الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأمانِ، وسائرُ الخِصال فيها رِوايتان؛ إحْدَاهما (11)، أَنَّ العَهْدَ ينتَقِضُ بها، سواءٌ شُرِطَ عليهم ذلك أو لم يُشْرَطْ (12). ومذهَبُ (13) الشافِعِىِّ قريبٌ من هذا. إلَّا أنَّ ما لَمْ يُشْرَطْ (14) عليهم، لا يَنْتَقِضُ العَهْدُ بتَرْكِه، ما خلا الخِصال الثَّلاثِ (15) الأُولَى، فإنَّه يَتَعَيَّنُ شرطُها، ويَنْتَقِضُ العَهْدُ بتَرْكِها بكلِّ حالٍ. وقال أبو حنيفة: لا يَنْتَقِضُ العهدُ إلَّا بالامْتِناعِ من الإِمامِ على وجْهٍ (16) يتَعذرُ معه أخذُ الجِزْيَه منهم. ولَنا، مع ما ذكرْناه، ما رُوِى أَنَّ عمرَ رُفِعَ إليه رجلٌ قد أرادَ اسْتِكْراهَ امرأةٍ مسلِمَةٍ [على الزِّنَى](17)، فقال: ما عَلَى هذا صالَحْناكُم. وأمرَ به
فصُلِ
بَ فى بيتِ المقْدِسِ (18). ولأنَّ فيه ضَررًا على المسلمين، فأشْبَهَ الامْتناعَ من بَذْلِ الجِزْيَةِ. كلُّ موضع قُلْنا: لا ينْتَقِضُ عهدُه. فإنَّه إنْ فعلَ ما فيه حَدٌّ أُقيمَ عليه حَدُّه أو قِصاصُه، وإن لم يوجبْ حدًّا، عُزِّرَ، ويُفْعَلُ به ما ينْكَفُّ به أمثالُه عن فِعْلِه. فإنْ أرادَ أحدٌ منهم فِعْلَ ذلك كُفَّ عنه، فإنْ مانَعَ بالقتالِ نُقِضَ عهدُه. ومَنْ حَكَمْنا بنَقْضِ عَهْدِه منهم، خُير الإِمامُ فيه بينَ [أربعةِ أشياءَ](19)؛ القتلُ، والاسْتِرْقاقُ، والفِداءُ، والمَنُّ، كالأسيرِ الْحَرْبِىِّ؛ لأنَّه كافِرٌ قَدَرْنا عليه فى دارِنا بغيرِ عَهْدٍ ولا عَقْدٍ، ولا شُبْهَةِ ذلك، فأشْبَهَ اللِّصَّ الْحَرْبِىَّ. ويخْتَصُّ ذلك به دونَ ذُرِّيَتِه؛ لأنَّ النَّقْضَ إنَّما وُجِدَ منه دُونَهم، فاخْتَصَّ به، كما لو أَتَى ما يُوجِبُ حَدًّا أو تَعْزِيرًا.
فصل: أمصارُ المسلمين على ثلاثةِ أقسامٍ، أحدُها، ما مَصَّرَه المسلمون، كالبَصْرَةِ والكوفَةِ وبغدادَ ووَاسِطَ، فلا يجوزُ فيه إحْداثُ كنيسةٍ ولا بِيعَةٍ ولا مُجْتَمَعٍ لصلاتِهم، ولا
(11) فى أ، ب، م:"أحدهما".
(12)
فى ب، م:"يشترطوا".
(13)
فى م: "وظاهر مذهب".
(14)
فى أ، م:"يشترط".
(15)
فى م: "ثلاث".
(16)
فى م زيادة: "لا".
(17)
سقط من: الأصل.
(18)
أخرجه عبد الرزاق، فى: باب المعاهد يغدر بالمسلم، من كتاب أهل الكتابين. المصنف 10/ 363، 364. وابن أبى شيبة، فى: باب فى الذمى يستكره المسلمة على نفسها، من كتاب الحدود. المصنف 96/ 10، 97.
(19)
سقط من: الأصل، أ، ب.
