الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[*] أخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حفص الفلاس قال: توفي أبو عبيدة في سنة ثمان عشرة وله ثمان وخمسون سنة وكان يخضب بالحناء والكتم وكان له عقيصتان وقال كذلك في وفاته جماعة وانفرد ابن عائذ عن أبي مسهر أنه قرأ في كتاب يزيد إبن عبيدة أن أبا عبيدة توفي سنة سبع عشرة.
ثانياً:
صورٌ مشرقة من زهد أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
-:
لقد فهم أبي عبيدة ابن الجراح رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، و زينتها، وبريقها، وطلقها ثلاثة ونفض يديه منها، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرا وباطنا، فكانت الدنيا في يده ولم تقترب من قلبه الشريف، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق ما يلي:
(1)
اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ.
(حديث بن عمر رضي الله عنهما الثابت في صحيح البخاري) قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
(2)
أن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى:
(حديث سهل بن سعد رضي الله عنه الثابت في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
(حديث أبي هريرة في صحيح ابن ماجة) أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلما.
(3)
أن عمرها قد قارب على الانتهاء:
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعثت أنا والساعة كهاتين قال وضم السبابة والوسطى.
(4)
أن الآخرة هى الباقية، وهى دار القرار:
كما قال مؤمن آل فرعون:
(يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[غافر: 39، 40]
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب أبي بكر، فترِفَّع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها،
وهاك بعض صور زهده رضي الله عنه:
[*] كتب عمر إلى أبي عبيدة في الطاعون إنه قد عرضت لي حاجة ولا غنى بي عنك فيها فعجل إليَّ، فلما قرأ الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين إنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ.
سبحان الله - هو عمر كان يحب جداً أبا عبيدة بن الجراح وكان يرى فيه أمانة الأمة كلها مجتمعة في هذا الرجل فلما علم أن الطاعون نزل بأرض الشام علم أنه لابد أن يهلك والأمة تحتاج لمثله فانظروا إلى فقه عمر ثم انظروا إلى ما أروع من ذلك فقه أبي عبيدة بن الجراح، عمر بن الخطاب لما علم أن الطاعون قد نزل في الأرض التي فيها أبو عبيدة قال: إني قد عرضت لي حاجة ولا غنى بي عنك - يعني أريدك أن تأتي حتى يُنقذه الله من الطاعون - وهذا كان خلاف السنة كما في الحديث الآتي:
(حديث أسامة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطاعون رجس، أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو: على من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه).
فلما قرأ هذا الكتاب قال: عرفت حاجة أمير المؤمنين إنه يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ، فكتب: إني قد عرفت حاجتك فحلّلِني من عزيمتك - يعني أنا في حلٍّ من أمرك - فإني في جند من أجناد المسلمين لن أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى فقيل له مات أبو عبيدة؟ قال: لا وكأن قد، قال فتُوفي أبو عبيدة وانكشف الطاعون.
فانظر بعين البصيرة حرصه على تطبيق السنة بحذافيرها وعدم التفاته إلى الدنيا لأنها لا وزن لها عنده فلم تخطر له ببال ولا تدور في الخيال ولا يشغله إلا الموت على رضا الكبير المتعال، فقد وَعَى حقيقة الزهد بحذافيره وضرب أروع المثل في الزهد في الدنيا والعزوف عنها والرغبة في الآخرة والإقبال عليها ولا عجب فإنه أمين هذه الأمة بنص السنة الصحيحة.
