الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد ظل الإمام محبوساً طيلة ثمانية وعشرين شهراً، ولما تولى الخلافة الواثق، وهو أبو جعفر هارون بن المعتصم، أمر الإمام أن يختفي، فاختفى إلى أن توفّي الواثق.
وحين وصل المتوكّل ابن الواثق إلى السلطة، خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد بخلق القرآن، ونهى عن الجدل في ذلك، وأكرم المتوكل الإمام أحمد ابن حنبل، وأرسل إليه العطايا، ولكنّ الإمام رفض قبول عطايا الخليفة.
قصة محنة خلق القرآن:
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء:
كان الناس امة واحدة ودينهم قائما في خلافة أبي بكر وعمر فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر رضي الله عنه وانكسر الباب قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذبح صبرا وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل ثم وقعة صفين فظهرت الخوارج وكفرت سادة الصحابة ثم ظهرت الروافض والنواصب وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين فظهر المأمون الخليفة وكان ذكيا متكلما له نظر في المعقول فاستجلب كتب الأوائل وعرب حكمة اليونان وقام في ذلك وقعد وخب ووضع ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها بل والشيعة فانه كان كذلك وآل به الحال أن حمل الأمة على القول بخلق القران وامتحن العلماء فلم يمهل وهلك لعامه وخلى بعده شرا وبلاء في الدين فإن الأمة ما زالت على أن القران العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله لا يعرفون غير ذلك حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول وانه إنما يضاف إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله وناقة الله فأنكر ذلك العلماء ولم تكن الجمهية يظهرون في دولة المهدي والرشيد والأمين فلما ولي المأمون كان منهم وأظهر المقالة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن نوح قال: إن الرشيد قال بلغني أن بشر بن غياث المريسي يقول القرآن مخلوق فلله علي إن أظفرني به لأقتلنه قال الدورقي وكان متواريا أيام الرشيد فلما مات الرشيد ظهر ودعا إلى الضلالة قلت ثم إن المأمون نظر في الكلام وناظر وبقي متوقفا في الدعاء إلى بدعته، قال أبو الفرج بن الجوزي خالطه قوم من المعتزلة فحسنوا له القول بخلق القران وكان يتردد ويراقب بقايا الشيوخ ثم قوي عزمه وامتحن الناس.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن اكثم قال: قال لنا المأمون لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أن القرآن مخلوق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين ومن يزيد حتى يتقي فقال ويحك إني أخاف إن أظهرته فيرد علي يختلف الناس وتكون فتنة وأنا اكره الفتنة فقال الرجل فأنا أخبر ذلك منه قال له نعم فخرج إلى واسط فجاء إلى يزيد وقال يا أبا خالد إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك إني أريد أن أظهر خلق القران فقال كذبت على أمير المؤمنين أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه فان كنت صادقا فاقعد فإذا اجتمع الناس في المجلس فقل، قال فلما أن كان الغد اجتمعوا فقام فقال كمقالته فقال يزيد كذبت على أمير المؤمنين إنه لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه وما لم يقل به احد قال فقدم وقال يا أمير المؤمنين كنت أعلم وقص عليه قال ويحك يلعب بك.
دخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة قرأ علينا كتاب الذي صار إلى طرسوس يعني المأمون فكان فيما قرئ علينا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى: 11] و (هُوَ خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ)[الأنعام: 102] فقلت (وَهُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى: 11] قال صالح ثم امتحن القوم ووجه بمن امتنع إلى الحبس فأجاب القوم جميعا غير أربعة أبي ومحمد بن نوح والقواريري والحسن بن حماد سجادة ثم أجاب هذان وبقي أبي ومحمد في الحبس أياما ثم جاء كتاب من طرسوس بحملهما مقيدين زميلين.
ثبات قلب أحمد بن حنبل على الحق ورباطة جأشه:
يقف الإمام أحمد بين يدي الخليفة المعتصم ثابت الجنان قوي الإيمان، وقد ازدحم الناس ليشاهدوا مشهدا رهيبا؛ فهذا الخليفة وحوله جنوده، وهذا أحمد في قيوده، الأول سلاحه البطش والجبروت، والثاني سلاحه القرآن والسنة يستعذب العذاب في سبيل الله، ويسأله وحده العفو والمغفرة، ويرجوه رضاه ورضوانه يجلس الخليفة على كرسيه، ويقف الإمام أحمد بين يديه والسيوف قد جردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، يريدون إرهابه وهو قد باع نفسه لربه، وبكل ما يصنعون وأكثر لا يأبه.
