الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال بثلاث سنين، وبعضهم ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر ولم يحددوا عدد الأشهر (1)، وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه (2).
-
صفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
-:
كان أبو بكر رضي الله عنه أبيض نحيفاً، خفيف العارضين، معروق الوجه، ناتئ الجبهة، وكان يخضب بالحناء والكَتَم.
وكان رجلاً اسيفاً أي رقيق القلب رحيماً.
- إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
(1) سيرة وحياة الصديق، مجدي فتحي السيد، ص29؛ تاريخ الخلفاء، ص56.
(2)
تاريخ الدعوة الى الاسلام في عهد الخلفاء الراشدين، ص30.
كان إسلام أبي بكر رضي الله عنه وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطر السليمة ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة، والبصائر النافذة، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قَطَعَ الفيافي، والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية وتنقل من شمالها إلى جنوبها، وشرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً، بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد، راية البحث عن الدين القويم (1)، فقد حدّث عن نفسه فقال: كنت جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفيْل قاعداً، فمرّ ابن أبي الصَّلْتِ، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال:
…
كل دين يوم القيامة إلا:
…
ما مضَى في الحنيفية بُور (2) أما إنّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويُبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء، كثير همهمة الصّدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنّا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً. قلت: يا عمّ وما يقول النبي؟ قال: يقول ماقيل له؟ إلا إنّه لا يظلم، ولا يُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت به وصدّقته (3)، وكان يسمع ما يقوله أمية بن أبي الصلت:
في مثل قوله: ألا نبي لنا منا فيخبرنا
…
مابعد غايتنا من رأس مجرانا
إني أعوذ بمن حج الحجيج له
…
والرافعون لدين الله أركانا
(1) مواقف الصديق مع النبي بمكة، د. عاطف لماضة، ص6.
(2)
تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص52.
(3)
تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص52.
لقد عايش أبو بكر هذه الفترة، ببصيرة نافذة، وعقل نير، و فكر متألق، وذهن وقاد، وذكاء حاد، وتأمل رزين ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار، فعندما سأل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه يوماً -وفيهم أبو بكر الصديق قائلاً: من منكم يحفظ كلام -قيس بن ساعدة- في سوق عكاظ؟ فسكت الصحابة، ونطق الصديق قائلاً: إني أحفظها يا رسول الله، كنت حاضراً يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جمله الأورق وقف قيس- يقول: أيها الناس: اسمعوا وَعُوا، وإذا وعيتم فانتفعوا إن من عاش مات ومن مات فات، وكل ماهو آتٍ، آت، إن في السماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسماء ذات أبراج!!
يُقسم قيس، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. مالي أرى الناس يذهبون، ولايرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا ثم أنشد قائلاً:
في الذاهبين الأولين
…
من القرون لنا بصائر
…
لما رأيت موارداً
…
للموت ليس لها مصائر
ورأيت قومي نحوها
…
يسعى الأكابر والأصاغر
…
أيقنت أني لامحالة
…
حيث صار القوم صائر (1)
وبهذا الترتيب الممتاز، وبهذه الذاكرة الحديدية، وهي ذاكرة استوعبت هذه المعاني يقص الصديق ماقاله قس بن ساعدة على رسول الله وأصحابه (2).
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصّها على بحيرا الراهب (3)، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر ذلك أبو بكر في نفسه (4).
لقد كان إسلام الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يدعو الأفراد إلى الله وقع أول اختياره على الصديق رضي الله عنه، فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي بصدقه وأمانته، وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس فكيف يكذب على الله (5)؟
(1) مواقف الصديق مع النبي بمكة، ص8.
(2)
نفس المصدر، ص9.
(3)
الخلفاء الراشدون، محمود شاكر، ص34.
(4)
نفس المصدر، ص34.
(5)
تاريخ الدعوة في عهد الخلفاء الراشدين، ص44.
فعندما فاتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الله وقال له: .. إني رسول الله ونبيه، بعثني إلى الله وحده لاشريك له، ولاتعبد غيره، والموالاة على طاعته (1)، فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته فقام بما تعهد ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه: إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين.
(حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذا بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أما صاحبكم فقد غامر). فسلم وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال:(يغفر الله لك يا أبا بكر). ثلاثا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم أبو بكر، فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق. وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي). مرتين، فما أوذي بعدها.
وبذلك كان الصديق رضي الله عنه أول من أسلم من الرجال الأحرار، قال إبراهيم النخعي، وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر: أول من أسلم أبو بكر. وقال يوسف بن يعقوب الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا: محمد بن المنكدر، وربيعة بن عبد الرحمن، وصالح بن كيسان وسعد بن ابراهيم وعثمان بن محمد الأخنس وهم لايشكون أن أول القوم إسلاماً أبو بكر (2)،
[*] عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
أول من صلى أبو بكر ثم تمثل بأبيات حسان:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة
…
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها
…
إلا النبي وأوفاها بما حملا
الثاني التالي المحمود مشهده
…
وأول الناس صدق الرسلا (3)
وثاني أثنين في الغار المنيف وقد
…
طاف العدو به إذ صعد الجبلا
وعاش حميداً لأمر الله متبعاً
…
بهدى صاحبه الماضي وما انتقلا
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/ 286)؛ السيرة الحلبية (1/ 440).
(2)
صفة الصفوة (1/ 237)؛ احمد فضائل الصحابة (3/ 206).
(3)
ديوان حسان بن ثابت تحقيق وليد عرفات (1/ 17).
وكان حب رسول الله قد علموا
…
من البرية لم يعدل به رجلا (1)
وبإسلام أبي بكر عمٍّ السرور قلب النبي صلى الله عليه وسلم حيث تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فلما فرغ من كلامه -أي النبي صلى الله عليه وسلم أسلم أبو بكر فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده، ومابين الأخشبين أحد أكثر سروراً منه بإسلام أبي بكر (2). لقد كان أبوبكر كنزاً من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافاً، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كافٍ لإلفة القوم وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: أرحم أمتي بأمتي أبوبكر، كما في الحديث الآتي:
(حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في دين الله عمر وأصدقهم حياء عثمان وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وأفرضهم زيد بن ثابت ألا وإن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.
وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق رضي الله عنه النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصدِّيق بأنه أعلمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها، ومافيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته، وطبقة رجال الأعمال، ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق، فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قصاده، ولطيبته وحسن خلقه تجد عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه (3)، كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، ولذلك عندما تحرك في دعوته للاسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق (4).
(1) ديوان حسان (1/ 17).
(2)
البداية والنهاية (3/ 29).
(3)
انظر: التربية القيادية للغضبان (1/ 115).
(4)
نفس المصدر (1/ 116).