الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سادساً
نقد تفاسير القُصَّاص
يسبق إلى الذهن عند ذكر القُصَّاص أنهم من يسرد القصص والأخبار، بيد أنهم في العرف الاصطلاحي أعم، فيراد بهم المتصدرون لوعظ الناس وتذكيرهم وحثهم على الخير وترهيبهم من الشر، ويدل لذلك أن تميماً الداري (1) حين استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أن يقص، قال له:«ما تقول؟ ، قال: أقرأ عليهم القرآن، وآمرهم بالخير وأنهاهم عن الشر» (2).
ولعلهم سموا بالقُصَّاص لعنايتهم بأمر القصص والأخبار، وهذا متفق مع معنى القصِّ لغة؛ إذ يعني الإخبار بالشيء، فيقال: قص عليه الرؤيا إذا أخبره بها، والقاص هو الذي يأتي بالقصة على وجهها (3).
(1) هو أبو رقية تميم بن أوس بن حارثة الداري، كان نصرانياً فأسلم سنة تسع وقدم المدينة، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم قصته مع الجساسة والدجال، ثم انتقل إلى الشام بعد مقتل عثمان، وسكن فلسطين وبها توفي.
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 2/129)، والاستيعاب بذيل الإصابة (2/ 58)، والإصابة (1/ 304).
(2)
تاريخ دمشق (11/ 80).
(3)
لسان العرب (5/ 3651) مادة "قصص"، وانظر في تعريف القصاص: أساس البلاغة (ص 510)، والقُصَّاص والمذكرين لابن الجوزي (ص 66 - 67)، وفتح الباري (8/ 412)، ومقدمة تحذير الخواص من أكاذيب القُصَّاص د. الصباغ (ص 6).
وفي قصة تميم واستئذانه لعمر ما يدل على أن عمر توقف في الإذن له حتى ألحَّ عليه، فعن عمرو بن دينار (1):«أن تميماً الداري استأذن عمر في القصص، فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه، فأبى أن يأذن له، ثم استأذنه، فقال: إن شئت، وأشار بيده يعني الذبح» (2).
وعن السائب بن يزيد (3) قال: «لم يكن يقص على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر، وكان أول من قص تميم الداري؛ استأذن عمر بن الخطاب أن يقص على
(1) هو أبو محمد الجمحي مولاهم المكي، سمع ابن عباس وابن عمر وجابراً، وروى عنه ابن عيينة والثوري وشعبة، وقال عنه:«ما رأيت أحداً أثبت في الحديث من عمرو» ، توفي في أول سنة (126).
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 353)، وتذكرة الحفاظ (1/ 113).
(2)
رواه الطبراني في المعجم الكبير (2/ 49)، قال الحافظ العراقي في الباعث على الخلاص (ص 70):«رجال إسناده ثقات» ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 190):«رجاله رجال الصحيح إلا أن عمرو بن دينار لم يسمع من عمر» ، وانظر تحذير الخواص (ص 223)، وفي تاريخ دمشق (11/ 80) أن تميماً استأذن عمر في القصص سنين فيأبى أن يأذن له.
(3)
الكناني المدني، يعرف بابن أخت نمر، حج مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين، روى عن عمر وطلحة وسعد، وعنه الزهري ويحيى الأنصاري، ولاه عمر على سوق المدينة، توفي سنة (86 أو 91).
انظر: أسد الغابة (2/ 321)، والجرح والتعديل (2/ 1/241).
الناس قائماً، فأذن له عمر» (1).
ويستفاد من ذلك أمران:
الأول: أن ظهور القُصَّاص كان مبكراً في خلافة عمر.
الثاني: أن القُصَّاص كانوا يمارسون وظيفتهم بشكل محدود، وتوقف عمر عن الإذن لتميم يدل على أن الأمر ليس معتاداً، أضف إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في القصص لكل أحد في قوله:«لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال» (2)،
(1) رواه أحمد في المسند (3/ 449)، والطبراني في المعجم الكبير (7/ 149)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 190):«فيه بقية بن الوليد وهو ثقة مدلس» ، وقال الحافظ العراقي في الباعث على الخلاص (ص 70):«إسناده جيد، فيه بقية بن الوليد، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد، فزالت تهمة تدليسه» ، وانظر: سنن ابن ماجه، كتاب الأدب، باب القصص (2/ 1235)، ومصنف عبد الرزاق (3/ 219)، ومصنف ابن أبي شيبة (8/ 746، 749).
