وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2)، وقوله:{أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (3)، ونحو هذا من القرآن، قال:«أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمراء والخصومات في دين الله» (4).
وما تقدم يبين لنا حجم الاختلاف بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ومقداره، ويمكن القول بأن الخلاف الحقيقي الذي وقع بينهم كان في حجمه الطبيعي الذي لا مفر منه بحكم السنة التي أجراها الله تعالى في خلقه من وجود الاختلاف {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ، ولذلك يمكن وصف اختلافهم بأنه اختلاف ضرورة لا يلحقهم بسببه ذم كما تشير إليه الآيات التي ذمت الاختلاف (5)، وكانت له مسوغات ودوافع ألجأت إليه، فلم يكن بسبب اتباع الهوى، أو حباً في العلو والاستكبار ونحو ذلك من المقاصد الفاسدة التي حدثت عند غيرهم.
وقد أفاض العلماء في بيان أسباب اختلاف المفسرين، ومنها ما ينطبق على
(1) سورة النساء من الآية (140).
(2)
سورة الأنعام من الآية (153).
(3)
سورة الشورى من الآية (13).
(4)
جامع البيان (7/ 604، 9/ 315، 670)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (1/ 127).
(5)
انظر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني (ص 54).
اختلاف الصحابة والتابعين، وإذا أمعنت النظر في تلك الأسباب وجدتها أسباباً حقيقية لنشوء الاختلاف، وهي في الوقت نفسه ترفع اللوم عن المخطئ (1).
(1) انظر في تلك الأسباب: اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره د. سعود الفنيسان، وأسباب اختلاف المفسرين د. محمد الشايع.