الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقد فهم عدي رضي الله عنه من الربوبية المذكورة في الآية أنها عبادة الصلاة والسجود والركوع، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنها أعم، فتشمل طاعة الأحبار والرهبان في التحريم والتحليل.
أثر النقد النبوي على الصحابة:
مع قلة الأحاديث النقدية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها تركت آثارها على الصحابة رضي الله عنهم؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المعلم والمربي الذي ينظر لتعليماته وتوجيهاته بتعظيم، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم سباقين إلى امتثالها والتزامها.
ويمكن إبراز أثر النقد النبوي على الصحابة فيما يأتي:
الأول: تحذيره صلى الله عليه وسلم من بعض طرق تفسير القرآن الكريم دفع الصحابة إلى البعد عنها والتحذير منها، فلهم مواقف مشابهة من التفسير بالرأي، والإسرائيليات، وتفسير المتشابه؛ تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى.
ومما يشار إليه هنا على سبيل التمثيل ما ذكره ابن تيمية أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتفع من غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليه حينما رأى في يده صحيفة من التوراة، فقد أُخبر - وهو خليفة - أن رجلاً يحدث ببعض كتب أهل الكتاب، فاستدعاه، وتلا عليه قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ
كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (1).
ثم ضربه ثلاث ضربات، فقال الرجل: مرني بأمرك، فقال له: اذهب فامحه ولا تَقرأه ولا تُقرئه أحداً من الناس، فلئن بلغني أنك قرأته، أو أقرأته أحداً من الناس لأنهكنك عقوبة (2).
الثاني: قد يفهم بعض الصحابة من آية شيئاً غير مراد، فتشتد عليه ويغتم منها، فإذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وبين له خطأ فهمه، وكشف له المعنى الصحيح للآية، زال همه، ومن أمثلته:
1 -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (3)، قلنا: يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ ، قال: «ليس كما تقولون {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (4)» (5).
(1) سورة يوسف الآيات (1 - 3).
(2)
ستأتي القصة في (ص 75)، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (17/ 41).
(3)
سورة الأنعام من الآية (82).
(4)
سورة لقمان من الآية (13).
(5)
أخرجه البخاري في مواضع عدة من صحيحه؛ منها كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (4/ 112)، وأخرجه مسلم في كتاب الإيمان (1/ 114) برقم (197).
2 -
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «لما نزلت: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (2) بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها» (3).
وفي بعض الأحاديث أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية، فكل سوء عملناه جزينا به؟ ! ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ، ألست تنصب، ألست تحزن؟ ، ألست تصيبك اللأواء (4)؟ » ، قال: بلى، قال:«فهو ما تجزون به» (5).
(1) إعلام الموقعين (1351 - 352)، وانظر الصواعق المرسلة (3/ 1057).
(2)
سورة النساء من الآية (123).
(3)
أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب (4/ 1993) برقم (2574).
(4)
اللأواء: الشدة وضيق المعيشة، النهاية في غريب الحديث (4/ 221) مادة "لأواء".
(5)
أخرجه الثوري في تفسيره (ص 97)، وأحمد في المسند (1/ 11)، وابن جرير في جامع البيان (7/ 521)، وابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1071)، وابن حبان في صحيحه كما في الإحسان (4/ 249)، والحاكم في المستدرك (3/ 74 - 75)، وقال:«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/ 339).
وعن عائشة رضي الله عنها «أن رجلاً تلا هذه الآية، فقال: إنا لنجزى بما عملنا هلكنا إذاً» (1).
وما تقدم يفيد أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من الآية حين نزولها أن المجازاة بالذنوب ما يقع من العقوبات في الآخرة، وأنّ الآية تفيد أنّ كل ذنب يعمله المرء يجازى عليه في الآخرة، فاغتموا لهذا الأمر، لكثرة ذنوب العباد، وحينما بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المجازاة لا يلزم أن تكون أخروية فقط، فمنها ما يقع في الدنيا من المصائب التي لا ينفك عنها أحد، كالأمراض والهموم والأحزان، وهذا من الجزاء المعجل الذي يخفف الجزاء المؤجل (2).
الثالث: من آثار النقد النبوي على الصحابة أنه صحح لهم أعمالهم الخاطئة التي بنوها على فهم غير صحيح للنصوص القرآنية، كما حصل مع عدي بن أبي حاتم رضي الله عنه.
(1) أخرج هذه الرواية أحمد في المسند (6/ 65 - 66)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 12):«رجاله رجال الصحيح» .
(2)
انظر: إعلام الموقعين (1/ 351)، والصواعق المرسلة (3/ 1056).
الرابع: استعمل الصحابة رضي الله عنهم نقد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يفهم بعض الناس من آية قرآنية فهماً انتقده النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكرر هذا الأمر مع أحد الصحابة، فيستعمل نقد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلته:
1 -
2 -
وأتى رجل من أهل الكتاب ابن عباس فقال: «تقولون: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}، فأين النار؟ ، فقال ابن عباس: أرأيت الليل إذا جاء، أين يكون النهار؟ ، وإذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ » (3).
