الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعند العُشّاري عن أبي الجحَّاف قال: لما بُويع أبو بكر رضي الله عنه أغلق بابه ثلاثة أيام يخرج إليهم في كل يوم فيقول: أيها الناس، قد أقلتكم بيعتكم فبايعوا من أحببتم. وكل ذلك يقوم إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: لا نُقيلك ولا نستقيلك وقد قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك؟ كذا في الكنز. وأخرجه ابن النجار عن زيد بن علي عن آبائه رضي الله عنهم قال: قام أبو بكر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل من كاره فأقيله؟
ثلاثاً يقول ذلك
فعند ذلك يقوم علي بن أبي طالب فيقول: لا والله لا نُقيلك ولا نستقيلك، من ذا الذي يؤخرك وقد قدّمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذا في الكنز.
وأخرج ابن راهَوَيْه، والعدَني، والبَغَوي، وابن خُزيمة عن رافع بن أبي رافع قال: لما استخلف الناس أبا بكر رضي الله عنه قلت: يا صاحبي الذي أمرني أن لا أتأمر على رجلين، فارتحلت فانتهيت إلى المدينة فتعرَّضت لأبي بكر فقلت له: يا أبا بكر أتعرفني؟ قال: نعم. قلت: أتذكر شيئاً قلته لي؛ أن لا أتأمَّر على رجلين وقد وَلِيتَ أمر الأمة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبض والناس حديثو عهد بكفر، فخفت عليهم أن يرتدوا وأن يختلفوا؛ فدخلت فيها وأنا كاره، ولم يزل بي أصحابي. فلم يزل يعتذر حتى عذرته. كذا في الكنز.
الحزن على قبول الخلافة قول أبي بكر لعمر: أنت كلفتني هذا الأمر:
وأخرج ابن راهَوَيْه، وخيثمة في فضائل الصحابة وغيرهُما عن رجل من آل ربيعة أنه بلغه: أن أبا بكر رضي الله عنه حين استُخلف قعد في بيته حزيناً، فدخل عليه عمر رضي الله عنه، فأقبل عليه يلومه وقال: أنت كلّفتني هذا الأمر، وشكا إليه الحُكْمَ بين الناس. فقال له عمر: أوَ ا علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الوالي إذا اجتهد فأصاب الحق فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ الحق فله أجر واحد"؛ فكأنه سهَّل على أبي بكر رضي الله عنه، كذا في الكنز.
(38) أعماله العظيمة:
من أعظم أعمال الصديق رضي الله عنه سبقه إلى الإسلام وهجرته مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أعماله قبل الهجرة أنه أعتق سبعة كلهم يُعذّب في الله، وهم: بلال بن أبي رباح، وعامر بن فهيرة، وزنيرة، والنهدية وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عُبيس.
- ومن أعظم أعماله التي قام بها بعد تولّيه الخلافة حرب المرتدين:
فقد كان رجلا رحيما رقيقاً ولكنه في ذلك الموقف، في موقف حرب المرتدين كان أصلب وأشدّ من عمر رضي الله عنه الذي عُرِف بالصلابة في الرأي والشدّة في ذات الله
وقد أشار بعض الصحابة ومنهم عمر على الصديق بأن يترك مانعي الزكاة ويتألفهم حتى يتمكن الإيمان من قلوبهم ثم هم بعد ذلك يزكون فامتنع الصديق عن ذلك وأباه (1)،
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله). فقال: والله لأقاتلنَّ من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حقُّ المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر فعرفت أنه الحق.
(عناقاً): صغير الماعز.
ثم قال عمر بعد ذلك؛ والله لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعاً في قتال أهل الردة (2)، وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر (وهو يناقشه) عن ناحية فقهية مهمة أجلاها له، وكانت قد غابت عنه وهي أن جملة جاءت في الحديث النبوي الشريف الذي احتج به عمر هي الدليل على وجوب محاربة من منع الزكاة حتى وإن نطق بالشهادتين وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (3)، وفعلاً كان رأي أبو بكر في حرب المرتدين رأياً ملهماً، وهو الرأي الذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإسلام والمسلمين، وأي موقف غيره سيكون فيه الفشل والضياع والهزيمة والرجوع إلى الجاهلية، ولولا الله ثم هذا القرار الحاسم من أبي بكر لتغير وجه التاريخ وتحولت مسيرته، ورجعت عقارب الساعة إلى الوراء، ولعادت الجاهلية تعيث في الأرض فساداً (4).
