الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من هنا نعرف لأي أبٍ ينتمي عبد الله، إنه ينتمي لأب صالح ولصلاح الأب جائزة عظمى يجدها عند لقاء ربه، ويبقى أثرها في ولده وهو ما نجده في القصص القرآني الحكيم من قصة الغلامين اليتيمين قال تعالى:{وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
فكان صلاح الأب سببًا في استخراج الكنز، وكذلك كان الحال مع عبد الله بن المبارك، فسنة الله لا تتخلف، كان الأب صالحًا فاستخرج عبد الله كنزًا تمثل في مال صار على يديه وابلاً ثجاجًا، وحصّل علما وأدبًا وفقها مازالت تتوارثه الأجيال!
فانظر بعين الاعتبار وتفكر جلياً وتأمل ملياً كيف كان ثمرة صلاح الأب أن أنتج عالماً جليلاً مثل ابن المبارك الذي ملأ الدنيا علماً وورعاً وزهداً، رحمه الله تعالى فقد قَلَّدَه أقرانه من العلماء في أفعاله فعجزوا، وقلده الأغنياء في كرمه وجوده وسخائه فلم يفلحوا!! فهو السخي الجواد، وقبل ذلك العالم العامل، العابد الشجاع المجاهد، قالوا عنه: الزاهد العابد، الفقيه المجاهد، ثم قالوا عنه: شيخ الإسلام.
مولد ابن المبارك رحمه الله:
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء:
ولد ابن المبارك سنة ثمان عشرة ومئة وأما الحاكم فروى عن أبي أحمد الحمادي سمعت محمد بن موسى الباشاني سمعت عبدان بن عثمان يقول سمعت عبد الله يقول ولدت سنة تسع عشرة ومئة.
[*]
مناقب ابن المبارك رحمه الله تعالى:
كان ابن المبارك رحمه الله تعالى من أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء وحراس العقيدة وحماة السنة وأشياع الحق وأنصار دين الله عز وجل، حاملُ لواء السنة وناصرها وقامع البدعة ودامغها، كان الكتاب والسنة له كالجناحين للطائر يتمسك بهما ويعضُ عليهما بالنواجذ، كان رحمه الله تعالى شهاباً ثاقباً ونجماً ساطعاً وبدراً طالعاً وسهماً نافذاً، وكان كوكبَ نُظَرَائه وزهرةَ إخوانه، تفوح منه علامات اليُمْنِ وأمارات الخير ورائحة التوفيق والسداد، واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه، العالم الحبر، ذو الأحلام والصبر، العلم حليفه، والزهد أليفه، كان رحمه الله تعالى خزانة علم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، لا يُشَقُ له غُبارٌ في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها، وكان رحمه الله ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان يُقْبِلُ على طلب العلم إقبالَ الظامئ على الموردِ العذب فقد أفنى جلَّ عمره في طلب العلم فكان إماماً يقتدى به في ذلك وكان مناراً عظيماً من منارات العلم، مناراً راسي القواعد مُشَيَّدَ الأركان ثابتَ الوطائد، الإمام اللبيب، ذو اللسان الخطيب، الشهاب الثاقب، والنصاب العاقب، صاحب الإشارات الخفية، والعبارت الجلية، ذوالتصانيف المفيدة، والمؤلفات الحميدة، الصوَّام القوَّام، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن السنية، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته وزهده وورعه وعبادته وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، كان رحمه الله تعالى سراج العباد، ومنار البلاد، رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً تعمُ أرجائه، وتغمده برحمةٍ فوق ما يخطر ببال أو يدور في الخيال، وأنعم عليه برضا الكبير المتعال إنه وليُ ذلك والقادرُ عليه.
