الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبهذه الكلمات القلائل، واستشهاد الصديق بالقرآن الكريم خرج الناس من ذهولهم وحيرتهم ورجعوا إلى الفهم الصحيح رجوعاً جميلاً، فالله هو الحي وحده الذي لايموت، وأنه وحده الذي يستحق العبادة، وأن الإسلام باق بعد موت محمد صلى الله عليه وسلم (1)، كما جاء في رواية من قول الصديق: إن دين الله قائم، وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، وإن كتاب الله بين اظهرنا، وهو النور والشفاء وبه هدا الله محمد صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه، والله لانبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ماوضعناها بعد، ولنجاهدنَّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله فلا يبغين أحد إلا على نفسه (2).
كان موت محمد صلى الله عليه وسلم مصيبة عظيمة، ابتلاءاً شديداً، ومن خلاها وبعدها ظهرت شخصية الصديق كقائد للأمة فذ لا نظير له ولامثيل (3)، فقد أشرق اليقين في قلبه وتجلى ذلك في رسوخ الحقائق فيه فعرف حقيقة العبودية، والنبوة، والموت، وفي ذلك الموقف العصيب ظهرت حكمته رضي الله عنه، فانحاز بالناس إلى التوحيد (من كان يعبد الله فإن الله حي لايموت) ومازال التوحيد في قلوبهم غضاً طرياً، فما أن سمعوا تذكير الصديق لهم حتى رجعوا إلى الحق (4) تقول عائشة رضي الله عنها فوالله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر رضي الله عنه فتلقاها منه الناس، فما يسمع بشر إلا يتلوها (5).
(33) علمه رضي الله تعالى عنه:
كان الصديق من أعلم الناس بالله وأخوفهم له (6)، وقد اتفق أهل السنة على أن أبا بكر أعلم الأمة، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد (7)، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يُسَلمنو بذلك وتأمل في الحديث الآتي بعين البصيرة:
(1) استخلاف ابوبكر الصديق، جمال عبد الهادي، ص160.
(2)
دلائل النبوة للبيهقي (7/ 218).
(3)
أبوبكر رجل الدولة، مجدي حمدي، ص25،26.
(4)
استخلاف ابوبكر الصديق، ص160.
(5)
البخاري، كتاب الجنائز رقم 1241، 1242.
(6)
تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص59.
(7)
الفتاوى (13/ 127).
(حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله). فبكى أبو بكر رضي الله عنه، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ؟ إن يكن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العبد، وكان أبو بكر أعلمنا، قال: يا أبا بكر لا تبك، إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبي بكر، ولو كنت متخذا خليلا من أمتي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر.
وسبب تقدمه على كل الصحابة في العلم والفضل ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أدوم اجتماعاً به ليلاً ونهاراً، وسفراً وحضراً، وكان يسمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء، يتحدث معه في أمور المسلمين، دون غيره من أصحابه، وكان إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده، فإذا خالفه غيره اتبع رأيه دون رأي من يخالفه (1)، وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينة النبي صلى الله عليه وسلم وعلم المناسك أدق ما في العبادات، ولولا سعة علمه لم يستعمله، وكذلك الصلاة استخلفه عليها ولولا علمه لم يستخلفه ولم يستخلف غيره لا في حج ولا في صلاة، وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما روى فيها (2) وعليه اعتمد الفقهاء وغيرهم في كتابة ما هو متقدم منسوخ، فدل على أنه أعلم بالسنة الناسخة، ولم يحفظ له قول يخالف فيه نصاً، وهذا يدل على غاية البراعة والعلم، وفي الجملة لا يعرف لأبي بكر مسألة في الشريعة غلط فيها، وقد عرف لغيرة مسائل كثيرة (3)، وكان رضي الله عنه يقضي ويفتي بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ويقره، لقد تربى الصديق على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظ كتاب الله تعالى وعمل به في حياته وتأمل فيه كثيراً وكان لا يتحدث بغير علم، فعندما سئل عن آية لايعرفها أجاب بقوله: أي أرض تسعني أو أي سماء تُظِلنُّي إذا قلت في كتاب الله مالم يُرد الله (4) ومن أقواله التي تدل على تدبره وتفكره في القرآن الكريم قوله: (إن الله ذكر أهل الجنة، فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم سيئها، فيقول الرجل: أين أنا من هؤلاء؟! يعني: حسنها، فيقول قائل: لست من هؤلاء، يعني: وهو منهم (5)،
(1) ابو بكر الصديق، محمد مال الله، ص334،335.
(2)
البخاري رقم 1448.
(3)
أبوبكر الصديق أفضل الصحابة وأحقهم بالخلافة، ص60.
(4)
تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص117 هذه الرواية فيها انقطاع.
(5)
الفتاوى لابن تيمية (6/ 212) ..
وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استشكل عليه بأدب وتقدير واحترام، فلما نزل قوله تعالى:{لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (سورة النساء، الاية:123) قال أبوبكر يارسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: ياأبابكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأوى؟ فذلك مما تجزون به (1).
(حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه الثابت في صحيح الترغيب والترهيب) أنه قال يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) الآية وكل شيء عملناه جزينا به فقال: غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تحزن ألست يصيبك اللأواء قال فقلت بلى قال هو ما تجزون به.
وقد فسر الصديق بعض الآيات مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَاّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (سورة فصلت، الآية: 30) قال فيها: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ماسواه لا بالحب ولا بالخوف، ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل عليه، بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أنداداً، ولايحبون إلا إياه، لا لطلب منفعة، ولا لدفع مضرة، ولا يخافون غيره كائناً من كان، ولا يسألون غيره ولا يتشرفون بقلوبهم الى غيره (2)، وغير ذلك من الآيات.
وكان رضي الله تعالى عنه أعلم الصحابة بالأنساب:
فهو عالم من علماء الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وغيره، وكانت له مزية حببته إلى قلوب العرب وهي: أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولايذكر المثالب بخلاف غيره (3)، فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وبما فيها من خير وشر (4)، بدلالة الحديث الآتي:
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها.
(1) احمد (1/ 11) وقال الشيخ شاكر اسانيدها ضعاف. وهو صحيح بطرقه وشواهده. انظر: مسند الامام احمد رقم 68.
(2)
الفتاوى (28/ 22).
(3)
التهذيب (2/ 183).
(4)
الإصابة (4/ 146).