الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفرات بن السائب، أن عمر بن عبد العزيز قال لامرأته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان عندها جوهر أمر لها أبوها به لم ير مثله: أختاري إما أن تردي حليك إلى بيت المال، وإما تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وانت وهو في بيت واحد، قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه لو كان لي، قال: فأمر به فحمل حتى وضع في بيت مال المسلمين، فلما هلك عمر واستخلف يزيد قال لفاطمة: إن شئت يردونه عليك قالت: فإني لا أشاؤه، طبت عنه نفساً في حياة عمر وأرجع فيه بعد موته؟ لا والله أبداً. فلما رأى ذلك قسمه بين أهله وولده.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز قال: قلت: كم ترك لكم عمر من المال؟ فتبسم فقال: حدثني مولى لنا كان يلي نفقته قال: قال لي عمر حين احتضر: كم عندك من المال؟ قال: قلت: أربعة عشر ديناراً، قال: فقال: تحتملوني بها من منزل إلى منزل، فقلت: كم ترك لكم من الغلة؟ قال: ترك لنا غلة ستمائة دينار كل سنة ثلاثمائة دينار ورثناها عنه وثلاثمائة دينار ورثناها عن أخينا عبد الملك، وتركنا اثنى عشر ذكراً وست نسوة اقتسمنا ماله على خمس عشرة.
(3) خشية عمر بن عبد العزيز لله وبكاؤه:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمر بن ذر أن مولى لعمر بن عبد العزيز قال له بعد جنازة سليمان مالي أراك مغتما قال لمثل ما أنا فيه فليغتم ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إلي فيه ولا طالبه مني.
{تنبيه} : هذا حال من وفقه الله تعالى لصالح العمل وعصمه من الزلل ونوَّر بصيرته فعلم أن الإمارة تكليف وليست تشريف، للناس غنمها وعليه غُرْمُها، لهذا كان يقول:" لست بخير أحد منكم ولكني أثقلكم حملا " ليكن ذلك نُصب عينيك ومحط نظرك وقِبلة قلبك، فأبْصِرْ وَتعَلَم وإذا عَرفت الحقَ فالْزَم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبيد الله بن عمر قال: خطبهم عمر فقال لست بخير أحد منكم ولكني أثقلكم حملا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عطاء بن أبي رباح قال حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه يده على خده سائلة دموعه فقلت: يا أمير المؤمنين ألشيء حدث؟ قال يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال حماد بن أبي سليمان لما ولي عمر بن عبد العزيز بكى فقال له رجل كيف حبك للدنيا والدرهم قال لا أحبه قال لا تخف فإن الله سيعينك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المغيرة بن حكيم، قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاةً وصياماً من عمر، ولكني لم أر من الناس أحداً قط أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته أجمع.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عامر بن عبيدة، قال: أول ما أنكر من عمر بن عبد العزيز أنه خرج في جنازة، فأتى ببرد كان يلقى للخلفاء يقعدون عليه إذا خرجوا إلى الجنازة، فألقى له فضربه برجله ثم قعد على الأرض، فقالوا: ما هذا؟ فجاء رجل فقام بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة، وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي غداً بين يديك، وفي يده قضيب قد اتكأ عليه بسنانه، فقال: أعد ما قلت، فأعاد عليه قال: يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة، وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي هذا بين يديك، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب ثم قال: ما عيالك؟ قال: خمسة، أنا وامرأتي وثلاثة أولادي، قال: فإن الفرض لك ولعيالك عشرة دنانير، ونأمر لك بخمسمائة، مائتين من مالي وثلاثمائة من مال الله تبلغ بها حتى يخرج عطاؤك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: كان لعمر بن عبد العزيز سفط فيه دراعة من شعر وغل، وكان له بيت في جوف بيت يصلي فيه لا يدخل فيه أحد، فإذا كان في آخر الليل فتح ذلك السفط ولبس تلك الدراعة ووضع الغل في عنقه، فلا يزال يناجي ربه ويبكي حتى يطلع الفجر ثم يعيده في السفط.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد العزيز بن الوليد بن أبي السائب، قال: سمعت أبي يقول: ما رأيت أحداً قط الخوف ـ أو قال الخشوع ـ أبين على وجهه من عمر بن عبد العزيز.