وهاك غَيْضٍ من فيض ونقطةٍ من بحر مما ورد في مناقب ابن المبارك جملةً وتفصيلا رحمه الله تعالى:
أولاً مناقب ابن المبارك جملةً رحمه الله:
(1)
ثناء العلماء على ابن المبارك:
(2)
حرص ابن المبارك طلب العلم ونشره:
(3)
توقير ابن المبارك للعلم وأهله:
(4)
جود ابن المبارك وسخاؤه رحمه الله:
(5)
ورع ابن المبارك رحمه الله ورجاحة عقله:
(6)
توقير ابن المبارك للحديث ولآل البيت:
(7)
دعاء ابن المبارك عند ختم القرآن:
(8)
رسالة ابن المبارك إلى الفضيل في الجهاد:
(9)
حفظ ابن المبارك لوقته رحمه الله:
(10)
زهد ابن المبارك رحمه الله:
(11)
منابذة ابن المبارك للمبتدعين:
(12)
خشية ابن المبارك لله تعالى:
(13)
تواضع ابن المبارك رحمه الله:
(14)
حسن أدب ابن المبارك في تذكير الناس بما تغافلوا عنه:
(15)
حرص ابن المبارك على إخفاء العمل رحمه الله:
(16)
دعوة ابن المبارك لكسب المال ليستعين به على طاعة الله:
(17)
حفظ ابن المبارك وإتقانه رحمه الله:
(18)
كان ابن المبارك مستجاب الدعوة رحمه الله:
(19)
حُسن أداء ابن المبارك للأمانة رحمه الله:
(20)
حُسن تدبر ابن المبارك للقرآن:
(21)
دعوة ابن المبارك إلى التغافل عن مساوئ الإنسان إذا غلبت محاسنه مساوئه:
(22)
دعوة ابن المبارك إلى البعد عن السلطان:
(23)
دعوة ابن المبارك إلى طول الصمت:
(24)
دعوة ابن المبارك إلى بالغ الاهتمام بإخلاص النية:
(25)
دعوة ابن المبارك إلى الانشغال بصحيح الحديث عن سقيمه:
(26)
دعوة ابن المبارك إلى التلقي عن الثقة:
(27)
سلامة لسان ابن المبارك من الخوض في الصحابة:
(28)
دعوة ابن المبارك إلى الخوف من أن يسلب الإنسان الإيمان وهو لا يشعر:
(29)
كان ابن المبارك لا يخشى في الحق لومة لائم:
(30)
تحذير ابن المبارك من الكبر والعجب والعياذ بالله:
(31)
شجاعة ابن المبارك رحمه الله:
(32)
كان ابن المبارك شاعرا مُحْسِنَاً قَوَّالاً بالحق:
(33)
حرص ابن المبارك على تلقي العلم مع الأدب:
ثانياً مناقب ابن المبارك تفصيلا رحمه الله:
(1)
ثناء العلماء على ابن المبارك:
كان ابن المبارك رحمه الله تعالى أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء، وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر من ثناء العلماء عليه:
[*] قال عنه الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء:
ومنهم السخي الجراد، الممهد للمعاد، المتزود من الوداد، أليف القرآن والحج والجهاد، جَادَ فَسَاد، ووجع فزاد، مالله مشارك، وفعله مبارك، وقوله مبارك، شاها نشاه، عبد الله بن المبارك رضى الله تعالى عنه.
[*] وقال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء:
الإمام شيخ الإسلام عالم زمانه وأمير الأتقياء في وقته أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم التركي ثم المروزي الحافظ الغازي أحد الأعلام، وكانت أمه خوارزمية مولده في سنة ثمان عشرة ومئة فطلب العلم وهو ابن عشرين سنة فأقدم شيخ لقيه هو الربيع بن أنس الخراساني تحيل ودخل إليه إلى السجن فسمع منه نحوا من أربعين حديثا ثم ارتحل في سنة إحدى وأربعين ومئة وأخذ عن بقايا التابعين وأكثر من الترحال والتطواف وإلى أن مات في طلب العلم وفي الغزو وفي التجارة والإنفاق على الإخوان في الله وتجهيزهم معه إلى الحج، سمع من سليمان التيمي وعاصم الأحول وحميد الطويل وهشام ابن عروة والجريري وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش وبريد بن عبد الله بن أبي بردة وخالد الحذاء ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الله بن عون وموسى بن عقبة وأجلح الكندي وحسين المعلم وحنظلة السدوسي وحيوة بن شريح المصري وكهمس وأبي حنيفة وابن جريج ومعمر والثوري وشعبة وابن أبي ذئب ويونس الأيلي والحمادين ومالك والليث وابن لهيعة وهشيم وإسماعيل بن عياش وابن عيينة وبقية بن الوليد وخلق كثير وصنف التصانيف النافعة الكثيرة حدث عنه معمر والثوري وأبو إسحاق الفزاري وطائفة من شيوخه وبقية وابن وهب وابن مهدي وطائفة من أقرانه وأبو داود وعبد الرزاق بن همام والقطان وعفان وابن معين وحبان بن موسى وأبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن آدم وأبو أسامة وأبو سلمه المنقري ومسلم بن إبراهيم وعبدان والحسن بن الربيع البوراني وأحمد بن منيع وعلي بن حجر والحسن بن عيسى بن ماسرجس والحسين بن الحسن المروزي والحسن بن عرفة وإبراهيم بن مجشر ويعقوب الدورقي وأمم يتعذر إحصاؤهم ويشق استقصاؤهم، وحديثه حجة بالإجماع وهو في المسانيد والأصول.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد بن جناد أبو سعيد، قال: قال لي عطاء بن مسلم: يا عبيد رأيت عبد الله بن المبارك؟ قلت: نعم، قال: ما رأيت مثله ولا ترى مثله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن يزيد بن عثمان الحمصي، قال: قال لي الأوزاعي: رأيت عبد الله بن المبارك؟ قلت: لا، قال: لو رأيته لقرت عينك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبيد بن جناد، قال: قال العمري: ابن المبارك يصلح لهذا الأمر، فقال له رجل: أي شىء؟ قال: الإمامة.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العمري قال: ما رأيت في دهرنا هذا من يصلح لهذا الأمر ـ يعني الإمامة ـ إلا ابن المبارك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي إسحاق الفزاري يقول: ابن المبارك إمام المسلمين، قال: ورأيته قاعداً بين يديه يسائله.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأت عيناي مثل سفيان، ولا أقدم على عبد الله بن المبارك أحداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن مهدي قال: ابن المبارك آدب عندنا من سفيان.