الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثاً
أثر نقد رجال التفسير على تفاسيرهم
ينقسم نقد المفسرين من حيث أثره على المنتقَد [بفتح القاف] وتفسيره إلى قسمين:
القسم الأول: نقد مؤثر؛ كانتقاد أبي صالح والكلبي، وبسبب جرحهما نزلت رتبة تفسيرهما عن غيرهما.
القسم الثاني: نقد غير مؤثر، أو أثره ضعيف، وثمة أمور وملابسات تقلل من أهمية النقد، وتضعف قيمته وأثره، ومنها ما يلي:
أولاً: جرح المفسر بأمور غير قادحة أو غير صحيحة، فإن المرء قد يجرح بما لا يجرح عند غيره، ومن أمثلة هذه الصورة انتقاد مجاهد وزيد بن أسلم بأنهما يفسران القرآن بالرأي، فمثل هذا النقد غير مؤثر؛ وبخاصة إذا علمنا أن رأيهما في معاني الآيات ليس مصدره الهوى والابتداع، وإنما يريان هما وغيرهما من أهل العلم أنه في حدود الرأي المسموح به.
ثانياً: تراجع الناقد عن نقده، كتراجع ابن عمر في انتقاده ابن عباس على
جرأته في التفسير، فقد جاءه رجل يسأله عن تفسير قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} (1)، فقال له:«اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله، ثم تعال فأخبرني ما قال، فذهب الرجل إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال: إن ابن عباس قد أوتي علماً، صدق، هكذا كانتا، ثم قال ابن عمر: قد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه قد أوتي علماً» (2).
فابن عمر رجع عن انتقاد ابن عباس لمّا رأى جرأته في محلها، إذ لم تكن سوى جرأة العالم المدرك لما يقول، ولذا جاء عن ابن عمر روايات تشيد بابن عباس وعلو شأنه في هذا العلم (3).
ثالثاً: اعتبار نقد بعض المفسرين من كلام الأقران بعضهم في بعض، وبخاصة عندما يقع نتيجة اختلاف حول معنى آية، ولذا ينبغي التأمل فيه، والتروي في قبوله، وقد تنبه العلماء لهذا الأمر ونبهوا عليه:
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول
(1) سورة الأنبياء آية (30).
(2)
حلية الأولياء (1/ 320)، وعزاه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (5/ 332) إلى ابن أبي حاتم.
(3)
انظر (ص 112).
الفقهاء بعضهم على بعض» (1).
وأفرد ابن عبد البر لهذا الأمر باباً خاصاً سماه "حكم قول العلماء بعضهم في بعض" واعتبر كلام ابن المسيب في عكرمة من هذا القبيل، وتقدمت الإشارة إليه قبل قليل.
والذهبي في عدة مواطن من كتبه ينقل جرح بعض العلماء، وينبه إلى أنه من قبيل كلام العلماء وقدحهم في أقرانهم، فعندما نقل ما وقع بين ابن أبي ذئب (2) والإمام مالك قال:«وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما» (3).
ويقول في موضع آخر: «وما زال العلماء الأقران يتكلم بعضهم في بعض بحسب اجتهادهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم» (4).
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 151)، ونقل عن مالك بن دينار نحوه.
(2)
هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة القرشي المدني، ولد سنة ثمانين، وروى عن عكرمة ونافع، وروى عنه الثوري، قال أحمد:«كان يُشبَّه بسعيد بن المسيب» ، قدم بغداد بأمر المهدي وحدث بها، ثم رجع فمات بالكوفة سنة (159).
انظر: تاريخ بغداد (2/ 296)، والمعارف (ص 485)، ووفيات الأعيان (4/ 183).
(3)
سير أعلام النبلاء (7/ 143).
(4)
ميزان الاعتدال (5/ 429)، وانظر أيضاً:(1/ 111، 4/ 419)، وتذكرة الحفاظ (2/ 772)، وسير أعلام النبلاء (4/ 558، 5/ 275، 7/ 40، 11/ 432، 12/ 61، 14/ 42).
رابعاً: مقابلة نقد بعض المفسرين بثناء من أثنى عليهم من العلماء، وقد يكون فيهم من هو أجل قدراً، وأرفع منزلة من الناقد، وقد يكون أعرف بالمنتقَد وأدرى به، ومن أمثلته:
ثناء ابن عباس على تلميذه عكرمة وتزكيته له في مقابل نقد ابن المسيب.
وثناء إسماعيل ابن أبي خالد على السدي في مقابل نقد الشعبي، وهذا يعود بنا إلى المسألة المشهورة في علم الجرح والتعديل، وهي تعارض الجرح والتعديل وأيهما يقدم؟ (1).
* ومن المهم قبل أن نختم هذا الفصل التنبيه على مسالة مهمة، وهي أن بعض العلماء تسامحوا في نقل التفسير عن رجال تكلم في عدالتهم وسماعهم من شيوخهم مع ترك الاحتجاج بهم في نقل حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وممن أشار إلى ذلك يحيى بن سعيد القطان؛ أحد الأئمة في معرفة الرجال ونقدهم، يقول رحمه الله: «تساهلوا في أخذ التفسير عن قوم لا يوثقونهم في الحديث، ثم ذكر ليث بن أبي سليم (2)،
(1) انظر الكلام عنها في: الكفاية (ص 175)، والمستصفى (1/ 163)، والإحكام للآمدي (2/ 87)،
…
والباعث الحثيث (ص 80)، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 30)، وتدريب الراوي (1/ 364).
