الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلتُ له: ولَعَلَّها تَعْلَقُ بوَلَدٍ، فيكونُ مَعَهم. قال: وهذا أيضًا. وأمّا الذى يَدْخُلُ إليهم بأمانٍ، كالتاجِرِ ونحوِه، فهو الذى أرادَ الخِرَقِىُّ، إنْ شاءَ اللَّه تعالى، فلا يَنْبَغِى له التزوُّجُ؛ لأنَّه لا يأْمَنُ أنْ تَأْتِىَ امْرَأَتُه بوَلَدٍ، فيَسْتَوْلِىَ عليه الكُفَّارُ، ورُبَّما نَشَأَ بينهم، فيصيرُ على دينِهم. فإنْ غَلَبَت عليه الشَّهْوَةُ، أُبِيحَ له نِكاحُ مُسْلِمَةٍ؛ لأنَّها حالُ ضَرُورَةٍ، وَيعْزِلُ عنها، كيلا تَأْتِىَ بوَلَدٍ. ولا يَتَزَوَّجُ منهم؛ لأنَّ امْرَأَتَه إذا كانَتْ منهم، غَلَبَتْه على ولَدِها، فيَتْبَعُها على دِينِها. وقال القاضى، فى قولِ الخِرَقِىّ: هذا نَهْىُ كراهَةٍ، لا نَهْىُ تَحْريمٍ؛ لأنَّ اللَّه تَعالَى قال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (11). ولأنَّ الأَصْلَ الحِلُّ، فلا يَحْرُمُ بالشَّكِّ والتَّوَهُّمِ، وإنَّمَا كَرِهْنا له التَّزَوُّجَ منهم مَخافَةَ أنْ يغْلِبُوا على ولدِه، فيَسْتَرِقُّوهُ، ويُعَلِّمُوه الكُفْرَ، ففى تَزْويجِه تَعْرِيضٌ لهذا الفَسادِ العظيمِ، وازْدادَتْ الكَراهَةُ إذا تَزَوَّجَ منهم؛ لأنَّ الظاهِرَ أنَّ امْرَأَتَه تَغْلِبُه على ولَدِها، فتكفِّرُه، كما أنَّ حكْمَ الإِسْلامِ تَغْلِيبُ (12) الإِسلامِ فيما إذا أسْلَمَ أَحَدُ الأَبَوَيْنِ، أو تَزَوَّجَ مسلمٌ (13) ذِمِّيَّةً، وإذا (14) اشْتَرَى منهم جارِيَةً، لم يَطَأْها فى الفَرْجِ فى أَرْضِهم، مَخافَةَ أنْ يغْلِبوهُ على ولدِها، فيَسْتَرِقُّوه، ويُكَفِّرُوه.
فصل فى الهِجْرة:
وهى الخروجُ من دارِ الكُفْرِ إلى دَارِ الإِسلامِ. قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (15) الآياتِ. ورُوِىَ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أَنَا بَرِىءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِينَ، لَا تَرَاءَا نَارَاهُما"(16). روَاه أبو داوُدَ، [والنَّسائىُّ، والتِّرْمِذِىُّ](17). ومَعْناه لا يكونُ بمَوْضِعٍ يرَى نارَهم، ويَرَوْنَ نارَه، إذا
(11) سورة النِّساء 24.
(12)
فى م: "تغلب".
(13)
فى م: "المسلم".
(14)
سقطت "إذا" من: م.
(15)
سورة النِّساء 97.
(16)
في الأصل، أ:"نارهما".
(17)
سقط من: م. وأخرجه أبو داود، فى: باب النهى عن قتل من اعتصم بالسجود، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 43. والنسائي، فى: باب القود بغير حديدة، من كتاب القسامة. المجتبى 8/ 32. والترمذى، فى: باب ما =
أُوقِدَتْ. فى آىٍ وأخْيار سِوَى هذَيْن كثيرٍ. وحُكْمُ الهِجْرَةِ باقٍ، لا يَنْقَطِعُ إلى يومِ القيامَةِ. فى قولِ عامَّةِ أَهْلِ العِلْم. وقال قَوْمٌ: قد انْقَطَعَت الهِجْرَةُ، لأنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفتْحِ"(18). وقال: "قَدِ انْقَطَعَتِ الهِجْرَةُ، ولكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ"(18). ورُوِىَ أنَّ صَفْوانَ بن أُمَيَّةَ لمَّا أَسْلَم، قيل له: لا دِينَ لِمَنْ لم يُهاجِرْ. فأَتَى المدينَةَ، فقال له النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم:"مَا جَاءَ بِكَ أَبَا وَهْبٍ؟ " قال: قيل: إنَّه لا دِينَ لمَنْ لم يُهاجِر. قال: "ارْجِعْ أَبَا وَهْبٍ إلَى أباطِحِ مَكَّةَ، أقِرُّوا عَلَى مَسَاكِنِكُمْ، فَقَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ، وَلكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ". روَى ذلك (19) كلَّه (20) سعيدٌ (21). ولَنا، ما رَوَى مُعاوِيَةُ، قال: سمِعْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، ولَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا". روَاه أبو داوُدَ (22). ورُوِىَ عن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: "لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ مَا كَانَ الْجِهادُ". رواه سعيدٌ (23)، وغيرُه، مع إطلاقِ الآياتِ والأخْبارِ الدّالَّةِ عليها، وتَحقُّقِ المعنَى المُقْتَضِى لها فى كلِّ زمانٍ. وأمَّا الأحادِيثُ الأُوَلُ،
= جاء فى كراهية المقام بين أظهر المشركين، من أبواب السِّيَر. عارضة الأحوذى 7/ 104، 105.