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن المعتمر بن سليمان يقول: ما رأيت مثل ابن المبارك تصيب عنده الشيء الذي لا تصيبه عند أحد.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سفيان الثوري يقول: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الرحمن بن عبيد الله يقول: كنا عند الفضيل بن عياض فجاء فتى في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين فنعى إليه ابن المبارك فقال: رحمه الله، أما إنه ما خلف بعده مثله، قال: وقال أبو إسحاق الفزاري إني لأمقت نفسي على ما أرى بها من قلة الاكتراث لموت ابن المبارك.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أبي بكر الصولي، عن بعضهم قال: ورد على أمير المؤمنين الرشيد كتاب صاحب الحيرة من هيت أنه مات رجل بهذا الموضع غريب، فاجتمع الناس على جنازته، فسألت عنه فقالوا: عبد الله بن المبارك الخراساني، فقال الرشيد: إنا لله وإنا اليه راجعون، يافضل ـ للفضل بن الربيع وزيره ـ ائذن للناس من يعذرنا في عبد الله بن المبارك، فأظهر الفضل تعجبا، فقال: ويحك إن عبد الله هو الذي يقول:
الله يدفع بالسلطان معضلة
…
عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لم يأمن لنا سبل
…
وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
من سمع هذا القول من مثل ابن المبارك مع فضله وزهده وعظمه في صدور العامة، ولا يعرف حقنا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد العجلي قال: ابن المبارك ثقة ثبت في الحديث رجل صالح يقول الشعر وكان جامعا للعلم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العباس بن مصعب قال: جمع عبد الله الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء والتجارة والمحبة عند الفرق.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: ما أخرجت خراسان مثل هؤلاء الثلاثة ابن المبارك والنضر بن شميل ويحيى بن يحيى.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن آدم قال: كنت إذا طلبت دقيق المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك أيست منه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعيب بن حرب قال ما لقي ابن المبارك رجلا إلا وابن المبارك أفضل منه، قال: وسمعت أبا أسامة يقول: ابن المبارك في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أشعث بن شعبة المصيصي قال: قدم الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف ابن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فقالت: ما هذا قالوا عالم من أهل خراسان قدم قالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد العزيز بن أبي رزمة قال: قال لي شعبة: ما قدم علينا من ناحيتكم مثل ابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن معاذ بن خالد قال تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك فقال إسماعيل ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهر صائم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عن ابن مهدي قال: الأئمة أربعة سفيان ومالك وحماد بن زيد وابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عباس الدوري سمعت يحيى يقول ما رأيت أحدا يحدث لله إلا ستة نفر منهم ابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال: ما رأيت رجلا أعلم بالحديث من سفيان ولا أحسن عقلا من مالك ولا أقشف من شعبة ولا أنصح للأمة من ابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قلت لابن مهدي أيهما أفضل ابن المبارك أو سفيان الثوري فقال ابن المبارك قلت إن الناس يخالفونك قال إنهم لم يجربوا ما رأيت مثل ابن المبارك
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي قال حدثنا ابن المبارك وكان نسيج وحده.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن مهدي يقول ابن المبارك أعلم من سفيان الثوري.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن مهدي واجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له جالست الثوري وسمعت منه ومن ابن المبارك فأيهما أرجح قال لو أن سفيان جهد على أن يكون يوما مثل عبد الله لم يقدر.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعيب بن حرب يقول قال سفيان إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمران بن موسى الطرسوسي قال سأل رجل سفيان فقال من أين أنت قال من أهل المشرق قال: أوليس عندكم أعلم أهل المشرق؟ قال: ومن هو؟ قال: عبد الله بن المبارك قال: وهو أعلم أهل المشرق؟ قال: نعم وأهل المغرب.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن عبدة قال كان فضيل وسفيان ومشيخة جلوسا في المسجد الحرام فطلع ابن المبارك من الثنية فقال سفيان هذا رجل أهل المشرق فقال فضيل رجل أهل المشرق والمغرب وما بينهما.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الرحمن بن أبي جميل قال كنا حول ابن المبارك بمكة فقلنا له يا عالم الشرق حدثنا وسفيان قريب منا يسمع فقال ويحكم عالم المشرق والمغرب وما بينهما.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الله بن قهزاد سمعت أبا الوزير يقول قدمت على سفيان بن عيينة فقالوا له هذا وصي عبد الله فقال رحم الله عبد الله ما خلف بخراسان مثله.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الوهاب ابن عبد الحكم قال: لما مات ابن المبارك بلغني أن هارون أمير المؤمنين قال مات سيد العلماء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المسيب بن واضح سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول ابن المبارك إمام المسلمين أجمعين.
