الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَوْنِها غيرَ مُنْعَقِدَةٍ، أَنَّها لا تُوجِبُ بِرًّا، ولا يُمْكِنُ فيها، ولأنَّه قارَنَها ما يُنافِيها، وهو الحنثُ، فلم تَنْعَقِدْ، كالنِّكاحِ الذى قارَنَه الرَّضاعُ، ولأنَّ الكَفَّارَةَ لا تَرْفَعُ إثْمَها، فلا تُشرَعُ (2) فيها، ودليلُ ذلك أنَّها كبيرَةٌ، فإنَّه يُرْوَى عن النَّبىِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"مِنَ الْكَبائِرِ الْإشْرَاكُ بِاللَّه، وعُقوقُ الْوَالِدَيْن، وقتْلُ النَّفْس، والْيَمِينُ الْغَمُوسُ". روَاه البُخارِىُّ (3)، ورُوِىَ فيه:"خَمْسٌ مِنَ الْكَبائِرِ لا (4) كَفَّارَةَ لَهُنَّ؛ الإشْرَاكُ بِاللَّهِ، والْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وبَهْتُ المُؤْمِنِ، وقَتْلُ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، والحَلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَاجِرَةٍ يَقْتَطِعُ بِها مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ"(5). ولا يصِحُّ القِياسُ على المُسْتَقْبَلةِ، لأَنّها يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ، يُمْكِنُ حلُّها والبِرُّ فيها، وهذه غيرُ مُنْعَقِدَةٍ، فلا حَلَّ لها. وقولُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم:"فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينهِ، ولْيَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ"(6). يدلُّ على أَنَّ الكَفّارَةَ إنَّما تَجِبُ بالحَلِفِ على فِعْلٍ يفْعَله فيما يستَقْبلُه. قالَه ابنُ المُنْذِرِ.
1781 - مسألة؛ قال: (والْكَفَّارَةُ إِنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ حَلَفَ يُرِيدُ عقْد الْيَمِينِ)
وجُمْلته أَنَّ الْيَمِينَ التى تَمُرُّ على لسانِه فى عُرْضِ حَدِيثِه، من غيرِ قَصْدٍ إليها، لا كَفَّارَةَ فيها، فى قولِ أكثرِ أهلِ العِلْمِ؛ لأَنَّها من لَغْوِ اليَمِينِ. نقلَ عبدُ اللَّه، عن أبيه، أنَّه قال: اللَّغْوُ عِنْدِى أَنْ يَحْلِفَ على الْيَمِينِ، يَرَى أنَّها كذلك، والرَّجُلُ يحْلِفُ فلا يَعْقِدُ قَلْبَه على شىءٍ. وممَّنْ قال: إنّ اللَّغْوَ اليَمِينُ التى لا يَعْقِدُ عليها قَلْبَه؛ عمرُ، وعائِشَةُ، رَضِىَ اللَّهُ
(2) فى ب: "تسن".
(3)
فى: باب اليمين الغموس، من كتاب الأيمان، وفى: باب قول اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا} ، من كتاب الديات، وفى: باب قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، من كتاب المرتدين. صحيح البخارى 8/ 171، 9/ 4، 17.
كما أخرجه الترمذى، فى: باب سورة النساء، من أبواب التفسير. عارضة الأحوذى 11/ 152. والنسائى، فى: باب ذكر الكبائر، من كتاب تحريم الدم، وفى: باب ما جاء فى كتاب القصاص. . .، من كتاب القسامة. المجتبى 7/ 82، 8/ 57. والدارمى، فى: باب التشديد فى قتل النفس المسلمة، من كتاب الديات. سنن الدارمى 2/ 191. والإمام أحمد، فى: المسند 2/ 201، 3/ 495.
(4)
فى ب: "ولا".
(5)
أخرجه الإمام أحمد، فى: المسند 2/ 362.
(6)
تقدم تخريجه، فى: 11/ 39.
