الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
إن الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَ لَه ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لَه، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار شهادةٌ أدخرها ليومٍ تذهل فيه العقول وتشخصُ فيه الأبصار شهادةٌ أرجو بها النجاةَ من دار البوار وأؤمل بها جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، هو الأولُ فليس قبله شيء والآخرُ فليس بعده شيء والظاهر فليس فوقه شيء والباطن فليس دونه شيء، ليس كمثلهِ شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى المختار الماحي لظلام الشرك بثواقب الأنوار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار صلاةً تدوم بتعاقب الليل والنهار.
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]
(يا أيها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًاً)
[النساء/ 1]
(يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب 70 - 71]
أما بعد
لما كان الداعية إلى الله تعالى يحتاج إلى الزهد حاجةً مُلِّحَةً مَاسَّةً لأن الزهد ليس من نافلة القول، بل هو أمر لازم لكل من أراد رضوان الله تعالى والفوز بجنته، فالزهد طريق النجاة، وسلم الوصول، ومنهاج القاصدين، ومطلب العارفين، ومطية الصالحين، وطريق السالكين إلى مرضاة رب العالمين، والزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين ودربُ من دروب عباد الله الصالحين، وهو مسلكٌ شريف لنيل حب الله تعالى الذي هو منتهى أمل العبد وأقصى غايته لأنه من نال حب الله تعالى نال السعادة في الدارين، فنيل محبة الله تعالى هو الغاية القصوى وغايةُ النهاية من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها، وتابع من توابعها، وهو مسلك للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام العابدين وسيد الزاهدين، والزهد كذلك هو سبيل النجاة من حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة ومصدر كل شر وأساس كل بلية، وهو أكبر عَوْنٍ بعد الله تعالى في الرغبة في الآخرة إذ لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، فالدنيا دار سفر لا دار إقامة، ومنزل عبور لا موطن حبور، وينبغي للمؤمن أن يكون فيها على جناح سفر، يهيئ زاده ومتاعه للرحيل المحتوم، والسعيد من وُفَّق لرؤية الأشياء على حقيقتها واتخذ لهذا السفر زاداً يبلغه إلى رضوان الله تعالى والفوز بالجنة والنجاة من النار.
ولما كان المسلمون بأسرهم المتعلم منهم والأمي والمتحضر والبدوي والمدنَّي والقروِّي يحتاجون حاجةً مُلًّحةً ماسَّة إلى ما يُرَقَّق قلوبهم ويتسبب في خشوعها وإنابتها إلى ربها في زمن قست فيه القلوب، وظهرت فيه الذنوب، ولم يستحي الكثير من علام الغيوب فطفقوا يبارزونه بالإثم والحوب، وفي وقت كثرت فيه الدعوات الأرضية المضلة، واشتد فيه الظلام وظهر الباطل على الحق ظهورا آنيا، وسيطرت فيه المادية حتى تغيرت كثير من القيم السامية، فما أشد حاجة العبد المسلم إلى الرقائق التي تثبت قلبه في زمن حار فيه الكثير من الناس فانغمسوا في القيم الهابطة التي غزت العقول والقلوب والمجتمعات، فقد أصبحنا نعيش في مجتمع طغت عليه المادية وانتشرت الشهوات بكل لون وفي كل وقتٍ وحين حتى صار الإنسان غارقاً في الشهوات إلى الأذقان وبلغ فسقه عنان السماء ـ إلا ما رحم ربي ـ، فأصبحنا في أيام الصبر الذي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي:
(حديث أبي ثعلبة الخُشَنِّي رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من ورائكم أيام الصبر، للمتمسك فيهن يومئذ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم. قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم.