قال الذهبي رحمه الله: قلت هذا الإطلاق من أبي إسحاق معني بمسلمي زمانه
…
.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال: نظرت في أمر الصحابة وأمر عبد الله فما رأيت لهم عليه فضلا إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمود بن والان قال سمعت عمار بن الحسن يمدح ابن المبارك ويقول
إذا سار عبد الله من مرو ليلة * فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة * فهم أنجم فيها وأنت هلالها
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن المديني يقول انتهى العلم إلى رجلين إلى ابن المبارك ثم إلى ابن معين.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي ابن المديني عبد الله بن المبارك أوسع علما من عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن آدم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد سمعت يحيى بن معين وذكروا عبد الله بن المبارك فقال رجل إنه لم يكن حافظا فقال ابن معين كان عبد الله رحمه الله كيسا مستثبتا ثقة وكان عالما صحيح الحديث وكانت كتبه التي يحدث بها عشرين ألف أو واحدا وعشرين ألفا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إبراهيم بن شماس قال: رأيت أفقه الناس ابن المبارك وأورع الناس الفضيل وأحفظ الناس وكيع بن الجراح.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال جعفر بن أبي عثمان قلت لابن معين اختلف القطان ووكيع قال القول قول يحيى قال فإذا اختلف عبد الرحمن ويحيى قال يحتاج من يفصل بينهما قلت فأبو نعيم وعبد الرحمن قال يحتاج من يفضل بينهما قلت: الأشجعي قال: مات الأشجعي ومات حديثه معه. قلت: ابن المبارك قال: ذاك أمير المؤمنين في الحديث.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمود بن والان سمعت محمد بن موسى سمعت إبراهيم بن موسى يقول كنت عند يحيى بن معين فجاءه رجل فقال من أثبت في معمر ابن المبارك أو عبد الرزاق وكان يحيى متكئا فجلس وقال كان ابن المبارك خيرا من عبد الرزاق ومن أهل قريته كان عبد الله سيدا من سادات المسلمين.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أسود بن سالم قال: كان ابن المبارك إماما يقتدى به كان من أثبت الناس في السنة إذا رأيت رجلا يغمز ابن المبارك فاتهمه على الإسلام.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الله بن إدريس قال: كل حديث لا يعرفه ابن المبارك فنحن منه براء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال علي بن الحسن بن شقيق قمت لأخرج من ابن المبارك في ليلة باردة من المسجد فذاكرني عند الباب بحديث أو ذاكرته فما زلنا نتذاكر حتى جاء المؤذن للصبح.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن فضالة النسائي قال: كنت أجالسهم بالكوفة فإذا تشاجروا في حديث قالوا مروا بنا إلى هذا الطبيب حتى نسأله يعنون ابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن عيسى بن ما سرجس مولى ابن المبارك قال: اجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى ومخلد بن الحسين فقالوا تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير فقالوا العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والفصاحة والشعر وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والشجاعة والفروسية والقوة وترك الكلام فيما لا يعنيه والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد يقول ما رأيت ابن المبارك يقول قط حدثنا كان يرى أخبرنا أوسع وكان لا يرد على أحد حرفا إذا قرأ وقال نعيم ما رأيت أعقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا في العبادة.
مكانة ابن المبارك عند الإمام مالك:
لأجل هذه الدقة التي توفرت لدى ابن المبارك والتزم بها، كان اهتمام الإمام مالك به .. فقد روي عن يحيى بن يحيى الليثي قال: كنا عند مالك، فاستؤذن لعبد الله بن المبارك بالدخول، فأذن له، فرأينا مالكًا تزحزح له في مجلسه ثم أقعده بلصقه، وما رأيت مالكًا تزحزح لأحد في مجلسه غيره، فكان القارئ يقرأ على مالك، فربما مر بشيء فيسأله مالك: ما مذهبكم في هذا؟ أو ما عندكم في هذا؟ فرأيت ابن المبارك يجاوبه، ثم قام فخرج، فأعجب مالك بأدبه، ثم قال لنا مالك: هذا ابن المبارك فقيه خراسان.