يجوزُ صُلْحُهم على ذلك، بدليلِ ما رُوِىَ عن عِكْرِمَةَ، قال: قال ابنُ عبَّاس: أيُّما مِصْرٍ مَصَّرَتْه العربُ، فليس للعجَمِ أَنْ يبْنُوا فيه بِيعَةً، ولا يضْرِبُوا فيه ناقُوسًا، ولا يشْربُوا فيه خمرًا، ولا يتَّخِذُوا فيه خِنْزيرًا. روَاه الإِمامُ أحمدُ (20)، واحتَجَّ به. ولأنَّ هذا البلدَ مِلْكٌ للمسلمين، فلا يجوزُ أَنْ يبْنُوا فيه مَجامِعَ للكُفْرِ. وما وُجِدَ فى هذه البلاد من البيَعِ والكنائِسِ، مثل كنيسة الرُّومِ فى بغداد، فهذه كانت فى قُرَى أهلِ الذِّمَّةِ، فأُقِرَّتْ على ما كانتْ عليه. القسم الثانى، ما فَتَحَهُ المسلمون عَنْوَةً، فلا يجوزُ إحْداثُ شىءٍ من ذلك فيه؛ لأنَّها صارَتْ ملكًا للمسلمين، وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان؛ أحدُهما، يجبُ هَدْمُه، وتَحْرُمُ تَبْقِيَتُه؛ لأنَّها بلادٌ مملوكَةٌ للمسلمين، فلم يَجُزْ أَنْ تكونَ فيها بِيعَةٌ، كالبلادِ التى اخْتَطَّها المسلمُون. والثانى، يجوزُ؛ لأنَّ فى حديثِ ابنِ عباس: أيُّما مِصْرٍ مَصَرَّتْه العَجَمُ، فَفَتَحَه اللَّهُ على العَربِ، فنزَلُوه، فإنَّ للعجَمِ ما فى عَهْدِهم. ولأنَّ الصحابَةَ، رَضِىَ اللَّهُ عنهم، فَتَحُوا كثيرًا من البلادِ عَنْوَةً، فلم يَهْدِمُوا شيئًا من الكنائِس. ويَشْهَدُ لصِحَّةِ هذا، وجودُ الكنائِسِ والبِيَعِ فى البلادِ التى فُتِحَتْ عَنْوَة، ومعلومٌ أنَّها ما أُحْدِثَتْ، فيَلْزَمُ أَنْ تكونَ موجودةً فأُبْقِيَتْ. وقد كَتَبَ عمرُ بن عبد العزيز، رَضِىَ اللَّهُ عنه، إلى عُمَّالِه، أَنْ لا يهدِمُوا بِيعَةً ولا كنيسةً ولا بَيْتَ نارٍ. ولأنَّ الإجْماعَ قد حَصَلَ على ذلك، فإنَّها موجودَةٌ فى بلادِ (21) المسلمين من غيرِ نَكِيرٍ. القسمُ الثالثُ، ما فُتِحَ صُلْحًا، وهو نَوْعان؛ أحدُهما، أَنْ يُصالِحَهم على أَنَّ الأرْضَ لهم، ولنا الخراجُ عنها، فلهم إحداثُ ما يخْتارون (22) فيها؛ لأنَّ الدارَ لَهم. والثانى، أَنْ يُصالِحَهُم على أَنَّ الدارَ للمسلمين، ويُؤَدُّون (23) الجِزْيَةَ إلينا، فالحُكْمُ فى البِيَعِ والكنائِسِ على ما يَقَعُ عليه الصُّلْحُ معهم، من إحْداثِ ذلك، وعِمارَتِه؛ لأنَّه إذا جازَ أَنْ يقَعَ الصُّلْحُ معهم على أن الكُلَّ لهم، جازَ أَنْ
(20) وأخرجه البيهقى، فى: باب لا تهدم لهم كنيسة ولا بيعة. . .، من كتاب الجزية. السنن الكبرى 9/ 202. وعبد الرزاق، فى: باب هدم كنائسهم وهل يضربون بناقوس، من كتاب أهل الكتاب. المصنف 6/ 60.
(21)
فى الأصل: "بلد".
(22)
فى م: "يحتاجون".
(23)
أى: "وهم يؤدون".