وقد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب بنفس هذا الجواب عندما سئل هذا السؤال.
(1) هو أبو عبد الله طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي الكوفي، رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، وروى عن الخلفاء الأربعة، وحديثه في الكتب الستة، توفي سنة (83 أو 84).
انظر: التاريخ الكبير (2/ 2/352)، والإصابة (5/ 213).
(2)
سورة آل عمران من الآية (133).
(3)
أخرج الأثرين ابن جرير في جامع البيان (6/ 55 - 56).
3 -
وسأل رجل أبي بن كعب رضي الله عنه (1)،
وجواب أبيّ هو جواب النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر كما تقدم.
4 -
وسأل آخر سلمان الفارسي رضي الله عنه (4)، فقال: «يا أبا عبد الله، آية من كتاب الله قد بلغت مني كل مبلغ:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (5)، فقال سلمان: هو الشرك بالله تعالى، فقال الرجل: ما يسرني بها أني لم أسمعها منك وأن لي
(1) هو أبو المنذر أُبي بن كعب بن قيس النجاري الأنصاري، شهد العقبة الثانية وبدراً والمشاهد كلها، وهو من كتَّاب الوحي وقرَّاء الصحابة، كان عمر يسميه سيد المسلمين، توفي بالمدينة عام (22 أو 23).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 2/59)، والتاريخ الكبير (1/ 2/39)، والإصابة (1/ 26).
(2)
سورة النساء آية (123).
(3)
جامع البيان (7/ 516)، وأشار إليه البخاري في التاريخ الكبير (2/ 1/268)، والنفحة من نفحت الدابة برجلها إذا رمحت برجلها وضربت بحد حافرها، لسان العرب (6/ 4493) مادة "نفح".
(4)
هو أبو عبد الله يعرف بسلمان الخير، أصله من فارس، أسلم عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد الخندق وما بعدها، ثم نزل الكوفة، وتوفي بالمدائن عام (35).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 9)، والتاريخ الكبير (2/ 2/135)، وأسد الغابة (2/ 417).
(5)
سورة الأنعام من الآية (82).
مثل كل شيء أمسيت أملكه» (1).
5 -
وسأل رجل حذيفة رضي الله عنه (2)،
وهذا هو جواب النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه.
الخامس: قد يتلقى الصحابة رضي الله عنهم بعض الشبهات من أهل الكتاب تتعلق بما جاء في القرآن، فيستعينون بالنبي صلى الله عليه وسلم لنقدها وكشفها.
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (5) قال: «لما قدمت نجران سألوني، فقالوا: إنكم تقرؤون:
(1) جامع البيان (9/ 372)، ووقع نحو ذلك لعمر مع أبيّ بن كعب كما في المصدر السابق، والجامع لابن وهب (2/ 105)، والمستدرك للحاكم (3/ 305).
(2)
هو أبو عبد الله حذيفة بن حسيل وهو " اليمان " بن جابر العبسي حليف الأنصار، شهد أحداً وما بعدها، وهو صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين، تولى فتح بلاد عدة في فارس، وتوفي بالمدائن عام (36).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 2/64)، وأسد الغابة (1/ 468)، والإصابة (2/ 223).
(3)
سورة التوبة من الآية (31).
(4)
تفسير عبد الرزاق (1/ 245)، وجامع البيان (11/ 418)، وتفسير ابن أبي حاتم (6/ 1784).
(5)
هو أبو عبد الله المغيرة بن شعبة الثقفي، أول مشاهده مع النبي صلى الله عليه وسلم الحديبية، وولاه عمر على البصرة ثم الكوفة، وتوفي بها عام (50).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 12)، والتاريخ الكبير (4/ 1/16)، وأسد الغابة (5/ 247).
{يَاأُخْتَ هَارُونَ} (1)، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ ! ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك، فقال:«إنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (2).
فأهل نجران فهموا - خطأً - أن هارون المذكور في الآية هو أخو موسى عليهما السلام فأرادوا التوصل بذلك إلى الطعن في القرآن الكريم؛ لأن المتقرر أنّ بين موسى وعيسى عليهما السلام مئات السنين، فكيف يقال في القرآن: إن مريم أم عيسى هي أخت هارون، ومن ثم فهذا الكتاب الذي بأيدي المسلمين غير صحيح، فلما عرض المغيرة هذه الشبهة على النبي صلى الله عليه وسلم أبطل فهمهم للآية، فيبطل ما بني عليه، فليس هارون المذكور في الآية هو أخو موسى، وإنما سمي به جرياً على عادة الناس في التسمي بأسماء الأنبياء والصالحين، وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم» (3).
(1) سورة مريم من الآية (28).
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الآداب (3/ 1685) برقم (2135).
(3)
أخرجها الترمذي في أبواب التفسير، باب ومن سورة مريم (8/ 304 - 305)، والإمام أحمد في المسند (4/ 252).