(1) البداية والنهاية (6/ 315).
(2)
حروب الردة، محمد أحمد باشميل، ص24.
(3)
مسلم رقم 21.
(4)
الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص86.
لقد تجلى فهمه الدقيق للإسلام، وشدة غيرته على هذا الدين، وبقائه على ما كان عليه في عهد نبيه في الكلمة التي فاض بها لسانه ونطق بها جنانه، وهي الكلمة التي تساوي خطبة بليغة طويلة وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثير من قبائل العرب أن يدفعوا الزكاة الى بيت المال، أو منعوها مطلقاً وأنكروا فرضيتها: قد انقطع الوحي وتم الدين، أينقص وأنا حي (1) وفي رواية قال عمر: فقلت يا خليفة رسول الله تألف الناس وأرفق بهم، فقال لي: أجبّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام، قد انقطع الوحي، وتم الدين أينقص وأنا حي (2).
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصحابة في حرب المرتدين وما عزم على خوض الحرب إلا بعد أن سمع وجهات النظر بوضوح، إلا أنه كان سريع القرار حاسم الرأي فلم يتردد لحظة واحدة بعد ظهور الصواب له وعدم التردد كان سمة بارزة من سمات أبي بكر -هذا الخليفة العظيم- في حياته كلها (3)، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه.
لقد كان أبو بكر رضي الله عنه أبعد الصحابة نظراً، وأحقهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه الطامة العظيمة (4)، والمفاجئة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيب رحمه الله: وكان أفقهم، يعني الصحابة، وأمثلهم رأياً (5). من خطباء الإيمان.
لقد سُجِّل هذا الموقف الصلب القوي لأبي بكر رضي الله عنه حتى قيل: نصر الله الإسلام بأبي بكر يوم الردّة، وبأحمد يوم الفتنة.
فحارب رضي الله عنه المرتدين ومانعي الزكاة، وقتل الله مسيلمة الكذاب في زمانه.
ومع ذلك الموقف إلا أنه أنفذ جيش أسامة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أراد إنفاذه نحو الشام.
وفي عهده فُتِحت فتوحات الشام، وفتوحات العراق.
-:ومن أجَّلِ أعماله جمع القرآن الكريم:
(1) المرتضى لأبي الحسن الندوي، ص70.
(2)
مشكاة المصابيح، كتاب المناقب رقم 6034.
(3)
الشورى بين الأصالة والمعاصرة، ص87.
(4)
حركة الردة، ص165.
(5)
البدر والتاريخ للمقدسي (5/ 153).
(حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: بعث إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنَّ عمر أتاني فقال: إنَّ القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بقرَّاء القرآن في المواطن كلِّها، فيذهب قرآن كثير، و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتَّى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شابّ عاقل لا نتَّهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلَّفني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليَّ ممَّا كلَّفني من جمع القرآن. قلت كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر: هو والله خير، فلم يزل يحثُّ مراجعتي حتى شرح الله صدري للَّذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، ورأيت في ذلك الذي رأيا، فتتبَّعت القرآن أجمعه من العُسُبِ والرقاع و اللخاف وصدور الرجال، فوجدت في آخر سورة التوبة:{لقد جاءكم رسول من أنفسكم} . إلى آخرها مع خزيمة، أو أبي خزيمة، فألحقتها في سورتها، فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله عز وجل، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
اللخاف: يعني الخزف.
إنَّ القتل قد استحرَّ: أي اشتد وكثر
كان من ضمن شهداء المسلمين في حرب اليمامة كثير من حفظة القرآن، وقد نتج عن ذلك أن قام أبو بكر رضي الله عنه بمشورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن حيث جمع من الرقاع والعظام والسعف ومن صدور الرجال (1)، وأسند الصديق هذا العمل العظيم المشروع الحضاري الضخم إلى الصحابي الجليل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه، يروي زيد بن ثابت رضي الله عنه فيقول: بعث إليّ أبو بكر رضي الله عنه لمقتل أهل اليمامة (2)، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر (3) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل استحر (4) يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن (5)، كلها فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم (6)؟!! فقال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: وإنك رجل شاب عاقل، لا نتهمك (7)، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه (8) قال زيد: فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل عليّ مما كلفني به من جمع القرآن، فتتبعت القرآن من العسب (9)، واللخاف (10)، وصدور الرجال، والرقاع (11)، والأكتاف (12). قال: حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره.