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي حازم الخناصري الأسدي قال: قدمت دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة والناس رائحون إلى الجمعة، فقلت: إن أنا صرت إلى الموضع الذي أريد نزوله فأتتني الصلاة ولكن أبدأ بالصلاة، فصرت إلى باب المسجد فأنخت بعيري ثم عقلته ودخلت المسجد، فإذا أمير المؤمنين على الأعواد يخطب الناس، فلما أن بصر بي عرفني فناداني يا أبا حازم إلي مقبلاً؟ فلما أن سمع الناس نداء أمير المؤمنين لي أوسعوا لي فدنوت من المحراب، فلما أن نزل أمير المؤمنين فصلى بالناس التفت إلى فقال: يا أبا حازم متى قدمت بلدنا؟ قلت: الساعة وبعيري معقول بباب المسجد، فلما أن تكلم عرفته، فقلت: أنت عمر بن عبد العزيز؟ قال: نعم، قلت له: والله لقد كنت عندنا بالأمس بالخناصرة أميراً لعبد الملك بن مروان، فكان وجهك وضياً، وثوبك نقياً، ومركبك وطياً، وطعامك شهياً وحرسك شديداً، فما الذي غير بك وأنت أمير المؤمنين؟ قال لي: يا أبا حازم أناشدك الله إلا حدثتني الحديث الذي حدثتني بخناصرة؟ قلت له: نعم، سمعت أبا هريرة، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بين أيديكم عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول قال أبو حازم: فبكى أمير المؤمنين بكاء عالياً حتى علا نحيبه، ثم قال: يا أبا حازم أفتلومني أن أضمر نفسي لتلك العقبة لعلي أن أنجو منها وما أظنني منها بناج؟
قال أبو حازم: فأغمى على أمير المؤمنين. فبكى بكاءً عالياً حتى علا نحيبه، ثم ضحك ضحكاً عالياً حتى بدت نواجذه، وأكثر الناس فيه القول، فقلت: اسكتوا وكفوا فإن أمير المؤمنين لقى أمراً عظيماً.
قال أبو حازم: ثم أفاق من غشيته فبدرت الناس إلى كلامه فقلت له: يا أمير المؤمنين لقد رأينا منك عجباً، قال: ورأيتم ما كنت فيه؟ قلت: نعم، قال: إني بينما أنا أحدثكم إذ أغمى علي فرأيت كأن القيامة قد قامت وحشر الله الخلائق وكانوا عشرين ومائة صف، أمة محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ثمانون صفاً، وسائر الأمم من الموحدين أربعون صفاً، إذ وضع الكرسي ونصب الميزان ونشرت الدواوين ثم نادى المنادي أين عبد الله بن أبي قحافة، فإذا شيخ طوال يخضب بالحناء والكتم فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم نادى المنادي أين عمر بن الخطاب؟ فإذا شيخ طوال يخضب الحناء فجثى فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة ثم نادى مناد أين عثمان بن عفان؟ فإذا بشيخ طوال يصفر لحيته، فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم ناد مناد أين على بن أبي طالب؟ فإذا بشيخ طوال أبيض الرأس واللحية، عظيم البطن دقيق الساقين، فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه أمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، فلما رأيت الأمر قد قرب مني اشتغلت بنفسي فلا أدري ما فعل الله بمن كان بعد علي، إذ ناد المنادي أين عمر بن عبد العزيز؟ فقمت فوقعت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي فأتاني ملكان فأخذا بضبعي فأوقفاني أمام الله تعالى فسألني عن النقير والقطمير والفتيل وعن كل قضية قضيت بها حتى ظننت إني لست بناج، ثم أن ربي تفضل علي وتداركني منه برحمة وأمر بي ذات اليمين إلى الجنة، فبينا أنا مار مع الملكين الموكلين بي إذ مررت بجيفة ملقاه على رماد، فقلت: ما هذه الجيفة؟ قالوا: ادن منه وسله يخبرك، فدنوت فوكزته برجلي وقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا عمر بن عبد العزيز، قال لي: ما فعل الله بك وبأصحابك؟ قلت: أما أربعة فأمر بهم ذات اليمين إلى الجنة، ثم لا أدري ما فعل الله بمن كان بعد علي، فقال لي: أنت ما فعل الله بك؟ قلت: تفضل على ربي وتداركني منه برحمة، وقد أمر بي ذات اليمين إلى الجنة، فقال: أنا كما صرت ثلاثاً، قلت: أنت من أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قلت له: الحجاج؟ أرددها عليه ثلاثاً، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: قدمت على رب شديد العقاب، ذي بطشة منتقم ممن عصاه،
قتلني بكل قتلة قتلت بها مثلها، ثم ها أنا ذا موقوف بين يدي ربي أنتظر ما ينتظر الموحدون من ربهم، إما إلى جنة وإما إلى نار،
قال أبو حازم: فأعطيت الله عهداً بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز أن لا أوجب لأحد من هذه الأمة ناراً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله، قال: سمعت القداح يذكر أن عمر بن عبد العزيز كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، وبكى حتى تجري دموعه على لحيته.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سعيد بن أبي عروبة قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله.