يرد على الخليفة بالبرهان الساطع والدليل القاطع، ويعجز الخليفة في ترغيبه أو ترهيبه ليقول بكلام المعتزلة القرآن مخلوق والعياذ بالله، ويحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فيناظرونه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويقهرهم، فيقول ابن أبي دؤاد وبشر المريسي للخليفة: اقتله حتى نستريح منه.
ولكن المعتصم يقيم مباراة بين الجلادين لقتله بالسياط الموجعة، ويحدثونه في الرجوع عن إصراره، ولكنه يقول لهم في صلابة: أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله أقول به.
ويستمر الضرب وتزداد شدته، حتى يقع الإمام أحمد رحمه الله على الأرض في غيبوبة، لا يدري ما يفعلون به.
وعندما عادت لأحمد ذاكرته، تقدم إليه ابن أبي دؤاد، وقال له: يا أحمد قل في أذني القرآن مخلوق حتى أخلصك من يد الخليفة؛ فقال له الإمام أحمد: يا بن أبي دؤاد قل في أذني القرآن كلام الله وليس بمخلوق حتى أخلصك من عذاب الله عز وجل، فقال المعتصم: أدخلوه إلى الحبس، فحمل إلى الحبس وانصرف الناس
وهكذا واجه الإمام أحمد بن حنبل المحنة في صبر جميل وشجاعة نادرة، يقول أحد جلاديه:"ضربت أحمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته فيلا لهدمته"
وينتصر الدين بصاحب العقيدة القوية، ويتحمله في سبيل نصرة دين الله على كل بلية، وترفع راية الإسلام عالية ويندحر أصحاب البدعة والضلالة.
ويصفح الإمام أحمد رضوان الله عليه عن المعتصم، راجيا غفران ربه، وحسن ثوابه، مستجيبا لأوامره؛ (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور: 22]، ولقوله عز وجل:(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى: 40]
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن أبي اسامة قال: حكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة يا أبا عبد الله أولا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل قال كلا إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة وقلوبنا بعد لازمة للحق.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي جعفر الأنباري قال: لما حُمِلَ أحمد إلى المأمون أخبرت فعبرت الفرات فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه فقال يا أبا جعفر تعنيت فقلت يا هذا أنت اليوم رأس والناس يقتدون بك فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت لابد من الموت فاتق الله ولا تجب فجعل أحمد يبكي ويقول ما شاء الله ثم قال يا أبا جعفر أعد علي فأعدت عليه وهو يقول ما شاء الله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن صالح بن أحمد بن حنبل، قال أبي: لما كان في شهر رمضان لليلة سبع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق ابن إبراهيم وأنا مقيد بقيد واحد يوجه إلي في كل يوم رجلان سماهما أبي، قال أبو الفضل: وهما أحمد بن رباح، وأبو شعيب الحجاج، يكلماني ويناظراني، فإذا أرادا الانصراف دعوا بقيد فقيدت به، فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيام فصار في رجلي أربعة أقياد، فقال لي أحدهما في بعض الأيام في كلام دار بيننا وسألته عن علم الله فقال: علم الله مخلوق. فقلت له: يا كافر كفرت، فقال لي الرسول الذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق: هذا رسول أمير المؤمنين، قال: فقلت له: إن هذا زعم أن علم الله مخلوق، فنظر إليه كالمنكر عليه ما قال ثم انصرفا.
قال أبي: وأسماء الله في القرآن والقرآن من علم الله، فمن زعم إن القرآن مخلوق فهو كافر، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقه فقد كفر.
قال أبي رحمه الله: فلما كانت ليلة الرابعة بعد العشاء الآخرة وجه المعتصم بنا إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي يأمره بحملي، فأدخلت على إسحاق فقال لي: يا أحمد إنها والله نفسك إنه حلف أن لا يقتلك بالسيف وأن يضربك ضرباً بعد ضرب، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس، أليس قد قال الله عز وجل:(إِنّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)[الزخرف: 3] الزخرف 3. فيكون مجعولا إلا مخلوق.