(2)
جاء هذا الحديث عن عدد من الصحابة؛ فأخرجه من حديث عوف بن مالك: أبو داود في سننه، في كتاب العلم، باب في القصص (3/ 323)، وأحمد في المسند (6/ 23، 27، 29)، والطبراني في المعجم الكبير (18/ 55 - 56، 65 - 66، 76)، قال الحافظ العراقي في الباعث على الخلاص (ص 72):«سكت عليه أبو داود فهو عنده صالح» ، وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح (1/ 80).
وأخرجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ابن ماجه في سننه، في كتاب الأدب، باب القصص (2/ 1235)، والدارمي في سننه (2/ 775)، وأحمد في المسند (2/ 178، 183)، والطبراني في الأوسط (1/ 524)، قال العراقي في الباعث على الخلاص (ص 71): «إسناده صحيح، وصححه الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (11/ 241).
وأخرجه من حديث كعب بن عياض الطبراني في المعجم الكبير (19/ 180)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 190):«رواه الطبراني وفيه عبد الله بن يحيى الأسكندراني ولم أر من ترجمه» ، وقال العراقي في الباعث على الخلاص (ص 73):«إسناده جيد» .
ولذلك بقي القصص في نطاقه الضيق؛ من قبل الولاة أو من ينيبونهم، وبقي على هذه الحال حتى ظهرت الفتن بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، فتوسع الناس- خاصة المبتدعة - في القصص، ولعلهم صنعوا ذلك رغبة في التأثير على عامة الناس واستمالتهم إلى مذاهبهم، ولذا يرد عن بعض السلف أن الذي أحدث القصص أهل البدع، وجاء عن بعضهم أن الذي أحدثها الحرورية، ومرادهم - والله أعلم - اشتهار القصص وكثرتها وظهورها بصورة مخالفة لما عليه الصدر الأول بسبب دخول المبتدعة فيها، وارتكابهم بعض المخالفات والبدع (1)، ولذلك اشتد إنكار الصحابة والتابعين على القصاص، وتنوعت أساليبهم، ومن أبرزها:
1 -
الإنكار القولي على القصاص، فعن عمرو بن زرارة (2) قال: «وقف عليَّ عبد الله بن مسعود وأنا أقص في المسجد، فقال: يا عمرو لقد ابتدعتم بدعة ضلالة،
(1) انظر: كتاب ما جاء في البدع لابن وضاح (ص 56 - 60)، والقصاص والمذكرين (ص 78، 145) وما بعدها، وتحذير الخواص من أكاذيب القصاص (ص 245) وما بعدها.
(2)
هو ابن أغر، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، له ترجمة مختصرة في: التاريخ الكبير (3/ 2/331)، والجرح والتعديل (3/ 233)، والثقات لابن حبان (5/ 174).
أو أنكم لأهدى من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلقد رأيتهم تفرقوا عني، حتى رأيت مكاني ما فيه أحد» (1).
وعن ميمون بن مهران رحمه الله قال: «القاص ينتظر المقت من الله» (2).
2 -
منعهم من الكلام في المساجد وإخراجهم منها، فقد أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإخراج القصاص من المساجد (3).
واستعان ابن عمر بالشرطة في إخراج قاص من المسجد عندما رفض الخروج (4).
3 -
ترك الجلوس إليهم أو الاستماع إلى كلامهم، والاشتغال عنه بالأحاديث الجانبية، فعن سالم:«أن ابن عمر كان يخرج من المسجد فيلقاه الرجل، فيقول: ما شأنك يا أبا عبد الرحمن؟ ، فيقول: أخرجني القاص» (5).
(1) المعجم الكبير (9/ 127 - 128).
(2)
الزهد لابن المبارك (ص 32)، وكتاب ما جاء في البدع لابن وضاح (ص 59).
(3)
الناسخ والمنسوخ للنحاس (1/ 410)، وتحذير الخواص (ص 263).
(4)
مصنف ابن أبي شيبة (8/ 747، 748)، وكتاب ما جاء في البدع لابن وضاح (ص 56)، وتحذير الخواص (ص 263)، وانظر (ص 246) من الكتاب نفسه.
(5)
مصنف عبد الرزاق (3/ 219)، وانظر تحذير الخواص (ص 245).