الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(ثم يلهب فيه النار) عقوبة له بنقيض فعله والجزاء من جنس العمل فأذله اللّه كما عاقب من أطال ثوبه خيلاء بأن خسف به فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ولبس الدنيء من الثياب يذم في موضع ويحمد في موضع فيذم إذا كان شهرة وخيلاء ويمدح إذا كان تواضعاً واستكانة كما أن لبس الرفيع منها يذم إذا كان لكبر أو فخر ويمدح إذا كان تجملاً وإظهاراً للنعمة.
-
ثالثاً بيان الزهد في المسكن:
وللزهد فيه أيضاً ثلاث درجات: أعلاها أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه فيقنع بزاويا المساجد كأصحاب الصفة. وأوسطها: أن لا يطلب موضعاً خاصاً لنفسه مثل كوخ مبني من سعف أو خص أو ما يشبهه، وأدناها أن يطلب حجرة مبنية إما بشراء أو إجارة؛ فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير زيادة ولم يكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد؛ فإن طلب التشييد والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكلية حد للزهد في المسكن، فاختلاف جنس البناء بأن يكون من الجص أو القصب أو بالطين أو بالآجر، واختلاف قدره بالسعة والضيق، واختلاف طوله بالإضافة إلى الأوقات بأن يكون مملوكاً أو مستأجراً أو مستعاراً، والزهد مدخل في جميع ذلك. وبالجملة كل ما يراد للضرورة فلا ينبغي أن يجاوز حد الضرورة، وقدر الضرورة من الدنيا آلة الدين ووسيلته، وما جاوز ذلك فهو مضاد للدين والغرض من المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى، وأقل الدرجات فيه معلوم، وما زاد عليه فهو الفضول والفضول كله من الدنيا وطالب الفضول والساعي له بعيد من الزهد جداً، وتأمل في الحديث الآتي بعين الاعتبار:
(حديث عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما الثابت في صحيحي أبي داوود والترمذي) قال: مَرَّ علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحن نعالج خصا لنا وَهَى، فقال:"" ما هذا؟ "" فقلنا: خصٌ لنا وَهَى فنحن نصلحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"" ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك.
نعالج خصا لنا: الخص: بيت يعمل من الخشب والقصب.
وَهَى: بفتح الواو والهاء: أي خرب أو كاد.
ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(ما أرى الأمر) يعني الموت
(إلا أعجل من ذلك) أي من أن يبني الإنسان لنفسه بناء ويشيده فوق ما لا بد منه فقد اتخذ نوح بيتاً من قصب فقيل له: لو بنيت فقال: هذا كثير لمن يموت وقيل لسليمان: ما لك لا تبني قال: ما للعبد وللبناء فإذا أعتق فله واللّه قصور لا تبلى أبداً.
وقد قيل: أول شيء ظهر من طول الأمل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم التدريز والتشييد، يعني بالتدريز: كف دروز الثياب فإنها كانت تشل شلاً والتشييد: هو البنيان بالجص والآجر، وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد (1).
[*] وقال الحسن: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة (2).
واتخذ نوحاً عليه السلام بيتاً من قصب. فقيل له: لو بنيت؟ فقال: هذا كثير لمن يموت.
[*] وقال الحسن: دخلنا على صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه، فقيل له: لو أصلحته؟ فقال: كم من رجل قد مات وهذا قائم على حاله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " من بنى فوق ما يكفيه كلف أن يحمله يوم القيامة"(3).
[*] ونظر عمر رضي الله عنه في طريق الشام إلى صرح قد بني بجص وآجر، فكبر وقال: ما كنت أظن أن يكون في هذه الأمة من يبني بنيان هامان لفرعون؛ يعني قول فرعون " فأوقد لي يا هامان على الطين " يعني به الآجر، ويقال: إن فرعون هو أول من بني له بالجص والآجر، وأول من عمله هامان، ثم تبعهما الجبابرة، وهذا هو الزخرف.
(1) حديث كانت الثياب تشل شلا وكانوا يبنون بالسعف والجريد أما شل الثياب من غير كف فروى الطبراني والحاكم أن عمر قطع ما فضل عن الأصابع من غير كف وقال هكذا رأيت رسول الله ? وأما البناء ففي الصحيحين من حديث أنس في قصة بناء مسجد المدينة فصفوا النخل قبلة المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة الحديث ولهما من حديث أبي سعيد كان المسجد على عريش فوكف المسجد.
(2)
حديث الحسن مات رسول الله ? ولم يضع لبنة على لبنة الحديث رواه ابن حبان في الثقات وأبو نعيم في الحلية هكذا مرسلا والطبراني في الأوسط من حديث عائشة من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة الحديث وإسناده ضعيف.
(3)
حديث من بنى فوق ما يكفيه كلف يوم القيامة أن يحمله رواه الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد فيه لين وانقطاع.