ومما روي له:
ولا خير في عيش امرىء لم يكن له
…
من الله في دار القرار نصيب
فإن تعجب الدنيا أناسا فإنها
…
متاع قليل والزوال قريب
ومما روي له:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم
…
وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لخرقت
…
مدامع عينيك الدموع السواجم
تسر بما يبلى وتفرح بالمنى
…
كما اغتر باللذات في اليوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
…
وليلك نوم والردى لك لازم
وسعيك فيما سوف تكره غبه
…
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
[*] وأورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن وهيب بن الورد قال كان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيرا بهذه الأبيات:
يرى مستكينا وهو للهو ماقت
…
به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله
…
وما عالم شيئا كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم
…
فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش آجلا
…
فأشغله عن عاجل العيش آجله
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران أنه قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز يوماً وعنده سابق البربري الشاعر، وهو ينشد شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيحٍ بات للموت آمنا
…
أتته المنايا بغتةً بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة
…
فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً
…
ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله
…
وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغنى لماله
…
ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزل عمر يبكى ويضطرب حتى غشى عليه، فقمنا فانصرفنا عنه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عياش، عن أبيه: أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتها؟ فقال: نعم، ناداني القبر من خلفي يا عمر بن عبد العزيز ألا تسألني ما صنعت بالأحبة؟ قلت: بلى، قال: خرقت الأكفان، ومزقت الأبدان، ومصصت الدم وأكلت اللحم، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال؟ قلت: بلى، قال: نزعت الكفين من الذراعين، والذراعين من العضدين، والعضدين من الكتفين، والوركين من الفخذين، والفخذين من الركبتين، والركبتين من الساقين، والساقين من القدمين، ثم بكى عمر فقال: ألا إن الدنيا بقاؤها قليل، وعزيزها زليل، وغنيها فقير، وشبابها يهرم، وحيها يموت، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها، أين سكانها الذين بنوا مدائنها، وشققوا أنهارها، وغرسوا أشجارها، وأقاموا فيها أياماً يسيرة، غرتهم بصحتهم، وغزوا بنشاطهم، فركبوا المعاصي، إنهم كانوا والله في الدينا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع، محسودين على جمعه، ما صنع التراب بأبدانهم، والرمل بأجسادهم، والديدان بعظامهم وأوصالهم، كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة، وفرش منضدة، بين خدم يخدمون، وأهل يكرمون، وجيران يعضدون، فإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم، وسل غنيهم ما بقى من غناه، وسل فقيرهم ما بقى من فقره، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة، والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة، ما صنع بها الديدان؟ محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء، وأين حجالهم وقبابهم، وأين خدمهم وعبيدهم، وجمعهم ومكنوزهم، والله ما زودوهم فراشاً، ولا وضعوا هناك متكأً، ولا غرسوا لهم شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة.
فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوهم بالية، وأجسادهم من أعناقهم نائية، وأوصالهم ممزقة، قد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وصديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ففرقت أعضاءهم، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق، فصاروا بعد السعة إلى المضايق، قد تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرق أبناؤهم، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، الغض الناضر فيه، المتنعم بلذته. يا ساكن القبر غداً مالذي غرك من الدنيا، هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك، أين دارك الفيحاء، ونهرك المطرد، وأين ثمرك الناضر ينعه وأين رقاق ثيابك وأين طيبك وأين بخورك، وأين كسوتك لصيفك وشتائك، أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا، وهو يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، يتقلب من سكرات الموت وغمراته، جاء الأمر من السماء، وجاء غالب القدر والقضاء، جاء من الأمر والأجل ما تمتنع منه، هيهات هيهات، يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله، يا مكفن الميت وحامله، يا مخليه في القبر وراجعاً عنه، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكات صرت في محلة الموتى، ليت شعري مالذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا، وما يأتيني به من رسالة ربي، ثم تمثل:
تسر بما يفنى وتشغل بالصبا
…
كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
…
وليلك نوم والردى لك لازم
وتعمل فيما سوف تكره غبه
…
كذلك في الدنيا تعيش البهايم
ثم انصرف فما بقى بعد ذلك إلا جمعه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسد بن زيد قال: كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة، فلما أن دفن الميت ركب بغلة له صغيرة ثم جاء إلى قبر فركز عليه المقرعه فقال: السلام عليك يا صاحب القبر، قال عمر فنادانى مناد من خلفى وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز عم تسأل؟ فقلت، عن ساكنك وجارك، قال: أما البدن فعندي، والروح عرج به إلى الله عز وجل ما أدري أي شيء حاله، قلت أسألك، عن ساكنك وجارك؟ قال: دمغت المقلتين، وأكلت الحدقتين، ومزقت الأكفان، وأكلت الأبدان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي قرة، قال: خرج عمر بن عبد العزيز على بعض جنائز بني مروان، فلما صلى عليها وفرغ، قال لأصحابه: توقفوا، فوقفوا، فضرب بطن فرسه حتى أمعن في القبور وتوارى عنهم، فاستبطأه الناس حتى ظنوا، فجاء وقد احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه، قالوا: يا أمير المؤمنين أبطأت علينا؟ قال: أتيت قبور الأحبة، قبور بني آبائي فسلمت عليهم فلم يردوا السلام، فلما ذهبت أقفى ناداني التراب فقال: ألا تسألني يا عمر عليهم ما لقيت الأحبة؟ قلت: وما لقيت الأحبة؟ قال: خرقت الأكفان، وأكلت الأبدان، ونزعت المقلتين، فذكر نحوه. وزاد: فلما ذهبت أقفي ناداني: يا عمر عليك بأكفان لا تبلى، قلت: وما أكفان لا تبلى؟ قال: اتقاء الله، والعمل الصالح.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي صالح الشامى، قال: قال عمر بن عبد العزيز:
أنا ميت وعز من لا يموت
…
قد تيقنت أنني سأموت
ليس ملك يزيله الموت ملكا
…
إنما الملك ملك من لا يموت
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن مفضل بن يونس، قال: قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموت على أهل الدنيا ما هم فيه من غضارة الدنيا وزهوتها، فبينا هم كذلك وعلى ذلك أتاهم جاد من الموت فاخترمهم مما هم فيه، فالويل والحسرة هنا لك لمن لم يحذر الموت، ويذكره في الرخاء فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارق الدنيا وأهلها، قال: ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أسماء بن عبيد قال: دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها، ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي؟ فقال عمر: أحبكم إلينا من كفانا مؤنته. فخرج من عنده فلما صار عن الباب قال عمر: أبا خالد أبا خالد، فرجع. فقال: أكثر من ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبو ربيعة عبيد الله بن عبيد بن عدى الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله ثم ينبئهم بما عملوا ليجزى الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فإنه لا معقب لحكمه ولا ينازع في أمره، ولا يقاطع في حقه الذي استحفظه عباده وأوصاهم به، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحثك على الشكر فيما اصطنع عندك من نعمة، وآتاك من كرامة، فإن نعمه يمدها شكره، ويقطعها كفره، أكثر ذكر الموت الذي لا تدري متى يغشاك، ولا مناص ولا فوت، وأكثر من ذكر يوم القيامة وشدته، ثم كن مما أوتيت من الدنيا على وجل، فإن من لا يحذر ذلك ولا يتخوفه توشك الصرعة أن تدركه في الغفلة، وأكثر النظر في عملك في دنياك بالذي أمرت به، ثم اقتصر عليه، فإن فيه لعمري شغلاً عن دنياك، ولن تدرك العلم حتى تؤثره على الجهل، ولا الحق حتى تذر الباطل فنسأل الله لنا ولك حسن معونته، وأن يدفع عنا وعنك بأحسن دفاعه برحمته.