قال أبي: فقلت له: قد قال: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مّأْكُولِ)[الفيل: 5]. أفخلقهم، فقال: اذهبوا به،
قال أبي: فأنزلت إلى شاطئ دجلة فأحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق. قال: فقال بغا لمحمد المحاربي بالفارسية: ما تريدون من هذا الرجل. قال: يريدون منه أن يقول القرآن مخلوق. فقال: ما أعرف شيئاً من هذه الأقوال، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وقرابة أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبي: فلما صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق فجعلت أكاد أخر علي وجهي حتى انتهي بي إلى الدار، فأدخلت ثم عرج بي إلى الحجرة فصيرت في بيت منها وأغلق علي الباب وأقعد عليه رجل، وذلك في جوف الليل، وليس في البيت سراج. فاحتجت إلى الوضوء فمددت يدي أطلب شيئاً فإذا أنا بإناء فيه ماء وطشت فتهيأت للصلاة وقمت أصلي، فلما أصبحت جاءني الرسول فأخذ بيدي وأدخلني الدار وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر، قد جمع أصحابه والدار غاصة بأهلها، فلما دنوت سلمت فقال لي: ادن، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه، ثم قال لي: اجلس، فجلست وقد أثقلتني الأقياد، فلما مكثت هنيهة قلت: تأذن في الكلام؟ فقال: تكلم، فقلت: إلى ما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، قال: قلت أنا أشهد أن لا إله إلا الله. ثم قلت له: إن جدك ابن عباس يحكي أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله، قال: أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا الخمس من الغنم.
قال أبو الفضل: حدثناه أبي، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني أبو حمزة قال: قال: سمعت ابن عباس قال: إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله فذكر الحديث. قال أبو الفضل قال أبي: فقال لي عند ذلك لولا أن وجدتك في يد من كان قبلي ما تعرضت لك، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن إسحاق فقال له: يا عبد الرحمن، ألم آمرك أن ترفع المحنة،
قال أبي: فقلت في نفسي: الله أكبر، إن في هذا فرجاً للمسلمين. قال: ثم قال: ناظروه وكلموه، ثم قال: يا عبد الرحمن كلمه، فقال لي عبد الرحمن: ما تقول في القرآن؟ قال: قلت ما تقول في علم الله. فسكت.
قال أبي: فجعل يكلمني هذا وهذا فأرد علي هذا وأكلم هذا، ثم أقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أقول به. أراه قال: فيقول ابن أبي دؤاد: فأنت ما تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسوله. قال: فقلت تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت تحبس عليه وتقيد عليه، قال: فقال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم، فيقول: ما تقولون فيه؟ فيقولون: يأتك والفقهاء فسلهم، فيقول: ما تقولون فيه؟ فيقولون: يا أمير المؤمنين هو ضال مضل مبتدع. قال: ولا يزالون يكلموني، قال وجعل صوتي يعلو أصواتهم، وقال إنسان منهم قال الله تعالى:(مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ)[الأنبياء: 2]. أفيكون محدثاً إلا مخلوقاً؟ قال: فقلت له: قال الله تعالى: (صَ وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ)[ص: 1]. فالقرآن هو الذكر والذكر هو القرآن، ويلك ليس فيها ألف ولام، قال: فجعل ابن سماعة لا يفهم ما أقول، قال: فجعل يقول لهم: ما يقول؟ قال: فقالوا: إنه يقول كذا وكذا، قال: فقال لي إنسان منهم حديث خباب: تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه،
قال أبي: فقلت لهم نعم هكذا هو. فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظاً عليه.
قال أبي: وقال بعضهم أليس قال: قال تعالى: (خَالِقُ كُلّ شَيْءٍ)[الأنعام: 102]. قلت: قد قال: تدمر كل شيء الأحقاف 25. فدمرت إلا ما أراد الله. قال: فقال بعضهم فما تقول وذكر حديث عمران ابن حصين: إن الله كتب الذكر فقال: إن الله خلق الذكر. فقلت: هذا خطأ حدثناه غير واحد إن الله كتب الذكر.