(2)
هو أبو بكر القرشي الكوفي، روى عن طاوس ومجاهد وعطاء، وعنه الثوري وشعبة، كان معلماً عابداً صالحاً، لكن حديثه اضطرب بسبب اختلاطه في آخر عمره، فتركه يحيى بن سعيد وابن مهدي وابن معين وأحمد، توفي سنة (138 وقيل 143).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 243)، والمجروحين (2/ 237)، وميزان الاعتدال (4/ 340).
وجويبر بن سعيد، والضحاك، ومحمد بن السائب، وقال: هؤلاء لا يحمد أمرهم، ويكتب التفسير عنهم» (1).
وذكر الخطيب البغدادي (2)
«أن العلماء قد احتجوا في التفسير بقوم لم يحتجوا بهم في مسند الأحاديث المتعلقة بالأحكام، وذلك لسوء حفظهم الحديث وشغلهم بالتفسير» ، ثم ذكر كلام يحيى بن سعيد (3).
وجاء في كلام الإمام أحمد ما يتفق مع كلام الخطيب، فإنه قال في جويبر بن سعيد:«ما كان عن الضحاك فهو أيسر، وما كان يسند عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو منكر» (4).
(1) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 194).
(2)
هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، ولد سنة (392)، واشتغل منذ الصغر بعلم الحديث حتى برع فيه، وعامة مصنفاته فيه، منها: الكفاية، وشرف أصحاب الحديث، توفي في آخر سنة (463).
انظر: وفيات الأعيان (1/ 92)، وتذكرة الحفاظ (3/ 1135).
(3)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 194).
(4)
الجرح والتعديل (1/ 1/540)، ونقل ابن حجر في تهذيب التهذيب (1/ 321) عن أحمد بن سيار المروزي أنه قال في جويبر:«له رواية ومعرفة بأيام الناس، وحاله حسن في التفسير، وهو لين في الرواية» .
وهذا المنهج سلكه بعض المفسرين الذين اعتنوا بنقل الآثار كابن جرير وابن أبي حاتم، سيما من لم يكن الطعن فيه شديداً، كرواية الضحاك عن ابن عباس، ورواية أبي صالح عنه من غير طريق الكلبي.
وهذا الكلام يفيد أمرين:
الأول: أن بعض العلماء قد يجرح في جزئية من الجزئيات، ولا يعني بالضرورة جرحه من كل جهة، واطراحه من كل وجه، فيكون حجة في بعض العلوم التي صرف عنايته إليها، والجرح والتعديل الجزئي من منهج المحدثين، فينتقدون بعض الرواة أو يوثقونهم بالنسبة إلى شيخ أو بلد أو وقت (1)، ومن الأمثلة التوضيحية في غير التفسير:
1 -
عاصم بن أبي النجود رحمه الله (2)،
قال عنه الخطيب البغدادي: «احتج به في القراءات دون الأحاديث المسندات؛ لغلبة علم القرآن عليه فصرف عنايته إليه» (3).
(1) ونبه المعلمي في التنكيل (1/ 65 - 66) إلى أنه قد يُحكى التضعيف مطلقاً، فيتوهم البعض أن الراوي ضعيف في كل شيء، وكذلك الأمر في التوثيق.
(2)
هو أبو بكر عاصم بن بهدلة الأسدي الكوفي الإمام المقرئ، وأبو النجود كنية أبيه، قرأ عاصم على أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش، وتصدى للإقراء فانتهت إليه الإمامة في القراءة بالكوفة، قرأ عليه الأعمش وشعبة وحفص، توفي سنة (127).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 224)، ومعرفة القراء (1/ 88)، وغاية النهاية (1/ 346).
(3)
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/ 194)، وذكره ابن حجر في التقريب (ص 285) وقال:«صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون» .
2 -
محمد بن إسحاق رحمه الله، قال الذهبي بعد ذكر ما كان بينه وبين الإمام مالك:«وهذان الرجلان كل منهما قد نال من صاحبه، لكن أثَّر كلام مالك في محمد بعض اللين، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرة، وارتفع مالك وصار كالنجم، والآخر فله ارتفاع بحسبه، ولا سيما في السير، وأما في أحاديث الأحكام فينحط حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن، إلا فيما شذ فيه، فإنه يعد منكراً، هذا الذي عندي في حاله، والله أعلم» (1).
الثاني: أن نقد المفسر في روايته ونقله لا يعني بالضرورة أن تطرح آراؤه وأقواله في التفسير، فينبغي التفريق بين روايته ورأيه (2)، ولذا ذكرنا في آخر ترجمة المنتقدين ثناء العلماء عليهم في التفسير وعنايتهم به للإشارة إلى مكانتهم في هذا الفن ومنزلتهم فيه.
(1) سير أعلام النبلاء (7/ 41).
(2)
انظر مقالات في علوم القرآن وأصول التفسير د. مساعد الطيار (ص 305).