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك، قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبر قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة وفريق في السعير، قال: ثم صرخ وغشى عليه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ميمون بن مهران، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: حدثني يا ميمون، قال: فحدثته حديثاً بكى منه بكاءً شديداً، فقلت: يا أمير المؤمنين لو علمت أنك تبكي هذا البكاء لحدثتك حديثاً ألين من هذا، فقال: يا ميمون إنا نأكل هذه الشجرة العدس وهي ما علمت مرقة للقلب، مغزرة للدمعة، مذلة للجسد، قال ميمون: ودعاني عمر فقال: يا مهران بن ميمون، إني أوصيك بوصية فاحفظها، إياك أن تخلو بامرأة غير ذات محرم وإن حدثتك نفسك أن تعلمها القرآن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن محمد بن إبراهيم، حدثني أبي، عن جدي، قال: حج سليمان بن عبد الملك ومعه عمر بن عبد العزيز، فلما أشرفت على عقبة عسفان نظر سليمان إلى عسكره فأعجبه ما رأى من حجره وأبنيته، فقال: كيف ترى ما ها هنا يا عمر؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين دنيا يأكل بعضها بعضاً، أنت المسئول عنها والمأخوذ بما فيها، فطار غراب من حجرة سليمان ينعب في منقاره كسره، فقال سليمان: ما ترى هذا الغراب يقول؟ قال: أظنه يقول من أين دخلت هذه الكسرة وكيف خرجت، قال: إنك لتجىء بالعجب يا عمر، قال: إن شئت أخبرك من هذا أخبرتك؟ قال: فأخبرني، قال: من عرف الله فعصاه. ومن عرف الشيطان فأطاعه، ومن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها، قال سليمان: نغصت علينا ما نحن فيه يا عمر، وضرب دابته وسار. فأقبل عمر حتى نزل عن دابته فأمسك برأسها وذلك أنه سبق ثقله، فرأى الناس كل من قدم شيئاً قدم عليه، فبكى عمر فقال سليمان: ما يبكيك؟ قال: هكذا يوم القيامة من قدم شيئاً قدم عليه، ومن لم يقدم شيئاً قدم على غير شيء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي قبيل أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير فأرسلت إليه أمه وقالت ما يبكيك قال ذكرت الموت قال وكان يومئذ قد جمع القرآن فبكت أمه حين بلغها ذلك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن مكحول لو حلفت لصدقت ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن النضر بن عربي قال دخلت على عمر بن عبد العزيز فكان ينتفض أبدا كأن عليه حزن الخلق الفسوي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم قال لما مرض عمر بن عبد العزيز جيء بطبيب فقال به داء ليس له دواء غلب الخوف على قلبه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أرطاة قال: قيل لعمر بن عبد العزيز لو جعلت على طعامك أمينا لا تغتال وحرسيا إذا صليت وتنح عن الطاعون قال اللهم إن كنت تعلم أني أخاف يوما دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي.
[*] أورد ابن كثير في البداية والنهاية عن ميمون بن مهران خرجت مع عمر إلى القبور فقال لي يا أبا أيوب هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات واستحكم فيهم البلاء ثم بكى حتى غشي عليه ثم أفاق فقال انطلقوا بنا فو الله لا أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله ينتظر ثواب الله وقال غيره خرج عمر بن عبد العزيز في جنازة فلما دفنت قال لأصحابه قفوا حتى آتي قبور الأحبة فأتاهم فجعل يبكي ويدعو إذ هتف به التراب فقال يا عمر ألا تسألني ما فعلت في الأحبة قال قلت وما فعلت بهم قال مزقت الأكفان وأكلت اللحوم وشدخت المقلتين وأكلت الحدقتين ونزعت الكفين من الساعدين والساعدين من العضدين والعضدين من المنكبين والمنكبين من الصلب والقدمين من الساقين والساقين من الفخذين والفخذين ن الورك والورك من الصلب فلما أراد أن يذهب قال له يا عمر أدلك على أكفان لا تبلى قال وما هي قال تقوى الله والعمل الصالح، وقال مرة لرجل من جلسائه لقد أرقت الليلة مفكرا قال وفيم يا أمير المؤمنين قال في القبر وساكنه إنك لو رأيت الميت بعد ثلاث في قبره وما صار إليه لا ستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك بناحيته ولرأيت بيتا تجول فيه الهوام وتخترق فيه الديدان ويجري فيه الصديد مع تغير الريح وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثوب قال ثم شهق شهقة خر مغشيا عليه.