يُصالَحُوا على أَنْ يكونَ بعضُ البَلَدِ لهم.، ويكون (24) مَوْضِعُ الكنائِس والبِيَعِ مُعَيَّنًا (25) والأوْلَى أَنْ يُصالِحَهم على ما صالَحهم عليه عمرُ، رَضِىَ اللَّهُ عنه، ويَشْتَرِطَ عليهم الشُّروطَ المذكورَةَ فى كتابِ عبد الرحمن بن غَنْمٍ، أَنْ لا يُحْدِثُوا بِيعَةً، ولا كنيسَةً، ولا صَوْمَعَةَ راهِبٍ، ولا قلايةً. وإِنْ وقَعَ الصُّلْحُ مُطْلقًا من غيرِ شرْطٍ، حُمِلَ على (26) ما وَقَعَ عليه صُلْحُ عمرَ، وأُخِذُوا بشُروطِه. فأمَّا الذينَ صالَحَهُم عمرُ، وعَقَدَ معهم الذِّمَّةَ، فهم على ما فى كتابِ عبد الرحمن بن غَنْمٍ، مَأْخوذُون بشروطِه كلِّها، وما وُجِدَ فى بلادِ المسلمين من الكنائِسِ والبِيَعِ، فهى على ما كانتْ عليه فى زَمَنِ فاتِحيها ومَنْ بَعْدَهم، وكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنا: يجوزُ إقرارُها. لم يَجُزْ هَدْمُها، ولهم رَمُّ ما تشَعَّثَ منها، وإصلاحُها؛ لأنَّ المنْعَ من ذلك يُفْضِى إلى خَرابِها وذَهابِها، فجَرَى مَجْرَى هَدْمِها. وإِنْ وقَعَت كلُّها، لم يجُزْ بناؤُها. وهو قولُ بعضِ أصحابِ الشافِعِىِّ. وعن أحمد، أنَّه يجوزُ. وهو قولُ أبى حنيفة، والشافِعِىِّ؛ لأنَّه بناءٌ لما اسْتَهْدَمَ، فأشْبَهَ بِناءَ بعضِها إذا انْهَدَمَ، ورَمَّ شَعَثِها، ولأنَّ اسْتدامَتَها جائزَةٌ، وبناؤُها كاستدامَتِها. وحَمل الخَلَّالُ قولَ أحمدَ: لهم أَنْ يبْنُوا ما انْهَدَمَ منها. أى إذا انْهَدَمَ بعْضُها، ومَنْعَهُ من بِناءِ ما انْهَدَمَ، على [ما إذا](27) انْهَدَمَت كُلُّها، فجَمَعَ بين الرِّوايَتَيْن. ولَنا، أَنَّ فى كتابِ أهلِ الجزيرَةِ لعياض (28) بن غَنْمٍ: ولا نُجَدِّدَ ما خَرِبَ من كَنائِسِنا. وروى كثيرُ بن مُرَّة، قال: سمِعْتُ عمرَ بن الخطاب يقولُ: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لَا تُبْنَى الْكَنِيسَةُ فِى الإِسْلَامِ، ولَا يُجَدَّدُ ما خَرِبَ مِنْهَا"(29). ولأنَّ هذا بناءُ كنيسَةٍ (30) فى دارِ الإِسلامِ، فلم يَجُزْ، كما لو ابتُدِى بناؤُها. وفارَقَ رَمّ [ما تَشَعَّثَ](31)؛ فإنَّه إبْقاءٌ واسْتدامَةٌ، وهذا إحْداثٌ.
(24) فى م زيادة: "معهم".
(25)
فى م: "معنا" خطأ.
(26)
سقط من: الأصل، م.
(27)
فى م: "إذا ما".
(28)
كذا فى النسخ. وسبق "عبد الرحمن" فى صفحة 237. وعياض يرد ذكره فى الجزية أيضًا، ولكن فى غير هذا الموضع. انطر: الأموال 43. وخبر عياض بن غنم مع أهل الجزيرة، فى: تاريخ الطبرى 4/ 53 - 55.
(29)
ذكره السيوطى، فى الجامع الكبير 1/ 880 وعزاه إلى الديلمى وابن عساكر.
(30)
فى ب: "لكنيسة".
(31)
فى م: "شعثها".