قال أبي: فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فتكلم. فلما قارب الزوال قال لهم: قوموا ثم حبس عبد الرحمن ابن إسحاق فخلا بي وبعبد الرحمن، فجعل يقول: أما تعرف صالحاً الرشيدي كان مؤدبي، وكان في هذا الموضع جالساً وأشار إلى ناحية من الدار قال فتكلم وذكر القرآن فخالفني فأمرت به فسحب ووطئ ثم جعل يقول لي ما أعرفك ألم تكن تأتينا، فقال له عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك وهو ملازم لمنزله. قال: فجعل يقول: والله إنه لفقيه وإنه لعالم وما يسوءني أن يكون معي يرد على أهل الملك، ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي، لأطأن عقبه ولأركبن إليه بجندي. قال: ثم يلتفت إلي فيقول: ويحك يا أحمد ما تقول، قال: فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما طال بنا المجلس ضجر فقام فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه ثم وجه إلي برجلين إحداهما وهما صاحب الشافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان وجعلت أتعلل حتى ترفع المائدة، وأقاما إلى غدو في خلال ذك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي: يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين ما تقول، فأقول له: أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به، فقال لي ابن أبي دؤاد: والله لقد كتب اسمك في السبعة فمحوته ولقد ساءني أخذهم إياك، وإنه والله ليس السيف إنه ضرب بعد ضرب، ثم يقول لي: ما تقول فأرد عليه نحواً مما رددت عليه. ثم يأتيني رسوله فيقول أين أحمد بن عمار أجب الرجل الذي أنزلت في حجرته فيذهب ثم يعود، فيقول: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول فأرد عليه نحواً مما رددت على ابن أبي دؤاد فلا تزال رسله تأتي أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه، ويقول: يقول لك أمير المؤمنين: أجبني حتى أجيء فأطلق عنك بيدي.
قال: فلما كان في اليوم الثاني أدخلت عليه، فقال: ناظروه وكلموه، قال: فجعلوا يتكلمون هذا من هاهنا وهذا من هاهنا فأرد علي هذا وهذا فإذا جاؤا بشيء من الكلام مما ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر، قلت: ما أدري ما هذا؟ قال: فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا وثب وإذا كلمناه بشيء يقول: لا أدري ما هذا، قال: فيقول: ناظروه ثم يقول: يا أحمد إني عليك شفيق. فقال رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله فقال له: ما تقول في قول الله تعالى: قال تعالى: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِيَ أَوْلَادِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظّ الاُنْثَيَيْنِ)[النساء: 11]. فقال: خص الله بها المؤمنين، قال: فقلت له: ما تقول إن كان قاتلا أو عبداً أو يهودياً أو نصرانياً فسكت،
قال أبي: وإنما احتججت عليهم بهذا لأنهم كانوا يحتجون علي بظاهر القرآن ولقوله تنتحل الحديث وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعدد ما شاء الله من ذلك. ثم أمرهم بعد ذلك بالقيام وخلا بي وبعبد الرحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول ندعو أحمد ابن دؤاد؟ فأقول ذلك إليك فيوجه إليه فيجيء فيتكلم. فلما طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه وجاءني الرجلان اللذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان فدار بيننا كلام كثير فلما كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو ما أتي به في أول ليلة فأفطروا فتعللت وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه فيأتيني برسالة على نحو ما كان لي أول ليلة، وجاء ابن أبي دؤاد فقال إنه قد حلف أن يضربك ضرباً وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشمس، فقلت له: فما صنع؟ حتى إذا كدت أن أصبح قلت لخليق أن يحدث في هذا اليوم من أمري شيء، وقد كنت خرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد أحملها بها إذا توجهت إليه فقلت لبعض من كان معي الموكل بي أريد لي خيطاً، فجاءني بخيط فشددت به الأقياد وأعدت التكة في سراويلي ولبستها كراهية أن يحدث شيء من أمري فأتعرى. فلما كان في اليوم الثالث أدخلت عليه والقوم حضور فجعلت أدخل من دار إلى دار وقوم معهم السيوف وقوم معهم السياط وغير ذلك من الزي والسلاح وقد حشيت الدار بالجند ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء حتى إذا صرت إليه قال ناظروه وكلموه فعادوا لمثل مناظرتهم فدار بيننا وبينهم كلام كثير حتى إذا كان في الوقت الذي كان يخلو بي فيه فجاءني ثم اجتمعوا فشاورهم ثم نحاهم ودعاني فخلا بي وبعبد الرحمن فقال لي: ويحك يا أحمد وأنا والله عليك شفيق وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني، فأجبني، فقلت: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما ضجر وطال المجلس قال عليك لعنة الله لقد طمعت فيك، خذوه اخلعوه واسحبوه. قال فأخذت فسحبت ثم خلعت ثم قال العقابين والسياط، فجيء بعقابين والسياط.
