الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفُسر هذا الحديث بأنهم يتلون كتاب الله، و «لا تفقهه قلوبهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والحلق؛ إذ بهما تقطيع الحروف» (1).
بيانه صلى الله عليه وسلم لوجه ضعف التفسير:
لا يكتفي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان بإنكار فهم الصحابة للآيات حتى يلفت نظرهم إلى الدليل على عدم صواب فهمهم من الآيات نفسها، وكأنه يدعوهم إلى التأمل في سياق الآيات، ومن أمثلته:
1 -
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} (2)، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ ، قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يقبل منهم: {
…
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}» (3).
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 159).
(2)
سورة المؤمنون من الآية (60).
(3)
سورة المؤمنون آية (61)، والحديث أخرجه الترمذي في أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمنون (8/ 318 - 319)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب التوقي على العمل (2/ 1404)، والحميدي في مسنده (1/ 132)، وأحمد في مسنده (6/ 159، 205)، والطبري في جامع البيان (17/ 70)، والحاكم في المستدرك (2/ 393)، والبغوي في معالم التنزيل (5/ 421) دون قوله في آخره: {
…
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}، قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 255).
والآية التي تلاها النبي صلى الله عليه وسلم تمنع أن يكون المراد بقوله: {
…
يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}، أي: يفعلون المعاصي كشرب الخمور والسرقة؛ لأن الله جعلهم من المسارعين في الخيرات السابقين إليها، ولو كانوا كما فهمت عائشة رضي الله عنها لكانوا من المقتصدين أو المقصرين (1).
2 -
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد؛ الذين بايعوا تحتها» ، فقالت حفصة رضي الله عنها: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} (2)؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قد قال الله: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (3)» (4).
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (5/ 474).
(2)
سورة مريم من الآية (71).
(3)
سورة مريم آية (72).
(4)
أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة (4/ 1942) برقم (2496) عن جابر بن عبد الله عن أم مبشر رضي الله عنهم.
وفي رواية أن حفصة قالت: «أليس قد قال الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}؟ » (1).
3 -
وفهم عديّ بن حاتم رضي الله عنه (3)
من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (4) أن المراد خيطان حقيقيان، فعمد إلى عقالين: أبيض وأسود، ووضعهما عند رأسه، وأخذ ينظر إليهما، فلم يتبينا له، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:«إن وسادك إذاً لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك» ، وفي رواية:«إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين» ، ثم قال:
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب ذكر البعث (2/ 1431)، والإمام أحمد في المسند (6/ 285، 362) عن أم مبشر عن حفصة رضي الله عنهما، وصححه البغوي في شرح السنة (14/ 194)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 191):«إسناده جيد، رجاله ثقات رجال الصحيح» .
(2)
الصواعق المرسلة (3/ 1054).
(3)
هو أبو طريف عدي بن حاتم الطائي، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع، فأسلم وكان نصرانياً، وشهد فتوح العراق، وسكن الكوفة، وبها توفي عام (67)، وقيل غير ذلك.
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 13)، والتاريخ الكبير (4/ 1/43)، والإصابة (67/ 401).
(4)
سورة البقرة من الآية (187).
«بل هو سواد الليل وبياض الصبح» (1).
وجاء عن سهل بن سعد رضي الله عنه (2) أنه لما نزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} ، فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعده:{مِنَ الْفَجْرِ} ، فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار (3).
وهذا الحديث يفيد تأخر نزول قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} عن أول الآية؛ ولذلك فهم بعض الصحابة أن المراد الخيط المعروف، فلما نزل {مِنَ الْفَجْرِ} فهموا المراد.
أما عدي بن حاتم فقصته متأخرة عن نزول الآية، فقد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسعٍ أو عشرٍ، والآية نزلت في فرض الصوم، وكان فرضه في أول الهجرة،
(1) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (5/ 156) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(2)
هو سهل بن سعد بن مالك الخزرجيّ الساعدي الأنصاري، كان عمره يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خمس عشرة سنة، وعُمر بعده حتى أدرك الحجاج، وتوفي بالمدينة عام (88)، وقيل (91).
انظر: التاريخ الكبير (2/ 2/97)، وأسد الغابة (2/ 472)، والإصابة (4/ 275).
(3)
أخرجه البخاري في كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (5/ 156).
فسمع الآية من النبي صلى الله عليه وسلم كاملة، لكنه لم يفهم من الخيطين أنهما بياض النهار وسواد الليل، فصنع ما صنع، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عاتبه، وفي بعض الروايات أنه ضحك من صنيعه (1)؛ لأن سياق الآية يرد فهمه، فقوله:{مِنَ الْفَجْرِ} يمنع أن يكون المراد ما فهم عدي، فالخيط الأبيض والأسود من الفجر؛ ولذلك لما نزلت فهم الصحابة أن المراد بياض النهار وسواد الليل، وقد جاء في بعض روايات الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي:«ألم أقل من الفجر؟ ، إنما هو بياض النهار وسواد الليل» (2).
وعدي رضي الله عنه هو الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (3)، فقال:«يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ » ، فقال: بلى! ، قال:«فتلك عبادتهم» (4).
(1) سنن سعيد بن منصور (2/ 698)، ومسند الإمام أحمد (4/ 377)، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 318).
(2)
جامع البيان (3/ 251)، وتفسير ابن أبي حاتم (1/ 318)، وانظر فتح الباري لابن حجر (4/ 134).
(3)
سورة التوبة من الآية (31).
(4)
أخرجه الترمذي في أبواب التفسير، باب ومن سورة التوبة (8/ 248)، والبخاري في التاريخ الكبير (4/ 1/106)، وابن جرير في جامع البيان (11/ 417 - 418) واللفظ له، وابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 1784)، قال الترمذي:«هذا حديث غريب» ، وقد حسنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/ 67)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 56).