الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامساً
نقد الجدال في القرآن:
يلتقي انتقاد الصحابة والتابعين رضي الله عنهم للجدال في القرآن مع ما جاء في السنة من النهي عنه، وهناك ارتباط بين الجدال في القرآن وبين التفسير؛ ذلك أن المجادل في القرآن ينزع إلى فهم خاص يسعى جاهداً لتقريره، وقد يدفعه انتصاره للمعاني التي يفهمها من الآيات إلى مجادلة خصمه لإثبات صحتها، وصرف خصمه عن المعنى الصحيح، وإقناعه بما فهم هو من كتاب الله، وهذه حال من اعتقد رأياً واجتهد في تأييده من القرآن، فإنه إذا نوزع فيه جاء بالآيات التي توافق مذهبه، وأولها بما يتفق مع رأيه ومذهبه (1).
وقد جاء عن الصحابة والتابعين بيان خطر الجدال في القرآن وذمه، والتحذير من مجالسة من ينتحل هذا الأمر:
1 -
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لزياد بن حُدَيْر (2): «هل تعرف ما يهدم
(1) انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 355).
(2)
الأسدي الكوفي، كنيته أبو المغيرة، روى عن عمر وعلي وابن مسعود، وعنه الشعبي، وتولى إمارة الكوفة، قال ابن حجر:«ثقة عابد» .
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 89)، والتاريخ الكبير (2/ 1/348)، وتهذيب التهذيب (1/ 644)، وتقريب التهذيب (ص 218).
الإسلام؟ ، قال: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين» (1).
2 -
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «إنما أخشى عليكم زلة عالم، وجدال منافق في القرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منار كمنار الطريق، ومن لم يكن غنياً من الدنيا فلا دين له» (2).
وجاء مثل هذا القول عن معاذ وسلمان الفارسي رضي الله عنهما (3).
3 -
وعن معاوية رضي الله عنه قال: «إن أغرى الضلالة لرجل يقرأ القرآن فلا يفقه فيه، فيعلمه الصبي والعبد والمرأة والأمة، فيجادلون به أهل العلم» (4).
4 -
وعن أبي العالية رحمه الله قال: «آيتان في كتاب الله ما أشدهما على الذين
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص 393)، والدارمي في سننه (1/ 76) واللفظ له، والفريابي في صفة النفاق (ص 71)، وابن بطة في الإبانة "الإيمان"(2/ 528)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 110)، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 559).
(2)
أخرجه الإمام أحمد في الزهد (ص 143)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 110).
(3)
قول معاذ في: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 122)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 111)، والمستدرك (4/ 420)، وقول سلمان في جامع بيان العلم وفضله (2/ 111).
(4)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 194).
يجادلون في القرآن، {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (1)، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} » (2).
5 -
وعن أبي جعفر قال: «لا تجالسوا أصحاب الخصومات، فإنهم الذين يخوضون في آيات الله» (3).
ومن معاني الخوض في آيات الله تعالى تحريفها ووضعها في غير موضعها، وردها والتكذيب بها إذا كان معناها يخالف هواه (4)، وجاء في القرآن ذمه والأمر بالإعراض عن أصحابه وترك مجالستهم في قول الله تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (5).
6 -
وقال عون بن عبد الله: «لا تجالسوا أهل القدر ولا تخاصموهم، فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض» (6).
(1) سورة غافر من الآية (4).
(2)
سورة البقرة من الآية (176)، والأثر أخرجه ابن بطة في الإبانة "الإيمان"(2/ 494).
(3)
تقدم تخريجه (ص 295).
(4)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 272).
(5)
سورة الأنعام آية (68).
(6)
الإبانة لابن بطة "الإيمان"(2/ 466).
ونهيُ الصحابة والتابعين عن الجدال في القرآن داخل في النهي عن مناظرة أهل البدع ومجادلتهم بعامة في القرآن وغيره، والتحذير من مجالسة أهل الأهواء ومحادثتهم والاستماع إليهم؛ حتى لو تعلق الأمر بسماع آية أو حديث، ومن أقوالهم في ذلك:
1 -
قول أبي قلابة: «لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون» (1).
2 -
وقول الحسن وابن سيرين: «لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم» (2).
3 -
وقال رجل للحسن: «تعال أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه» (3).