(1) حروب الردة وبناء الدولة الاسلامية، احمد سعيد، ص145.
(2)
يعني واقعة يوم اليمامة ضد مسيلمة الكذاب وأعوانه.
(3)
استحر: كثر واشتد.
(4)
استحر: كثر واشتد.
(5)
أي في الأماكن التي يقع فيها القتال مع الكفار.
(6)
يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم إنما لم يجمع القرآن في المصحف، لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته صلى الله عليه وسلم ألهم الله الخلفاء الراشدين بذلك. (سيرة وحياة الصديق، ص120).
(7)
هذه الصفات جعلت زيداً يتقدم على غيره في هذا العمل.
(8)
أي: من الاشياء التي عندي وعند غيرك.
(9)
العسب: هو جريد النخل.
(10)
اللخاف: جمع لخفة: وهي صفائح الحجارة.
(11)
الرقاع: جمع رقعة وهي قطع الجلود.
(12)
الأكتاف: جمع كتف، وهو العظم الذي للبعير او الشاة.
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (سورة التوبة، آية:128) حتى خاتمة براءة وكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم (1) وعلق البغوي على هذا الحديث فقال: فيه البيان الواضح أن الصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من غير أن يزادوا فيه أو ينقصوا منه شيئاً والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث وهو أنه كان مفرقاً في العسب، واللخاف، وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، ففزعوا فيه إلى خليفة رسول الله، ودعوه إلى جمعه، فرأى في ذلك رأيهم فأمر بجمعه في موضع واحد باتفاق من جميعهم، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله من غير أن قدموا شيئاً أو أخروا، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلقى أصحابه، ويعلمهم ما ينزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه، إياه على ذلك، وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا (2)، وهكذا يتضح للقارئ الكريم أن من أوليات أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه أول مَنْ جمع القرآن الكريم، يقول صعصعة بن صوحان رحمه الله: أول من جمع بين اللوحين، وورت الكلالة (3): أبو بكر (4).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع بين اللوحين (5).
وقد اختار أبو بكر رضي الله عنه زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة، وذلك لأنه رأى فيه المقومات الأساسية للقيام بها وهي:
1 -
كونه شاباً، حيث كان عمره 21 سنة، فيكون أنشط، لما يطلب منه.
(1) البخاري رقم 4986.
(2)
شرح السنّة (4/ 522) للبغوي.
(3)
الكلالة في رأي ابوبكر الصديق من لا ولد له ولا والد، فقد قال رضي الله عنه: رأيت في الكلالة رأياً فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ من قِبَلي والشيطان، الكلالة ماعدا الولد والوالد، أي هم الأخوة. انظر: موسوعة فقه أبي بكر الصديق، ص36.
(4)
إسناده صحيح: اخرجه ابن أبي شيبة (7/ 196).
(5)
أسناده صحيح: اخرجه ابن أبي شيبة (7/ 196).
2 -
كونه أكثر تأهيلاً، فيكون أوعى له، إذ من وهبه الله عقلا راجحاً فقد يسر له سبيل الخير.
3 -
كونه ثقة، فليس هو موضعاً للتهمة، فيكون عمله مقبولاً، وتركن إليه النفس، ويطمئن إليه القلب.
4 -
كونه كاتباً للوحي، فهو بذلك ذو خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسة عملية له فليس غريباً عن هذا العمل، ولا دخيلاً عليه (1).
هذه الصفات الجليلة جعلت الصديق يُرشِّح زيداً لجمع القرآن، فكان به جديراً، وبالقيام به خبيراً.