قال أبي: وقد كان صار إلي شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما في كم قميصي، فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إلي: ما هذا المصرور في كمك؟ فقلت شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم. فسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين القابين فقال لهم لا تحرقوه وانزعوه عنه قال أبي فظنت أنه بسبب الشعر الذي كان فيه. ثم صيرت بين العقابين وشدت يدي وجيء بكرسي فوضع له وابن أبي دؤاد قائم على رأسه والناس اجتمعوا وهم قيام ممن حضر فقال لي إنسان ممن شدني خذ أي الخشبتين بيدك وشد عليها. فلم أفهم ما قال. قال فتخلعت يدي لما شدت ولم أمسك الخشبتين قال أبو الفضل ولم يزل أبي رحمه الله يتوجع منها من الرسغ إلى أن توفي ثم قال للجلادين تقدموا فنظر إلى السياط فقال ائتوا بغيرها، ثم قال لهم تقدموا فقال لأحدهم أدنه أوجع قطع الله يدك. فتقدم فضربني سوطين ثم تنحى، فلم يزل يدعو واحداً بعد واحد فيضربني سوطين ويتنحى ثم قام حتى جاءني وهم محمقون به فقال: ويحك يا أحمد تقتل نفسك. ويحك أجبني حتى أطلق عنك بيدي. فقال فجعل بعضهم يقول ويحك إمامك على رأسك قائم، قال: وجعل يعجب وينخسني بقالم سيفه ويقول تريد أن تغلب هؤلاء كلهم وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول ويلك الخليفة على رأسك قائم: قال ثم يقول بعضهم يا أمير المؤمنين دمه في عنقي قال ثم رجع فجلس على الكرسي ثم قال للجلاد: أدنه شد ـ قطع الله يدك ـ ثم لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني سوطين ويتنحى وهو يقول له شد قطع الله يدك ثم قام لي الثانية فجعل يقول: يا أحمد أجبني وجعل عبد الرحمن بن إسحاق يقول لي: من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت؟ هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي ...... وجعل يعدد علي من أجاب، وجعل هو يقول: ويحك أجبني، قال: فجعلت أقول نحواً مما كنت أقول لهم، قال: فرجع فجلس ثم جعل يقول للجلاد: شد ـ قطع الله يدك ـ
قال أبي: فذهب عقلي وما عقلت إلا وأنا في حجرة طلق عني الأقياد، فقال إنسان ممن حضر: إنا كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك سارية ودسناك،
قال أبي: فقلت: ما شعرت بذلك. قال: فجاؤني بسويق، فقالوا لي: اشرب وتقيا، فقلت: لا أفطر ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم،
قال أبي: فنودي بصلاة الظهر فصلينا الظهر، قال ابن سماعة صليت والدم يسيل من ضربك. فقلت: قد صلى عمر وجرحه يثعب دماً فسكت ثم خلى عنه ووجه إليه برجل ممن يبصر الضرب والجراحات ليعالج فيها، فنظر إليه فقال لنا: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ما رأيت ضرباً أشد من هذا، لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ثم أدخل ميلا في بعض تلك الجراحات، وقال: لم يثعب فجعل يأتيه ويعالجه وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ثم مكث يعالجه ما شاء الله ثم قال: إن هاهنا شيئاً أريد أن أقطعه، فجاء بحديدة فجعل يعلق اللحم بها ويقطعه بسكين معه وهو صابر لذلك يحمد الله في ذلك فبرأه منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه، وكان أثر الضرب بيناً في ظهره إلى أن توفي رحمه الله.