(1) سنن الدارمي (1/ 114)، والسنة لعبد الله بن أحمد (1/ 137)، وكتاب ما جاء في البدع لابن وضاح (ص 106)، والقدر للفريابي (ص 213)، والشريعة للآجري (ص 67)، والإبانة لابن بطة "الإيمان"(2/ 518)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 134).
(2)
سنن الدارمي (1/ 116)، والإبانة "الإيمان"(2/ 464).
(3)
القدرللفريابي (ص 216)، والشريعة (ص 62)، والإبانة "الإيمان" (2/ 509). وانظر آثاراً أخرى في: الشريعة (ص 63)، والإبانة "الإيمان"(2/ 433 - 543)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 114 - 150)، وجامع بيان العلم وفضله (2/ 93 - 99).
وقد يبدو هذا متعارضاً مع ما جاء عن الصحابة والتابعين - وتقدم بعضه - أنهم جادلوا غيرهم في القرآن وغيره، فلا بد من معرفة الحد الفاصل بين ما انتقدوه وذموه وبين ما فعلوه، فهم حين ينتقدون الجدال في القرآن، أو يسوغونه ويفعلونه ينطلقون من مبررات وأهداف صحيحة، فينبغي حمل كل حالة على ما يليق بها:
الجدال المذموم:
جنس المناظرة والمجادلة من حيث الأصل فيها المحمود والمذموم، والحق والباطل، ولذا فهي تمدح وتذم بحسب مقاصدها وأهدافها (1).
وتنقسم الأهداف والمقاصد التي من أجلها انتقد الصحابة والتابعون الجدال في القرآن إلى قسمين:
القسم الأول: أهداف ومقاصد تعود إلى الموافقين، كالخشية من إفساد عامتهم، فإن الحق إذا كان ظاهراً يعرفه كل أحد، فأتى بعض من في قلبه مرض ليصرفهم عنه ويدعوهم إلى بدعته، فالواجب حينئذٍ منعه من تحقيق غرضه ورده وزجره عن ذلك، وعدم إفساح المجال له، وتمكينه من التأثير في الناس، وعرض شبهه في القرآن على عامتهم عن طريق المناظرة والمجادلة، وقد يكون فيهم من لم يكن سمع بها من قبل، وليس لديه من العلم والإيمان ما يدفع بها تلك الشبه، ويزداد الخطر على العامة إذا رأوا من المناظر ضعفاً في الحجة، أو انقطاعاً في
(1) درء تعارض العقل والنقل (7/ 174).
المناظرة، وعلى هذا يحمل ما جاء من النهي عن المناظرة والمجالسة والمحادثة.
ولهذا السبب الأخير فقد يعود الضرر على المناظِر نفسه، فإنه إذا كان ضعيف العلم بالحجة لم يؤمن إفساد المبطل له، وتقدم قول أبي قلابة لما نهى عن مجالستهم ومناظرتهم:«فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون» .
القسم الثاني: مقاصد تعود إلى المخالفين، كأن لا يكون هناك فائدة مرجوة من مجادلتهم، بأن يظهر منهم العناد والمكابرة، وعدم قبول الحق بسبب اتباع الهوى أو فساد الإدراك، ولذلك يقيد السلف النهي عن المناظرة بمناظرة أهل الأهواء وجدال المنافق كما سلف، وهذان الصنفان ليس دافعهما في المجادلة الرغبة في الوصول إلى الحق، والفهم الصحيح لكتاب الله، وإنما الهوى والرغبة في التأثير في الخصم (1).
وقد يقع بين أهل الحق في مناظراتهم شيء مما يقع من أهل الباطل، حين يخرج الجدل عن إطاره الشرعي، فيقع بعض المتجادلين تحت تأثير حب الظهور على خصومه ومغالبتهم، ومحبة انقطاعهم في المناظرة، وقد يدعوه انتصاره لنفسه إلى الإصرار على فهمه والمنافحة عن رأيه، وقد يقع فيما هو أعظم من ذلك، فيرد الحق
(1) انظر فيما سبق: الإبانة "الإيمان"(2/ 470)، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 17) وما بعدها، والفقيه والمتفقه (1/ 556)، ودرء تعارض العقل والنقل (7/ 172، 173).