ولنا أن نستعيد ما قاله والي المدينة حين جاءه الإمام الشافعي يحمل كتابًا من والي مكة ليتمكن الشافعي من لقاء الإمام مالك؛ حيث قال والي المدينة للشافعي: "يا فتى! لو كلفتني المشي من جوف المدينة راجلاً حافيًا كان أهون عليَّ من المشي إلى باب مالك .. وليتنا إذا ركبنا ووقفنا على بابه يفتح لنا الباب". لنعلم من هذا منزلة عبد الله بن المبارك عند الإمام مالك!!
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن يحيى بن يحيى الليثي قال كنا عند مالك فاستؤذن لعبد الله بن المبارك بالدخول فإذن له فرأينا مالكا تزحزح له في مجلسه ثم أقعده بلصقه وما رأيت مالكا تزحزح لأحد في مجلسه غيره فكان القارئ يقرأ على مالك فربما مر بشيء فيسأله مالك ما مذهبكم في هذا أو عندكم في هذا فرأيت ابن المبارك يجاوبه ثم قام فخرج فأعجب مالك بأدبه ثم قال لنا مالك هذا ابن المبارك فقيه خراسان.
مكانة ابن المبارك عند سفيان ابن عيينة:
أما منزلته عند ابن عيينة فهي شيء فوق ذلك كله؛
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن عيينة قال: "نظرت في أمر الصحابة فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم وغزوهم معه".
(2)
حرص ابن المبارك طلب العلم ونشره:
كان رحمه الله تعالى ذا همةٍ عاليةٍ تناطح السحاب في طلب العلم فكان علمه واسعاً مباركا كالغيث من السماء أينما حل نفع، لا يشق له غبار في غزارة علمه ودقة استنباطه للفوائد والأحكام وسعة فقهه ومعرفته بأسرار اللغة العربية وبلاغتها، ارتحل ابن المبارك إلى الحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان.
لقد أثمرت رحلات ابن المبارك لأنه قد ارتسم لنفسه منهاجًا يسير عليه، فلم يكن همه من ارتحاله جمع العلم مهما كان مصدره، بل كان التحقق من مصدره أساس منهجه؛ فقد سأله أبو إسحاق قائلاً:"يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك. فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عن من هذا؟ قال: قلت: هذا من حديث شهاب بن خراش. قال: ثقة عن من قال؟ قلت: عن الحجاج بن دينار. قال: ثقة قال: عن من؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف".
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي إسحاق الطالقاني قال قلت لعبد الله بن المبارك يا ابا عبد الرحمن الحديث الذي جاء إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك فقالى يا أبا إسحاق عمن هذا قلت هذا من حديث شهاب بن خراش قال ثقة عمن قلت عن الحجاج ابن دينار قال ثقة عمن قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بين الحجاج وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف.
فهو حين يتوقف أمام هذا الحديث، لا ينكر ما فيه من البر، إلا أنه لا ينسب الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم مادام لم يتوفر لديه السند إلى رسول الله وإن كان الحجاج ثقة!!
ولهذا صار حديثه حجة بالإجماع، روى عنه البخاري ومسلم، وتجاوز القنطرة وهو محدث جهبذ صادق لا يعرف الكذب أبداً، ينقي الأحاديث تنقية كما ينقي الصيرفي البهرج من الذهب.
أتوا بكذاب إلى هارون الرشيد وضع أربعة آلاف حديث هي كذب على محمد عليه الصلاة والسلام، فقال هارون الرشيد: والله لأذبحنك الآن، قال: اذبحني أولا تذبحني والله لقد وضعت عليكم أربعة آلاف حديث، قال: ما علي! يعيش لها الجهابذة عبد الله بن المبارك وأبو إسحاق المروزي، ثم استدعى عبد الله بن المبارك وذاك فنقوها في ثلاثة أيام وأخرجوا أربعة آلاف حديث. قالوا: هذه كلها كذب.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن حنبل قال: لم يكن أحد في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شعبة قال ما قدم علينا أحد مثل ابن المبارك وقال أبو أسامة ما رأيت رجلا أطلب للعلم من أين المبارك وهو في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس.
ومن مظاهر دعوته للعلم ما يلي:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن رسته الطالقاني قال: قام رجل إلى ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شىء أجعل فضل يومي، في تعلم القرآن أو في طلب العلم؟ فقال: هل تقرأ من القرآن ما تقيم به صلاتك قال: نعم، قال: فاجعله في طلب العلم الذي يعرف به القرآن.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: ليكن الذي تعتمدن عليه هذا الأثر؛ وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيهما، قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: المعرفة بالله عز وجل.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال أول منفعة العلم أن يفيد بعضهم بعضا.