قال أبو الفضل: سمعت أبي يقول: والله لقد أعطت المجهود من نفسي ولوددت إن أنجو من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي،
قال أبو الفضل: فأخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه وقد كان هذا الرجل ـ يعني صاحب الشافعي ـ صاحب حديث قد سمع ونظر ثم جاءني بعد، فقال لي: يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله، والله ما رأيت أحداً يشبهه، قد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام: يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع مسغبة، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب ناولني فناوله قدحاً فيه ماء وثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثم رده عليه،
قال: فجعلت أعجب إليه من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول، قال أبو الفضل: وكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاماً أو رغيفاً أو رغيفين في هذه الأيام فلم أقدر على ذلك وأخبرني رجل حضره، قال: تفقدته في هذه الأيام وهم يناظرونه ويكلمونه فما لحن في كلمة وما ظننت أن أحداً يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن الفرج: كنت أتولى شيئاً من أعمال السلطان فبينما أنا ذات يوم قاعد في مجلس إذا أنا بالناس قد أغلقوا أبواب دكاكينهم وأخذوا أسلحتهم، فقلت: مالي أرى الناس قد استعدوا للفتنة. فقالوا: إن أحمد بن حنبل يحمل ليمتحن في القرآن، فلبست ثيابي وأتيت حاجب الخليفة وكان لي صادقاً، فقلت: أريد أن تدخلني حتى أنظر كيف يناظر أحمد الخليفة؟ فقال: أتطيب نفسك بذلك؟ فقلت: نعم فجمع جماعة وأشهدهم علي وتبرأ من إثمي ثم قال لي: امض فإذا كان يوم الدخول بعثت إليك. فلما أن كان اليوم الذي أدخل فيه أحمد على الخليفة أتاني رسوله، فقال: البس ثيابك واستعد للدخول فلبست قباء فوقه قفطان وتمنطقت بمنطقة وتقلدت سيفاً وأتمت الحاجب فأخذ بيدي وأدخلي إلى الفوج الأول مما يلي أمير المؤمنين وإذا أنا بابن الزيات وإذا بكرسي من ذهب مرصع بالجوهر قد غشي أعلاه بالديباج فخرج الخليفة فقعد عليه ثم قال: أين هذا الذي يزعم أن الله عز وجل يتكلم بجارحتين؟ علي به. فأدخل أحمد وعليه قميص هروي وطيلسان أزرق وقد وضع يداً على يد وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، حتى وقف بين يدي الخليفة، فقال: أنت أحمد بن حنبل، فقال: أنا أحمد بن محمد بن حنبل، فقال: أنت الذي بلغني عنك أنك تقول القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود؟ من أين قلت هذا؟ قال أحمد: من كتاب الله تعالى وخبر نبيه صلى الله عليه وسلم.
قال: وما قال النبي صلى الله عليه وسلم؟
فقال: حدثني عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كلم موسى بمائة ألف كلمة وعشرين ألف كلمة وثلاثمائة كلمة وثلاث عشرة كلمة فكان الكلام من الله والاستماع من موسى. فقال موسى: أي رب أنت الذي تكلمني أم غيرك؟ قال الله تعالى: يا موسى أنا أكلمك لا رسول بيني وبينك، قال: كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أحمد: فإن يك هذا كذباً مني على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال الله تعالى:(وَلََكِنْ حَقّ الْقَوْلُ مِنّي لأمْلأنّ جَهَنّمَ مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ)[السجدة: 13] فإن يكن القول من غير الله فهو مخلوق، وإن كان مخلوقاً فقد ادعى حركة لا يطيق فعلها، فالتفت إلى أحمد وابن الزيات، فقال: ناظروه قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا، قال فرفع يده فلطم حر وجهه فخر مغشياً عليه فتفرق وجوه قواد خراسان وكان أبوه من أبناء قواد خراسان، فخاف الخليفة على نفسه منهم فدعا بكوز من ماء فجعل يرش على وجهه. فلما أفاق رفع رأسه إلى عمه وهو واقف بين يدي الخليفة فقال: يا عم لعل هذا الماء الذي صب على وجهي غضب صاحبه عليه، فقال الخليفة: ويحكم ما ترون ما يهجم علي من هذا الحديث، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت عنه السوط حتى يقول القرآن مخلوق. ثم دعا بجلاد يقال له أبو الدن، فقال: في كم تقتله؟ قال: في خمسة أو عشرة أو خمسة عشرة أو عشرين، فقال: أقتله فكلما أسرعت كان أخفى للأمر، ثم قال: جردوه، قال: فنزعت ثيابه ووقف بين العقابين وتقدم أبو الدن قطع الله يده فضربه بضعه عشر سوطاً فأقبل الدم من أكتافه إلى الأرض، وكان أحمد ضعيف الجسم، فقال إسحاق بن إبراهيم: يا أمير المؤمنين إنه إنسان ضعيف الجسم، فقال: قد سمعت قولي، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت السوط عنه حتى يقول كما أقول. فقال: يا أبا عبد الله البشري إن أمير المؤمنين قد تاب عن مقالته وهو يقول لا إله إلا الله. فقال أحمد: كلمة الإخلاص وأنا أقول لا إله إلا الله، فقال: يا أمير المؤمنين إنه قد قال كما تقول. فقال: خل سبيله. وارتفعت بالباب، فقال: أخرج فانظر ما هذه الضجة.