[*] ولما تفرغ الصديق من حرب أهل الردة وحرب مسيلمة الكذاب جهز أمراء الأجناد لفتح الشام، فبعث أبا عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة فتمت وقعة أجنادين بقرب الرملة ونصر الله المؤمنين فجاءت البشرى والصديق في مرض الموت، ثم كانت وقعة فِحْل ووقعة مرج الصُّفَّر وكان قد سير أبو بكر خالدا لغزو العراق ثم بعث إليه لجند الشام، فقطع المفاوز حتى برية السماوة، فأمَّره الصديق على الأمراء كلهم وحاصروا دمشق وتُوفي أبو بكر، فبادر عمر بعزل خالد، - وهذا الذي تبناه عمر دائماً أنه يعزل خالد بن الوليد ولكنه عاتب نفسه بعد ذلك حتى أنه بكى وقال رحم الله أبا بكر كان يعرف الرجال عني -، واستعمل على الكل أبا عبيدة فجاءه التقليد فكتمه مدة وكل هذا من دينه وحلمه - يعني عمر بن الخطاب عزل خالد وأمَّر أبا عبيدة ولكن أبو عبيدة حتى لا يفشل الجند وحتى لا تكون المسألة هوى في نفسه وأنه الأمير ويأتمرون بأمره ترك الكتاب جانبا نحا الكتاب جانبا وجعل الإمارة كما هي حتى انتهت المعركة فأبلغ خالد بما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -. فكتم هذا الكتاب وكل هذا من دينه ولينه وحلمه وتواضعه وزهده وايثاره الخمول وإنكار الذات، فكان فتح دمشق على يده فعند ذلك أظهر التقليد ليعقد الصلح للروم ففتحوا له باب الجابية صلحا، وإذا بخالد قد افتتح البلد عنوة من الباب الشرقي فأمضى لهم أبو عبيدة الصلح فعن المغيرة أن أبا عبيدة صالحهم على أنصاف كنائسهم ومنازلهم، ثم كان أبو عبيدة رأس الإسلام يوم وقعة اليرموك، التي استأصل الله فيها جيوش الروم، وقُتِلَ منهم خلق عظيم.
فانظر بعين البصيرة كيف امتثل حقيقة الزهد وهو " ترك ما لا ينفعُ في الآخرة " فقد نئى بنفسه عن الاختلاف وعمل بأمانة وهو أمين حق أمين على جمع كلمة المسلمين نابذاً الدنيا وحظوظها وراء ظهره، فلم يحرص على أن يكون له المكانة ولا أن يمون هو الأمير لأنه آيةٌ في الزهد فلا يحرص على سلطان الدنيا بل ويفر منه فرار المجذوم من الأسد، وللأنه يعلم أن الحرص على المكانة والجاه والشرف في الدين يضر دينه ويفسده فساداً كبيراً أكبر من الفساد الحاصل من إطلاق ذئبان جائعان على غنم وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
(حديث كعب بن مالك في صحيح الترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسدَ لها من حرص المرء على المال و الشرف لدينه.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما) بمعنى ليس
(ذئبان جائعان) صفة له وفي رواية عاديان والعادي الظالم المتجاوز للحد
(أرسلا في غنم) الجملة في محل رفع صفة
(بأفسد) خبر ما والباء زائدة أي أشد فساداً والضمير في
(لها) للغنم واعتبر فيه الجنسية فلذا أنث وقوله
(من حرص المرء على المال والشرف) عطف على المال والمراد به الجاه والمنصب
(لدينه) اللام فيه للبيان، نحوها في قوله {لمن أراد أن يتم الرضاعة} فكأنه قيل هنا بأفسد لأي شيء؟ قيل لدينه، ذكره الطيبي،
فمقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً [ص 446] للدين من إفساد الذئبين للغنم لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً، قال الحكيم: وضع اللّه الحرص في هذه الأمة ثم زمه في المؤمنين بزمام التوحيد واليقين وقطع علائق الحرص بنور السبحات فمن كان حظه من نور اليقين ونور السبحات أوفر كان وثاق حرصه أوثق والحرص يحتاجه الآدمي لكن بقدر معلوم وإذا لم يكن لحرصه وثاق وهبت رياحه استفزت النفس فتعدى القدر المحتاج إليه فأفسد وعرف بعضهم الحرص بأنه مدد القوة الموضوعة في الآدمي ومثيرها وعمادها.
ومن الصور المشرقة من زهد أمين هذه الأمة أبي عبيدة بن الجراح:
أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب زار الشام، وسأل مستقبليه:
أين أخي .. ؟
فيقولون من .. ؟
فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح
ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر .. ثم يصحبه إلى داره، فلا يجد فيها من
الأثاث شيئا .. لا يجد إلا سيفه، وترسه ورحله ..
ويسأله عمر وهو يبتسم:
" ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس" .. ؟
فيجيبه أبو عبيدة:
" يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل" .. !!
[*] أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عمر أن عمر حين قدم الشام قال لأبي عبيدة اذهب بنا إلى منزلك قال وما تصنع عندي ما تريد إلا أن تعصر عينيك علي قال فدخل فلم ير شيئا قال أين متاعك لا أرى إلا لبدا وصحفة وشنا وأنت أمير أعندك طعام فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات فبكى عمر فقال له أبو عبيدة قد قلت لك إنك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين يكفيك ما يبلغك المقيل قال عمر: غَيَّرَتْنا الدنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة.
قال الذهبي رحمه الله: وهذا والله هو الزهد الخالص لا زهد من كان فقيرا معدما.