ـ وأيام الصبر هي أيام الإبتلاء في الدين والشهوات المستعرة والشبهات المستحكمة ومع ذلك المرء صابر لدينه. فسماها أيام الصبر لأنه لا يستعمل فيها إلا الصبر ولا حلّ إلا الصبر، والصبر هو القائد وهو الملاذ والحصن الحصين، الذي من دخله عُصِم ـ بخلاف من كان قبلنا كانوا يعيشون في محيطٍ إسلامي والمنكرات تُسْتَتَر، أما الآن فالمنكرات كثرة مما يزيد من احتمال تأثر المؤمن بها من حيث لا يريد، فتكون الرقائق بمثابة الوقود التي تعطي المسلم طاقة في مواجهة هذه المنكرات، لأن الرقائق تعطي قوة دفع للمسلم لامتثال ما يؤمر به والانتهاء عما ينهى عنه، فمثلا كان أول ما أنزل ذكر الجنة والنار وما فيهما وما أعد لأهلهما، ثم نزلت الأحكام بعد أن تهيأت النفوس للقبول، تقول عائشة:"أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول ما نزل لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمرة أبدا"، فالرقائق تقوي الإيمان الذي يعين المسلم على الثبات في مواجهة الشهوات، ومن المعلوم أن الشهوات سببت ضعف إيمان كثير من المسلمين لأن مخاطبة العقل وحده قد لا تكفي ما لم تكن ممزوجة بإثارة العاطفة، إذ أن مخاطبة العقل وحده قد لا تنتج إلا معلومات نظرية جافة لا حياة فيها، أما مخاطبة العقل والعاطفة فتؤدي إلى الإقناع والتطبيق العملي، ثم إن العناية بالرقائق تجنب طالب العلم بإذن الله الإصابة بالأمراض الفتاكة التي تفتك بدين المسلم كآفة العجب أو الحسد أو الهوى أو غيرها والعياذ بالله.
ولما كان المسلم بحاجة ماسةٍ إلى سلوك الأدب وتحقيقه بين الأفراد لأن الناس إذا تحلوا بمراعاة الأدب بينهم حصل الاطمئنان والأمن بينهم، فحقوقهم مكفولة وسمعتهم محترمة ومكانتهم محفوظة، فيطمئنون على أنفسهم لأن الأدب ينزع الأحقاد من صدور الناس وإذا التزم الناس بالآداب الشرعية صَفت النفوس فسادت الأخوّة والمحبة والألفة المجتمع، ثم إن الداعيةُ إلى الله تعالى يحتاجُ إلى التحلي بالآداب سيراً على منهج السلفِ الصالحِ في التعلم حيث كان منهجهم في التعلم (أن يتلقوْا العلمَ مع الأدب) لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه لأن الأدب طريقُ العلم النافع: فطالب العلم لن ينال العلم وبركته بدون أدب لأن العلمَ بلا أدبٍ يجني على صاحبه ويُهلكه، وقد حذّر السلف كثيراً من طلب العلم بدون أدب، فقال الإمام البوشنجي الفقيه المالكي (ت:291هـ) (من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله) سير أعلام النبلاء (13/ 586) للذهبي، وأورد الإمام بن الجزري في غاية النهاية في طبقات القُراء عن ابن المبارك قال: طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم، أورد ابن الجوزي في صفة الصفوة عن ابن المبارك قال: كاد الأدب يكون ثلثي العلم،،وقال بكر أبو زيد في حلية طالب العلم صـ6 (لقد تواردت موجبات الشرع على أن التحلّي بمحاسن الأدب ومكارم الأخلاق سِمةُ أهل الإسلام وأن العلم لا يصل إليه إلا المُتحلي بآدابه المتخلي عن آفاته) أهـ، فالحاصل أن الأدب مهم جداً للفرد وللمجتمع وخاصةً طالب العلم، وإنما أعني بالآداب أدب الدين والدنيا لأن َأَعْظَمُ الأمور خَطَرًا وَقَدْرًا وَأَعُمُّهَا نَفْعًا وَرِفْدًا مَا اسْتَقَامَ بِهِ الدِّينُ وَالدُّنْيَا وَانْتَظَمَ بِهِ صَلَاحُ الآخرة والأولى؛ لِأَنَّ بِاسْتِقَامَةِ الدِّينِ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ، وَبِصَلَاحِ الدُّنْيَا تَتِمُّ السَّعَادَةُ.