فخرج ثم دخل فقال: يا أمير المؤمنين إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج أحمد بن حنبل إني لك من الناصحين فأخرج وقد وضع طيلسانه وقميصه على يده وكنت أول من وافى الباب، فقال الناس: ما قلت يا أبا عبد الله حتى نقول، قال: وما عسى أن أقول أكتبوا يا أصحاب الأخبار واشهدوا يا معشر العامة أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
قال أحمد بن الفرج: وكنت أنظر إلى أحمد بن حنبل والسوط قد أخذ كتفيه وعليه سراويل فيه خيط فانقطع الخيط ونزل السراويل فلحظته وقد حرك شفتيه فعاد السراويل كما كان، فسألته عن ذلك، فقال: نعم إنه لما انقطع الخيط قلت: اللهم إلهي وسيدي واقفتني هذا الموقف فلا تهتكني على رءوس الخلائق فعاد السراويل كما كان.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق قال يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدا وإن عشت حميدا فقوى قلبي، قال صالح بن أحمد: قال أبي فلما صرنا إلى أذنة ورحلنا منها في جوف الليل وفتح لنا بابها إذا رجل قد دخل فقال البشرى قد مات الرجل يعني المأمون قال أبي وكنت أدعو الله أن لا أراه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال: تبينت الإجابة في دعوتين دعوت الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون ودعوته أن لا أرى المتوكل فلم أر المأمون مات بالبذندون قلت وهو نهر الروم وبقي أحمد محبوسا بالرقة حتى بويع المعتصم إثر موت أخيه فرد أحمد إلى بغداد وأما المتوكل فانه نوه بذكر الإمام أحمد والتمس الاجتماع به فلما أن حضر أحمد دار الخلافة بسامراء ليحدث ولد المتوكل ويبرك عليه جلس له المتوكل في طاقة حتى نظر هو وأمه منها إلى أحمد ولم يره أحمد.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال: ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقدر علمه أَقْوَمُ بأمر الله من محمد بن نوح إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير قال لي ذات يوم يا أبا عبد الله إنك لست مثلي أنت رجل يقتدي بك قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله واثبت لأمر الله أو نحو هذا فمات وصليت عليه ودفنته أظن قال بعانة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن أحمد بن حنبل يقول: مكث أبي بالعسكر عند الخليفة ستة عشر يوماً، ما ذاق إلا مقدار ربع سويق، كل ليلة كان يشرب شربة ماء. وفي كل ثلاث ليال يستف حفنة من السويق، فرجع إلى البيت ولم ترجع إليه نفسه إلا بعد ستة أشهر، ورأيت موقيه دخلتا في حدقتيه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن أبي سمينة عن شابا من التائب قال لقد ضرب أحمد بن حنبل ثمانين سوطا لو ضربته على فيل لهدته.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال: قيل لي اكتب ثلاث كلمات ويخلى سبيلك فقلت هاتوا قالوا: اكتب الله قديم لم يزل قال فكتبت فقالوا اكتب كل شيء دون الله مخلوق وقالوا اكتب الله رب القرآن، قلت: أما هذه فلا ورميت بالقلم فقال بشر بن الحارث لو كتبها لأعطاهم ما يريدون.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المهتدي بالله محمد بن الواثق قال: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحدا أحضرنا فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه يعني ابن أبي داود قال فأدخل الشيخ فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال لا سلم الله عليك فقال يا أمير المؤمنين بئس ما ادبك مؤدبك قال الله تعالى (وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدّوهَآ إِنّ)[النساء: 86] فقال ابن أبي داود الرجل متكلم قال له كلمه فقال يا شيخ ما تقول في القرآن قال لم ينصفني ولي السؤال قال سل قال ما تقول في القرآن قال مخلوق قال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أم شيء لم يعلموه؟ قال شيء لم يعلموه، فقال سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم علمته أنت فخجل فقال أقلني قال المسألة بحالها قال نعم علموه فقال علموه ولم يدعوا الناس اليه قال نعم قال أفلا وسعك ما وسعهم قال فقام أبي فدخل مجلسا واستلقى وهو يقول شئ لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون علمته أنت سبحان الله شيء علموه ولم يدعوا الناس اليه أفلا وسعك ما وسعهم ثم أمر برفع قيوده وأن يعطي أربع مئة دينار وَيُؤْذَنُ له في الرجوع وسقط من عينه ابن أبي داود ولم يمتحن بعدها احدا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حامد بن العباس عن رجل عن المهتدي أن الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن.