5 -
ويضاف لذلك أنه أحد الأربعة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الآتي:
(حديث قتادة رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ ابن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
وأما الطريقة التي اتبعها زيد في جمع القرآن فكان لا يثبت شيئاً من القرآن، إلا إذا كان مكتوباً بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومحفوظاً من الصحابة، فكان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة، خشية أن يكون في الحفظ خطأ أو وهم، وأيضاً لم يقبل من أحد شيئاً جاء به إلا إذا أتى معه شاهدان يشهدان أن ذلك المكتوب كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من الوجوه التي نزل بها القرآن (2)، وعلى هذا المنهج استمر زيد رضي الله عنه في جمع القرآن حذراً متثبتاً مبالغاً في الدقة والتحري.
-:ومن أجل استخلاف الصديق لعمر بن الخطاب:
في شهر جمادي الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية مرض الخليفة أبو بكر رضي الله عنه، واشتد به المرض (3) فلما ثقل واستبان له من نفسه -جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم فأمَّروا عليكم من أحببتم فإنكم إن أمرتم في حياة منِّي كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي (4).
وقد قام أبو بكر رضي الله عنه بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم:
1 -
استشارة أبي بكر كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار:
(1) التفوق والنجابة على نهج الصحابة، حمد العجمي، ص73.
(2)
التفوق والنجابة على نهج الصحابة، ص74.
(3)
البداية والنهاية (7/ 18)؛ تاريخ الطبري (4/ 238).
(4)
التاريخ الاسلامي (9/ 258).
وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني: فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان. فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عَدَتْك ثم دعا أسيد بن حضير فقال له: مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعدداً من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريباً كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر ما أنت قائل لرَبِّك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبالله تخوفوني؟ خاب من تزوَّدَ من أمركم بظلم أقول اللهم استخلفت عليهم خيْرَ أهْلكَ (1).
وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقاً ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيراً مما عليه (2).
2 -
ثم كتب عهداً مكتوباً يقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني أستخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي، وإياكم خيراً، فإن عَدَلَ فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (3)(سورة الشعراء، آية:227).
(1) الكامل لابن الأثير (2/ 79)؛ التاريخ الاسلامي، محمود شاكر، ص101 الخلفاء الراشدون.
(2)
الكامل لابن الأثير (2/ 79).
(3)
تاريخ الاسلام للذهبي - عهد الخلفاء- ص116 - 117.
إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما أطلوا لها استشرفتهم شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه (1)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فو الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم (2). لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم رضي الله عنه بدوء ناجع .. جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: أيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان سالكا فجاً قط إلا سلك فجّاً غير فجّك (3). إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أفرس الناس ثلاثة صاحبة موسى التي قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، وصاحب يوسف حيث قال: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وأبو بكر حين استخلف عمر (4)، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن (5).
ما وقع بين أبي بكر وبين عبد الرحمن وعثمان في إستخلاف عمر:
وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن، وعثمان على أبي بكر رضي الله عنهم وخَلْوتهما به، فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن إستخلافك عمر علينا وقد ترى غِلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تُخوِّقوني، خاب من تزوَّد من أمركم بظلم أقول: اللهم إستخلفت عليهم خير أهلك. أبلغ عني ما قلت لك مَنْ وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان، فقال أكتب:
(1) أبوبكر رجل الدولة، ص99.
(2)
البخاري، كتاب الجزية والموادعة رقم 3158.
(3)
البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي رقم 3683
(4)
مجمع الزوائد (10/ 268) قال الهيثمي رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح، وأخرجه الحاكم (3/ 90) وصححه ووافقه الذهبي.
(5)
أبوبكر رجل الدولة، ص100.
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده من الدنيا خارجاً منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدُق الكاذب: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا وإِني لم آلُ الله ورسولَ ودينَه ونفسي وإِياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظنِّي به، وعلمي فيه؛ وإن بدّل فلكل امرىء ما اكتسب (من الإِثم). الخيرَ أردتُ، ولا أعلم الغيب {ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ} (الشعراء: 227) والسلام عليكم ورحمة الله.