{تنبيه} : من أعظم مظاهر خشية عمر ابن عبد العزيز رحمه الله تعالى حرصه على طلب النصيحة من من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى ليكونوا عوناً له بعد الله تعالى في التوفيق والسداد في أمور دينه ودنياه، ومن ذلك ما يلي:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سالم بن عبد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سالم بن عبد الله، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله ابتلاني به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني فيها، ولا طلبة مني لها، إلا قضاء الرحمن وقدره، فأسأل الذي ابتلاني من أمر هذه الأمة بما ابتلاني أن يعينني على ما ولاني، وأن يرزقني منهم السمع والطاعة وحسن مؤازرة، وأن يرزقهم مني الرأفة والمعدلة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى بكتب عمر بن الخطاب وسيرته وقضاياه في أهل القبلة وأهل العهد، فإني متبع أثر عمر وسيرته إن أعانني الله على ذلك والسلام. فكتب إليه سالم ابن عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم، من سالم بن عبد الله بن عمر إلى عبد الله عمر أمير المؤمنين، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله خلق الدنيا لما أراد، وجعل لها مدة قصيرة كان بين أولها وآخرها ساعة من نهار، ثم قضى عليها وعلى أهلها الفناء فقال:(كُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[القصص: 88].
لا يقدر منها أهلها على شيء حتى تفارقهم ويفارقوها، أنزل بذلك كتابه، وأنزل بذلك رسله، وقدم فيه بالوعيد، وضرب فيه الأمثال، ووصل به القول، وشرع فيه دينه، وأحل الحلال وحرم الحرام وقص فأحسن القصص، وجعل دينه في الأولين والآخرين فجعله ديناً واحداً فلم يفرق بين كتبه، ولم تختلف رسله، ولم يشق أحد بشيء من أمر سعد به أحد، ولم يسعد أحد من أمره بشىء شقى به أحد، وإنك اليوم يا عمر لم تعد أن تكون إنساناً من بني آدم، يكفيك من الطعام والشراب والكسوة ما يكفي رجلاً منهم، فاجعل فضل ذلك فيما بينك وبين الرب الذي توجه إليه شكر النعم، فإنك قد وليت أمراً عظيماً ليس يليه عليك أحد دون الله، قد أفضى فيما بينك وبين الخلائق، فإن استطعت أن تغنم نفسك وأهلك فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنه قد كان قبلك رجال عملوا بما عملوا، وأماتوا ما أماتوا من الحق، وأحيوا ما أحيوا من الباطل، حتى ولد فيه رجال ونشأوا فيه وظنوا أنها السنة، ولم يسددوا على العباد باب رخاء إلا فتح عليهم باب بلاء، فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فإنك لا تفتح عليهم منها باباً إلا سد به عنك باب بلاء، ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أجد من يكفيني عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتعمل لله أتاح الله لك رجالاً وكالا بأعوان الله، وإنما العون من الله على قدر النية، فإذا تمت نية العبد تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر من الله العون له بقدر ذلك، فإن استطعت أن تأتي الله يوم القيامة ولا يتبعك أحد بظلم ويجىء من كان قبلك وهم غابطون لك بقلة إتباعك وأنت غير غابط لهم بكثرة أتباعهم فافعل، ولا قوة إلا بالله، فإنهم قد عاينوا وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، وانشقت بطونهم التي كانوا فيها لا يشبعون، وانفقأت أعينهم التي كانت لا تنقضي لذاتها، واندقت رقابهم في التراب غير موسدين بعد ما تعلم من تظاهر الفرش والمرافق، فصاروا جيفاً تحت بطون الأرض تحت آكامها، لو كانوا إلى جنب مسكين تأذى بريحهم، بعد إنفاق ما لا يحصى عليهم من الطيب، كان إسرافاً وبداراً عن الحق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.