يفيد بعضهم بعضاً: أي: أنك تستفيد وتفيد، المجالس العلمية، الندوات والمحاضرات أن ينصح الناس بعضهم لبعض، وهم أفضل الناس.
تحذير ابن المبارك من كتمان العلم:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: من بخل بالعلم ابتلى بثلاث، إما موت فيذهب علمه، وإما ينسى، وإما يصحب فيذهب علمه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محبوب بن الحسن قال: سمعت ابن المبارك يقول من بخل بالعلم ابتلي بثلاث إما موت يذهب علمه وإما ينسى وإما يلزم السلطان فيذهب علمه.
رحلة ابن المبارك في طلب العلم:
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: ارتحل ابن المبارك إلى الحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة وخراسان وحدث بأماكن.
شيوخ ابن المبارك رحمه الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال حملت العلم عن أربعة آلاف شيخ فرويت عن ألف شيخ.
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: سمع من سليمان التيمي وعاصم الأحول وحميد الطويل وهشام ابن عروة والجريري وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش وبريد بن عبد الله بن أبي بردة وخالد الحذاء ويحيى بن سعيد الأنصاري وعبد الله بن عون وموسى بن عقبة وأجلح الكندي وحسين المعلم وحنظلة السدوسي وحيوة بن شريح المصري وكهمس وأبي حنيفة وابن جريج ومعمر والثوري وشعبة وابن أبي ذئب ويونس الأيلي والحمادين ومالك والليث وابن لهيعة وهشيم وإسماعيل بن عياش وابن عيينة وبقية بن الوليد وخلق كثير وصنف التصانيف النافعة الكثيرة حدث عنه معمر والثوري وأبو إسحاق الفزاري وطائفة من شيوخه وبقية وابن وهب وابن مهدي وطائفة من أقرانه وأبو داود وعبد الرزاق بن همام والقطان وعفان وابن معين وحبان بن موسى وأبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن آدم وأبو أسامة وأبو سلمه المنقري ومسلم بن إبراهيم وعبدان والحسن بن الربيع البوراني وأحمد بن منيع وعلي بن حجر والحسن بن عيسى بن ماسرجس والحسين بن الحسن المروزي والحسن بن عرفة وإبراهيم بن مجشر ويعقوب الدورقي وأمم يتعذر إحصاؤهم ويشق استقصاؤهم، وحديثه حجة بالإجماع وهو في المسانيد والأصول.
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: قد تفقه ابن المبارك بأبي حنيفة وهو معدود في تلامذته وكان عبد الله غنيا شاكرا رأس ماله نحو الأربع مائة ألف.
كتابة ابن المبارك للعلم رحمه الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال أحمد بن حنبل كان ابن المبارك يحدث من الكتاب فلم يكن له سقط كثير وكان وكيع يحدث من حفظه فكان يكون له سقط كم يكون حفظ الرجل وروى غير واحد أن ابن المبارك قيل له إلى متى تكتب العلم قال لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي صالح الفراء قال: سألت ابن المبارك عن كتابه العلم فقال لولا الكتاب ما حفظنا وسمعته يقول الحبر في الثوب خلوق العلماء، وقال تواطؤ الجيران على شيء أحب إلي من شهادة عدلين.
" الحبر في الثوب خلوق العلماء " أي: الحبر في الثوب خضاب العلماء، ما أجمل الحبر في ثوب طلبة العلم وهو شرف لهم!!
[*] وذكر الغزالي في الإحياء: "أن الحبر الذي يكتب به العلماء يوزن يوم القيامة بدم الشهداء" ولكن هذا يحتاج إلى نقل من المعصوم عليه الصلاة والسلام، وقد تفقه ابن المبارك بأبي حنيفة وأحبه، وهو معدود في تلامذته، ولو أنه لا يوافقه في كثير من المسائل، لأن ابن المبارك محدث وعالم في الحديث، ومن ضمن ما اختلفوا فيه: أن أبا حنيفة صلى إماماً وعلى ميمنته ابن المبارك، فكبر أبو حنيفة فرفع ابن المبارك يديه، والأحناف لا يرفعون أيديهم إلا في تكبيرة الإحرام، أما ما بعدها من التكبيرات فلا يرون الرفع، وابن المبارك محدث يرى أن ترفع الأيدي مع التكبيرات الأربع، فكان أبو حنيفة لا يرفع يديه وكان ابن المبارك كلما قال أبو حنيفة:(الله أكبر) وهو إمام قال ابن المبارك: الله أكبر، ورفع يديه، فلما سلم قال أبو حنيفة: خشيت أن تطير من جانبي.