ثم أمر بالكتاب فختمه. ثم قال بعضهم: لما أملَى أبو بكر رضي الله عنه صَدْر هذا الكتاب بقي ذِكْرُ عمر، فذُهب به قبل أن يُسمّي أحداً. فكتب عثمان رضي الله عنه: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب. ثم أفاق أبو بكر فقال: إقرأ عليّ ما كتبت. فقرأ عليه ذكر عمر، فكبَّر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك فتختلف، فجزاك الله عن الإِسلام وأهله خيراً، والله إِنْ كنت لها لأهلاً. ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأُسَيد بن سعيد القرظي، فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. وقال بعضهم: قد علمنا به ـ قال ابن سعد: عليٌّ القائل ـ وهو عمر. فأقرُّوا بذلك جميعاً. ورضوا به وبايعوا.
ثم دعا أبو بكر عمر خالياً وأوصى به بما أوصاه به، ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مدّاً فقال؛ اللهمَّ إني لم أُرِدْ بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي، فولَّيت عليهم خيرهم، وأقواهم عليهم، وأحصرهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر فأخلفني فيهم، فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلِحْ لهم وإليَهم، واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هَدْي نبي الرحمة وهَدْي الصالحينَ بعده، وأصلح له رعيته. وكذا في الكنز.
جواب أبي بكر لطلحة إذ خالفه في استخلاف عمر:
وعند الّلكالئي عن عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: لما حضرت أبا بكر الصديق الوفاةُ دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه فأملى عليه عهده، ثم أُغمِي على أبي بكر قبل أن يملي أحداً، فكتب عثمان: عمر بن الخطاب، فأفاق أبو بكر فقال لعثمان: كتبتَ أحداً؟ فقال: ظننتك لمآبك وخشيت الفُرقة فكتبت عمر بن الخطاب. فقال: يرحمك الله أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلاً. فدخل عليه طلحة بن عبيد الله فقال: أنا رسول مَنْ ورائي إليك، يقولون: قد علمت غِلظة عمر علينا في حياتك فكيف بعد وفاتك إذا أفضيت إليه أُمورنا؟ والله سائلك عنه، فانظر ما أنت قائل. فقال: أجلسوني. أبالله تخوِّقوني، قد خاب أمرؤ ظنَّ من أمركم وهماً، إذا سألني الله قلت: إستخلفت على أهلك خيرهم لهم، فأبلْغهم هذا عنِّي.
وصية أبي بكر لعمر لما أراد أن يستخلفه:
أخرج ابن عساكر عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال: لما حضر أبا بكر رضي الله عنه الموتُ أوصى:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا عهد من أبي بكر الصدِّيق، عند آخر عهده بالدنيا، خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويتَّقي الفاجر، ويصدّق الكاذب: إني استخلفت من بعدي عمر بن الخطاب. فإن عدل فذلك ظنِّي فيه، وإِن جار وبدَّل فالخيرَ أردت، ولا أعلم الغيب.
ثم بعث إلى عمر رضي الله عنه فدعاه فقال: "يا عمر، أبغضك مبغض، وأحبك محب، وقِدْماً يُبغض الخير ويُحب الشر ـ قال: فلا حاجة لي فيها ـ قال: لكن لها بك حاجة، وقد رأيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتَه، ورأيت أثرته أنفسنا على نفسه، حتى إِن كنا لنهدي لأهله فضل ما يأتينا منه، ورأيتني وصحبتني وإِنما اتبعت أثر من كان قبلي، والله ما نمت فحلمت، ولا شهدت فتوهَّمت، وإِني لعلى طريق ما زغت، تَعَلَّم يا عمر، إِنَّ لله حقاً في الليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإِنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتَّباعهم الحق، وحُقَّ الميزان أن يثقل لا يكون فيه إِلا الحق، وإِنما خفَّت موازين من خفَّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحُقَّ لميزان أن يخفَّ لا يكون فيه إلا الباطل. إنَّ أول ما أحذرك نفسك، وأحذرك الناس فإنَّهم قد طمحت أبصارهم، وانتفخت أهواؤهم، وأن لهم الخيرة عن زلّة تكون، فإياه تكونه، فإنهم لن يزالوا خائفين لك فرقين منك ما خفت الله وفرقته. وهذه وصيتي، وأقرأُ عليك السلام".
كذا في الكنز.