قصة خروج أحمد بن حنبل من السجن:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إبراهيم البوشنجي ذكروا أن المعتصم ألان في أمر أحمد لما علق في العقابين ورأى ثباته وتصميمه وصلابته حتى أغراه أحمد بن أبي داوود وقال يا أمير المؤمنين إن تركته قيل قد ترك مذهب المأمون وسخط قوله فهاجه ذلك على ضربه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي زرعة قال: دعا المعتصم بعم أحمد ثم قال للناس تعرفونه قالوا نعم هو أحمد بن حنبل قال فانظروا إليه أليس هو صحيح البدن قالوا نعم ولولا انه فعل ذلك لكنت أخاف أن يقع شيء لا يقام له قال ولما قال قد سلمته إليكم صحيح البدن هدأ الناس وسكنوا.
قال الذهبي تعليقاً على هذا: قلت ما قال هذا مع تمكنه في الخلافة وشجاعته إلا عن أمر كبير كأنه خاف أن يموت من الضرب فتخرج عليه العامة ولو خرج عليه عامة بغداد لربما عجز عنهم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حنبل قال: لما أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله خلع عليه مبطنة وقميصاً وطيلسانا وقلنسوة وخفاً، فبينا نحن على باب الدار والناس في الميدان والدروب وغيرها وغلقت الأسواق إذ خرج أبو عبد الله على دابة من دار المعتصم في تلك الثياب وأحمد بن أبي داود عن يمينه وإسحاق بن إبراهيم يعني نائب بغداد عن يساره فلما صار في الدهليز قبل أن يخرج قال لهم ابن أبي داود اكشفوا رأسه فكشفوه يعني من الطيلسان وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس فقال لهم إسحاق خذوا به ها هنا يريد دجلة فذهب به إلى الزورق وحمل إلى دار إسحاق بن إبراهيم فأقام عنده إلى أن صليت الظهر وبعث إلى والدي والى جيراننا ومشايخ المحال فجمعوا وأدخلوا عليه فقال لهم هذا أحمد بن حنبل إن كان فيكم من يعرفه وإلا فليعرفه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سماعة قال: حين دخل الجماعة لهم هذا أحمد بن حنبل وإن أمير المؤمنين ناظره في أمره وقد خلى سبيله وها هو ذا فاخرج على فراس لإسحاق بن إبراهيم عند غروب الشمس فصار إلى منزله ومعه السلطان والناس وهو منحن فلما ذهب لينزل احتضنته ولم أعلم فوقعت يدي على موضع الضرب فصاح فنحيت يدي فنزل متوكئا علي وأغلق الباب ودخلنا معه ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرك إلا بجهد ونزع ما كان خلع عليه فأمر به فبيع وتصدق بثمنه وكان المعتصم أمر إسحاق بن إبراهيم أن لا يقطع عنه خبره وذلك أنه ترك فيما حكي لنا عند الإياس منه وبلغنا أن المعتصم ندم وأسقط في يده حتى صلح فكان صاحب خبر إسحاق بن إبراهيم يأتينا كل يوم يتعرف خبره حتى صح وبقيت إبهاماه منخلعتين يضربان عليه في البرد فيسخن له الماء، ولما أردنا علاجه خفنا أن يدس أحمد بن أبي داوود سماً إلى المعالج فعملنا الدواء والمرهم في منزلنا وسمعته يقول كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعا وقد جعلت أبا إسحاق يعني المعتصم في حل ورأيت الله يقول ^ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون ان يغفر الله لكم ^ وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قصة مسطح قال أبو عبد الله وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك.
تحديد إقامة الإمام أحمد في عهد الواثق:
وتولى الواثق الحكم بعد المعتصم في ربيع الأول سبع وعشرين ومائتين ولم يتعرض للإمام، وقد رأى أن التعذيب لا يفيد فيمن كانت إرادته كالحديد، وعرف فيه أنه عن الحق لا ولن يحيد، ورأى أتباعه في مزيد، ولكنه كتب إلى محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد فقيه ومحدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون بمن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق"، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد
وبعث إلى الإمام أحمد يحدد إقامته: "لا تساكني بأرض"، وقيل: أمره أن يخرج من بيته، ويظل الإمام أحمد متخفيا حتى مات الواثق، ووقاه الله شره، وأراه سبحانه ثمرة جهاده وصبره، فكرمه وأعلى ذكره، وخسف بأعدائه، وأذلهم وكان في ذلك عبرة.