(3)
توقير ابن المبارك للعلم وأهله:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن بشر بن الحارث قال: سأل رجل ابن المبارك، عن حديث وهو يمشي قال: ليس هذا من توقير العلم، قال بشر: فاستحسنته جداً.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سنيد بن داود يقول: سألت ابن المبارك: من الناس؟ قال العلماء، قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قلت: فكم الغوغاء؟ قال: خزيمة وأصحابه، قلت: فمن السفله؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.
{تنبيه} : وخزيمة رجل مبتدع وشرير، والغوغاء هؤلاء الذين ليس لهم عمل إلا تتبع الشائعات والحوادث وسد السيل وإطفاء الحريق، ويستبشرون بالحوادث. الآن الحوادث المرورية إذا وقع حادث تجد الغوغاء ثلاثمائة في دقيقتين تجدهم واقفين وتجد أحدهم يبقى عند الحادث أو عند الحريق، ويبقى عند الزحام في السير وعند الطوارئ التي تحدث والشائعات ساعات طوال.
[*] يقول أهل العلم: رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه رجلاً جُلِدَ من المسلمين، وإذا هو يمشى به إلى بيت عمر رضي الله عنه وإذا الناس وراءه كثير، الغوغاء الذين يسمعون بالمجلودين والحوادث، أي: كل الذي وقع في السوق يخبرك به، لأنه لا يقرأ ولا يسبح ولا يشتغل بنفسه، فقط معه الحوادث، فأخذ عمر حفنة من التراب وحثا بها على وجوههم قال:
شاهت هذه الوجوه التي لا تُرى إلا في الشر: يعني: لو دعوتهم في الخير لا يأتون، مثل المحاضرات والدورس العلمية واللقاءات التربوية والعبادات والجمع والجماعات.
[قيل: فمن السفلة؟ قال: الذي يعيشون بدينهم] الذي يعيش بدينه، هذا يسمى سافل أي: أنه يتظاهر بالدين ليعيش به، تجده يتقرب إلى الناس ليعيش بدينه، ويتقرب إلى الظلمة ليعيش بدينه، فيفتي ويتكلم ويمدح وينافق ويجامل.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عباس بن عبد الله قال: قيل لعبد الله بن المبارك: من أئمة الناس؟ قال سفيان وذووه، وقيل له: من سفلة الناس؟ قال: من يأكل بدينه.
{تنبيه} : وكان ابن المبارك رجلاً يحفظ حق أساتذته ويجل شيوخه، فلم يكن يُحدث في وجود أحد منهم، ولكن محبيه طلبوا ذلك في وجود حماد بن زيد وهو من هو في ذلك العصر، فما عسى ابن المبارك أن يفعل؟!
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسماعيل الخطبي قال: بلغني عن ابن المبارك أنه حضرعند حماد ابن زيد فقال أصحاب الحديث لحماد سل أبا عبد الرحمن أن يحدثنا فقال يا أبا عبد الرحمن تحدثهم فإنهم قد سألوني قال سبحان الله يا أبا إسماعيل أحدث وأنت حاضر فقال أقسمت عليك لتفعلن فقال خذوا حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد فما حدث بحرف إلا عن حماد.
لقد وجد ابن المبارك نفسه أمام قسم حماد، ولكن ما فعله يشهد له بسعة العلم ودماثة الخلق!!
وقد سُمع ابن المبارك يقول إعظامًا لقدر حماد بن زيد:
أيها الطالب علمًا ..
…
.. إئت حماد بن زيد
فاستفد حلما وعلما.
…
.. ثم قيده بقيد
وإن كان شعره هذا يشهد بالعلم لحماد بن زيد، فقد أحسن عندما قال عن أبي حنيفة:
رأيت أبا حنيفة كل يوم ..
…
.. يزيد نبالة ويزيد خيرًا
لقد كان ابن المبارك خير من يعترف لأساتذته بالفضل وحسبه أن قال: "لولا أن الله عز وجل أغاثني بأبي حنيفة وسفيان كنت كسائر الناس".
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته.
{تنبيه} : هذا كلام عجيب، يقول: من استخف بأهل العلم واستهزأ بهم ولم يتأدب معهم أذهب الله عليه آخرته؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، ومن استهزأ بالسلطان وسخر منه ذهبت دنياه، يقول: احذروا السلطان واحذروا بطشه لأنه إذا قال فعل، ومن استخف بالإخوان ذهبت مروءته، فيصبح بلا أخ.