عنهما. وبه قال عَطاءٌ، والقاسِمُ، وعِكْرِمَةُ، والشَّعْبِىُّ، والشَّافِعِىُّ؛ لما رُوِىَ عن عَطاءٍ، قال: قالت عائِشَةُ: إِنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال، يَعْنِى اللَّغْو فى اليَمِينِ:"هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِى بَيْتِهِ: لَا وَاللَّهِ. وبَلَى (1) وَاللَّهِ". أخْرَجَه أبو داود (2). قال: ورواه الزُّهْرِىُّ، وعبدُ المَلِكِ بنُ أبى سُلَيمان، ومالِكُ بنُ مِغْوَلٍ، عن عَطاءٍ، عن عائِشَةَ مَوْقُوفًا. ورَوَى الزُّهْرِىُّ، أن عُرْوةَ حَدَّثَه، عن عائِشَةَ، قالتْ: أيمانُ اللَّغْوِ، ما كان فى المِرَاءِ، والهَزْلِ، والْمُزاحَةِ، والحديثِ الذى لا يُعْقَدُ عليه القلبُ، وأيْمانُ الكَفّارَةِ كُلُّ يَمِينٍ حلَفَ عليها على وَجْهٍ من الأمْرِ، فى غضَبٍ أو غيرِه، ليفْعَلَنَّ، أو ليَتْرُكَنَّ، فذلك عَقْدُ الأَيْمانِ التى فَرَضَ اللَّه تعالَى فيها الكَفّارَةَ (3) ولأنَّ اللَّغْوَ فى كلامِ العرَبِ الكلامُ غيرُ المعقودِ عليه. وهذا كذلك. وممَّنْ قال: لا كَفَّارَةَ فى هذا؛ ابنُ عبّاسٍ، وأبو هُرَيْرةَ، وأبو مالِكٌ، وزُرارَةُ بن أوْفَى (4)، والحسنُ، والنَّخَعِىُّ، ومالِكٌ. وهو قولُ مَن قال: إنَّه من لَغْوِ الْيَمِينِ. ولا نعلمُ فى هذا خِلافًا. ووَجْهُ ذلك قولُ اللَّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (5). فجَعَلَ الكَفّارَةَ للْيَمِينِ التى يُؤاخَذُ بها، ونَفَى المُؤاخَذَةَ باللَّغْوِ، فلَزِمَ (6) انْتِفاءُ الكفَّارَةِ، ولأنَّ المُؤاخَذَةَ يَحْتَمِلُ أَنْ يكونَ مَعْناها إيجابَ الكَفَّارَةِ، بدليلِ أَنّها تَجبُ فى الأيْمانِ التى لا مَأْثَمَ فيها، وإذا كانت المُؤَاخَذَةُ إيجابَ الكَفَّارَةِ، فقد نَفاها فى اللَّغْوِ، فلا تَجِبُ، ولأن قولُ مَن سَمَّيْنا من الصَّحابَةِ، ولم نَعْرِفْ لهم مُخالِفًا فى عَصْرِهم، فكان إجماعًا، ولأَنَّ قولَ عائِشَةَ فى تفسيرِ اللَّغْوِ، وبَيانِ الأَيْمانِ التى فيها الكَفَّارَةُ، خَرَجَ منها تفسيرًا لكلامِ اللَّهِ تعالى، وتَفْسِيرُ الصَّحابِىِّ مَقْبولٌ.
(1) سقطت الواو من: ب.
(2)
فى: باب لغو اليمين، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبى داود 2/ 200.
(3)
أخرجه البيهقى، فى: باب لغو اليمين، من كتاب الأيمان. السنن الكبرى 10/ 49. وأخرج عبد الرزاق نحوه، باب اللغو وما هو؟ ، من كتاب الأيمان والنذور. المصنف 8/ 474.
(4)
زرارة بن أوفى العامرى البصرى القاضى، تابعى ثقة، توفى سنة ثلاث وتسعين. تهذيب التهذيب 3/ 322، 323.
(5)
سورة المائدة 89.
(6)
فى أ، ب، م:"فيلزم".
