الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعاً
نقد التكلف في التفسير
يتمتع الصحابة والتابعون رضي الله عنهم بقدر كبير من الجد والاهتمام بالعلم والعمل، والحرص على ما فيه ثمرة وفائدة، وبسببه انصرفوا عما لا يعنيهم، وانتقد بعضهم من تعرض لتفسير بعض الآيات أو حاول فهمها، معتبراً ذلك من التكلف المذموم.
وفي "مفردات ألفاظ القرآن": «التكلف اسم لما يفعل بمشقة أو تصنع أو تشبع، ولذلك صار التكلف على ضربين:
محمود: وهو ما يتحراه الإنسان ليتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلاً عليه، ويصير كلفاً به ومحباً له، وبهذا النظر يستعمل التكليف في تكلف العبادات.
والثاني: مذموم وهو ما يتحراه الإنسان مراءاة، وإياه عنى بقوله تعالى:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (1)» (2).
(1) سورة ص آية (86).
(2)
(ص 721 - 722)، وانظر: معجم مقاييس اللغة (ص 876)، ولسان العرب (5/ 3916)، والقاموس المحيط (ص 1099) مادة "كلف".
ولا بد حين الحكم على تفسير بأنه متكلف من مراعاة أمرين:
الأول: النظر في حال من يفسر القرآن، أو يطلب تفسيره، ومعرفة هدفه وقصده، كأن يقصد الرياء والتصنع، أو إعياء من يسأله عن التفسير.
الثاني: النظر في الآيات المراد تفسيرها.
وبين أيدينا بعض الشواهد عن الصحابة والتابعين في نقد التكلف في تفسير القرآن، وهي لا تخرج عن الصور الآتية:
أولاً: أن يكون المراد من الآية معلوماً، فيتكلف المرء تفسير بعض الألفاظ الخفية مما لا يتوقف عليها فهم المراد من الآية، ومن شواهده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر قوله تعالى:{وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (1)، وقال:«هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ، ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر» ، وفي رواية قال:«وما عليك ألا تدري ما الأب؟ » (2).
(1) سورة عبس آية (31).
(2)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 211)، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 181)، وابن أبي شيبة في المصنف (10/ 512)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 1/237)، وابن جرير في جامع البيان (24/ 123)، والحاكم في المستدرك (2/ 514) كلهم من رواية أنس بن مالك عن عمر، وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره (2/ 283) من طريق الزهري عن عمر، وأخرجه ابن وهب في الجامع (2/ 123) من رواية عبد الرحمن بن محمد الزهري عن عمر، وأخرجه البخاري في صحيحه من طريق أنس في كتاب الاعتصام، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه (8/ 143) مقتصراً على قوله:«نهينا عن التكلف» .
وقد علق ابن كثير على ذلك بقوله: «وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض» (1).
(1) تفسير القرآن العظيم (8/ 348)، وانظر (1/ 16) من الكتاب نفسه، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (13/ 372).
(2)
الموافقات (1/ 57 - 58).
ثانياً: ألا تعود معرفة تفسير الآية على المرء بفائدة في دينه وآخرته، بحيث يصبح الانشغال ببعض معاني الألفاظ القرآنية من قبيل الترف الفكري، ومن الشواهد:
1 -
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً: «سلوني، فقام ابن الكواء، فقال: ما السواد الذي في القمر؟ ، فقال له: قاتلك الله! سل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً، ألا سألت عن شيء ينفعك في أمر دنياك أو أمر آخرتك؟ ! ، ثم قال: ذاك محو الليل» (1).
وقد علق عليه الآجري بقوله: «وقد كان العلماء قديماً وحديثاً يكرهون عضل المسائل ويردونها، ويأمرون بالسؤال عما يعني؛ خوفاً من المراء والجدال الذي نهوا عنه» (2).
2 -
وسئل القاسم بن محمد رحمه الله عن معنى قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} (3)، فقيل له:«أنزل أو لم ينزل؟ ، فقال: لا أبالي أيَّ ذلك كان إلا أني آمنت به» ، وفي رواية أنه قيل له: «يعلمان الناس ما أنزل
(1) أخرجه ابن جرير في جامع البيان (14/ 516)، والآجري في الشريعة (ص 80) واللفظ له، وفي أخلاق العلماء (ص 107)، وابن بطة في الإبانة "الإيمان"(1/ 418).
(2)
الشريعة (80).
(3)
سورة البقرة من الآية (102).
عليهما، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ ، فقال: ما أبالي أيتهما كانت» (1).
ثالثاً: أن يتكلم المرء فيما لا يحسن أو يتجاسر على تفسير ما يجهله من آيات الكتاب العزيز، فيؤدي به إلى الإخلال بفهم القرآن الكريم، ولما ذُكر لابن مسعود رضي الله عنه تفسير أحد القُصَّاص لبعض الآيات؛ قال حين رأى عدم صحة تفسيره:«إن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (2) وإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم» .
ومما يندرج تحته أن يطلب المرء تفسير ما استأثر الله تعالى بعلمه (3)، فعن الربيع بن خثيم (4)
قال: «يا عبد الله ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله، وما استأثر عليك به فكله إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
(1) جامع البيان (2/ 336 - 337).
(2)
سورة ص آية (86).
(3)
وذكر ابن عاشور في التحرير والتنوير (23/ 196) أن المتكلف هو: «الذي يتطلب ما ليس له، أو يدعي علم ما لا يعلمه» .
(4)
هو أبو يزيد الربيع بن خثيم بن عائذ الثوري الكوفي، الإمام العابد، قال عنه ابن مسعود:«لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآك لأحبك» ، وكان من أصحابه، وله كلمات مأثورة في الزهد، توفي بالكوفة في إمرة عبيد الله بن زياد.
انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (6/ 127)، وحلية الأولياء (2/ 105)، والمعارف (ص 497).
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}» (1).
واعتبار بعض التفسيرات من التكلف أو عدم اعتبارها مما تختلف أنظار العلماء حوله، فقد يرى البعض عدم الحاجة لتفسير ما لا يندرج تحته عمل، بينما يرى آخرون ضرورة العناية بكل ما ذكر في القرآن، حتى وإن لم يترتب عليه عمل أو يكون له ثمرة، فعمر عد تأويل الأب من التكلف المذموم، بينما جاء عن بعض الصحابة والتابعين تأويله (2).
وليعلم أن التكلف الذي حدث بعد عصر الصحابة والتابعين خاصة بعد انتشار الفرق وتشعبها أخذ أبعاداً خطيرة في تأويل النصوص، ومن صوره ما ذكره ابن تيمية أن بعضهم يجعل ظاهر اللفظ القرآني شيئاً يستحيل فهمه على عامة الناس ثم يتأوله (3)، ولذلك جعل العلماء البعد عن التكلف والتعسف في التفسير شرطاً لصحته وقبوله، فاشترطوا في التفسير الصحيح «أن يكون مطابقا لللفظ من حيث الاستعمال، سليماً من التكلف، عرياً من التعسف» (4).
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 136).
(2)
انظر: جامع البيان (24/ 121 - 123)، والدر المنثور (6/ 316 - 317).
(3)
مجموع الفتاوى (5/ 106).
(4)
التحرير والتنوير (1/ 28)