(18)
أخرجه البخارى، فى: باب فضل الجهاد والسير وقول اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ. . .} ، وباب وجوب النفير، وباب لا هجرة بعد الفتح، من كتاب الجهاد. صحيح البخارى 4/ 18، 28، 92. ومسلم، فى: باب المبايعة بعد فتح مكة. . .، من كتاب الإمارة. صحيح مسلم 3/ 1488. والترمذى، فى: باب ما جاء فى الهجرة، من أبواب السِّيَر. عارضة الأحوذى 7/ 88. والنسائى، فى: باب ذكر الاختلاف فى انقطاع الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 130، 131. والإِمام أحمد، فى: المسند 1/ 226، 266، 316، 2/ 215، 3/ 22، 401، 5/ 71، 187، 6/ 466.
(19)
سقط من: م.
(20)
فى ب زيادة: "عن".
(21)
فى: باب من قال: انقطعت الهجرة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 137.
كما أخرجه النسائي، فى: باب ذكر الاختلاف فى انقطاع الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 131.
(22)
فى: باب فى الهجرة، هل انقطعت؟ ، من كتاب الجهاد. سنن أبي داود 2/ 3.
كما أخرجه الدارمى، فى: باب أن الهجرة لا تنقطع، من كتاب السِّيَر. سنن الدارمى 2/ 240. والإِمام أحمد، فى: المسند 4/ 99.
(23)
فى: باب من قال: انقطعت الهجرة، من كتاب الجهاد. السنن 2/ 138.
كما أخرجه النسائي، فى: باب ذكر الاختلاف فى انقطاع الهجرة، من كتاب البيعة. المجتبى 7/ 131. والإِمام أحمد، فى: المسند 1/ 192، 4/ 62، 5/ 270، 363، 375.
فأرادَ بها، لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ من بَلَدٍ قد فُتِحَ. وقَوْلُه لِصَفْوانَ:"إنَّ الهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ". يَعْنِى من مَكَّة؛ لأنَّ الهِجْرَةَ الخروجُ من بَلَدِ الكُفَّارِ، فإذا فُتِحَ لم يَبْقَ بلدَ الكُفَّارِ، فلا تَبْقَى منه هِجْرَةٌ. وهكذا كُلّ بَلَدٍ فُتِحَ لا يَبْقَى منه هِجْرَةٌ، وإنَّما الهِجْرَةُ إليه. إذا ثَبَتَ هذا، فالناسُ فى الهِجْرَةِ على ثلاثَةِ أضْرُب؛ أحدُها، مَنْ تَجِب عليه، وهو مَنْ يَقْدِرُ عليها، ولا يُمْكِنُه إظْهارُ دِينهِ، أوْ لا (24) تُمْكِنُه إقامَةُ واجباتِ دِينهِ مع المُقامِ بينَ الكُفَّارِ، فهذا تَجِبُ عليه الهِجْرَةُ؛ لقولِ اللَّه تعالي:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} . وهذا وَعِيدٌ شديدٌ يَدُلُّ على الوُجوبِ. ولأَنَّ القيامَ بواجِبِ دِينهِ واجِبٌ على مَنْ قَدَرَ عليه، والهِجْرَةُ من ضَرُورَةِ الواجِبِ وتَتِمَّتِه، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو (25) واجِبٌ. الثاني؛ مَنْ لا هِجْرَةَ عليه. وهو مَنْ يَعْجِزُ عَنْها، إمَّا لمرَضٍ، أو إكراهٍ على الإِقامَةِ، أو ضَعْفٍ؛ من النِّساءِ والوِلْدَانِ وشِبْهِهِم، فهذا لا هِجْرَةَ عليه؛ لقَوْلِ اللَّه تعالى:{إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (26). ولا تُوصَفُ باسْتِحْبابٍ؛ لأنَّها غيرُ مَقْدُورٍ عليها. والثالثُ، مَنْ تُسْتَحَبُّ له، ولا تَجِبُ عليه. وهو مَنْ يَقْدِرُ عليها، لكِنَّه يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهارِ دِينهِ، وإقامَتِه فى دارِ الكُفْرِ (27)، فتُسْتَحَبُّ له، ليتَمَكَّنَ من جهادِهم، وتكْثيرِ المسلمين، ومَعُونَتِهم، وَيَتَخَلَّصَ من تَكْثِيرِ الكُفَّارِ، ومُخالَطَتِهم، ورُؤْيةِ المُنْكَرِ بينَهم. ولا تَجِبُ عليه، لإِمْكانِ إِقامَةِ واجِبِ دينهِ بدُونِ الهِجْرَةِ. وقد كان العبَّاسُ عَمُّ النّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مُقِيمًا بمكَّةَ مع إسْلامِه (28). ورَوَيْنا أنَّ نُعَيْمَ النَّحَّامَ، حين أرادَ أنْ يُهاجِرَ، جاءَه قومُه بنو عَدِىٍّ، فقالوا له: أقِمْ عندَنا، وأَنْتَ على دِينِكَ، ونحن نَمْنَعُك ممَّنْ يُرِيدُ
(24) فى أ، م:"ولا".
(25)
سقط من: أ.
(26)
سورة النِّساء 98، 99.
(27)
فى ب: "الكفار".
(28)
هاجر قبل الفتح بقليل، وشهد الفتح. انظر الإصابة 3/ 631.