1782 -
مسألة؛ قال: (وَمَنْ حَلَفَ عَلَى شَىْءٍ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ، [فَلَمْ يَكُنْ] (1)، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لأَنَّهُ مِنْ لَغْوِ الْيَمِينِ)
أكثَرُ أهلِ العلمِ على أَنَّ هذه اليَمِينَ لا كَفَّارَةَ فيها. قالَه ابنُ المُنْذِر. يُرْوَى هذا عن ابنِ عَباسٍ، وأبى هُريرةَ، وأبى مالِكٍ، وزُرَارةَ بنِ أوْفَى، والحسنِ، والنَّخَعِىِّ، ومالِكٍ، وأبى حنيفةَ، والثَّوْرِىِّ. وممَّن قال: هذا لَغْوُ اليَمينِ. مجاهِد، وسليمانُ بنُ يَسارٍ، والأوْزَاعِىُّ، والثَّوْرِىُّ، وأبو حنيفةَ وأصْحابُه. وأكثرُ أهلِ العِلْمِ على أَنَّ لَغْوَ اليَمينِ لا كَفَّارَةَ فيه. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: أجْمَعَ المسلمون على هذا. وقد حُكِىَ عن النَّخَعِىِّ فى الْيَمِينِ على شىءٍ يظُنُّه حَقًّا، فيَتَبينُ بخِلافِه، أنَّه من لَغْوِ اليَمِينِ، [وفيه الكَفَّارَةُ. وهو أحدُ قَوْلَى الشافِعِىِّ. ورُوِىَ عن أحمدَ، أَنَّ فيه الكَفَّارَةَ، وليس من لغْوِ الْيَمِينِ](2)؛ لأَنَّ اليمينَ باللَّه تعالَى وُجدَت مع المُخالَفَةِ، فأوْجَبَت الكَفَّارَةَ، كالْيَمِينِ على مُسْتَقْبَل ولَنا، قَوْلُ اللَّه تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ} (3). وهذه منه، ولأَنَّها يمينٌ غيرُ مُنْعَقِدَةٍ، فلم تجِبْ فيها كَفَّارَةٌ، كيَمِينِ الغَمُوس، ولأنه غيرُ قاصِدٍ (4) للمُخالَفَةِ، فأشْبَهَ ما لو حَنَثَ ناسِيًا. وفى الجُمْلَةِ، لا كفَّارَةَ فى يَمِينٍ على ماضٍ؛ لأنَّها تَنْقَسِمُ ثلاثةَ أَقْسامٍ؛ ما هو صادِقٌ فيه، فلا كَفَّارَةَ فيه إجْماعًا. وما تَعَمَّدَ الكَذِبَ فيه، فهو يَمِينُ الغَمُوسِ، لا كَفَّارَةَ فيها؛ لأنها أعْظَمُ من أَنْ تكونَ فيها (5) كَفَّارَةٌ. وما يَظُنُّه حَقًّا، فيَتَبيَّنُ بخِلافِه، فلا كَفّارَةَ فيه؛ لأنَّه من لَغْوِ الْيَمِينِ. فأمَّا اليَمِينُ على المُسْتقْبَلِ، فما عقدَ عليه قَلْبَه، وقصَدَ اليَمِينَ عليه، ثم خالَفَ، فعليه الكَفَّارَةُ، وما لم يعْقِدْ عليه قَلْبَه، ولم يقْصِدِ اليَمِينَ عليه، وإنَّما جَرَت على لِسَانِه، فهو من لَغْوِ اليَمِينِ. وكلامُ عائِشَةَ يدُلُّ على هذا، فإنَّها قالتْ: أيمانُ اللَّغْوِ؛ ما كانَ فى المِراءِ والمُزَاحَةِ، والهَزْلِ، والحديثِ الذى لا يُعْقَدُ عليه القلبُ، وأيمانُ الكَفّارَةِ؛ كُلُّ يَمِينٍ حَلَفَ عليها على وَجْهٍ من الأمرِ، فى غَضَبٍ أو
(1) لم يرد فى: الأصل، أ.
(2)
سقط من: ب. نقل نظر.
(3)
سورة المائدة 89.
(4)
فى م: "مقصود".
(5)
لم يرد فى: الأصل.