(4)
جود ابن المبارك وسخاؤه رحمه الله:
أما عن جود ابن المبارك وسخاءه فحدث ولا حرج، فمواقف سخائه كثيرة مبثوثة في كتب التراث نذكر منها ما يلي:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عمر بن حفص الصوفي بمنبج قال: خرج ابن المبارك من بغداد يريد المصيصة فصحبه الصوفية فقال لهم أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم يا غلام هات الطست فألقى عليه منديلا ثم قال يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم والرجل يلقي عشرين فأنفق عليهم إلى المصيصة. ثم قال هذه بلاد نفير فنقسم ما بقي فجعل يعطي الرجل عشرين دينارا فيقول: يا أبا عبد الرحمن إنما أعطيت درهما فيقول وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي قال كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون نصحبك فيقول هاتوا نفقاتكم فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم يطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي أكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول فيقول لكل واحد ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها فيقول كذا وكذا ثم يخرجهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة فيقول كذا وكذا فيشتري لهم ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصص بيوتهم وأبوابهم فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة كساهم فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه. قال أبي أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة فقدم إلى الناس خمسة وعشرين خوانا فالوذج فبلغنا أنه قال للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت. وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن سلمة بن سليمان قال جاء رجل إلى ابن المبارك فسأله أن يقضي دينا عليه فكتب له إلى وكيل له فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل كم الدين الذي سألته قضاءه قال سبع مئة درهم وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم فراجعه الوكيل وقال إن الغلات قد فنيت فكتب إليه عبد الله إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني فأجز له ما سبق به قلمي.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عيسى قال كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلا فلما رجع سأل عن الشاب فقال محبوس على عشرة آلاف درهم فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش فأخرج الرجل وسرى ابن المبارك فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال لي يا فتى أين كنت لم أرك قال يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين قال وكيف خلصت قال جاء رجل فقضى ديني ولم أدر قال فأحمد الله ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حبان بن موسى قال عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده قال إني اعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم احتاجوا فإن تركناهم ضاع علمهم وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو إسحاق الطالقاني قال: رأيت بعيرين محملين دجاجا مشويا لسفرة ابن المبارك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عبد الرحمن بن سهم قال كنت مع ابن المبارك فكان يأكل كل يوم فيشوي له جدي ويتخذ له فالوذق فقيل له في ذلك فقال إني دفعت إلى وكيلي ألف دينار وَأَمَرْتُه أن يُوَسِّعَ علينا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن حماد قال: دخل أبو أسامة على ابن المبارك فوجد في وجهه عبد الله أثر الضر فلما خرج بعث إليه أربعة آلاف درهم وكتب إليه:
وفتى خلا من ماله * ومن المروءة غير حال
أعطاك قبل سؤاله * وكفاك مكروه السؤال
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المسيب بن واضح قال: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم فقال سد بها فتنة القوم عنك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن خشرم قال: قلت لعيسى بن يونس كيف فضلكم ابن المبارك ولم يكن بأسن منكم؟ قال كان يقدم ومعه الغلمة الخراسانية والبزة الحسنة فيصل العلماء ويعطيهم وكنا لا نقدر على هذا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال: قدم ابن المبارك أيله على يونس بن يزيد ومعه غلام مفرغ العمل الفالوذج يتخذه للمحدثين.
(5)
ورع ابن المبارك رحمه الله ورجاحة عقله:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المبارك قال: لو أن رجلاً اتقى مائة شيء ولم يتورع عن شيء واحد لم يكن ورعاً، ومن كان فيه خلة من الجهل كان من الجاهلين، أما سمعت الله تعالى قال لنوح عليه السلام:(وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ فَقَالَ إِنّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي)[هود:45]. فقال الله: (إِنّيَ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) هود: 46]
[*] قال ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام، فذهب عليّ أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
دمشق في سوريا ومرو في جهة شرق إيران أو شمال إيران، استعار قلماً من رجل دمشقي يكتب به، فكتب به ووضعه في جيبه ونسي أن يرده وركب بغلته وسافر ما يقارب خمسة عشر أو عشرين يوماً، فلما دخل مرو نظر فإذا القلم في جيبه، قلم لا يساوي درهماً، لكنه ركب البغلة ورجع ووصل إلى الدمشقي وقال: هذا قلمك، فانظروا هذا الورع العظيم.
وبعض الناس جهاراً نهاراً يتلاعب بالأموال، ويحاول أن يحتال بكل وسيلة ليخدع عباد الله، من أجل أن يحصل على شيء من المال، فانظر إلى هذا، أين هذا الورع؟ قلم واحد لا يساوي درهماً، الناس الآن لا يسألون عن هذا، ولا يسأل أحدهم عن هذه الأمور البسيطة، حتى لو حدثتهم أنت عن هذا لضحكوا عليك؛ لأن بعض الناس أصبح يأكل من الحرام كالجبال.
الآن مثلاً: كثير من التجار أموالهم رباً، يأكلون ويشربون ويلبسون من الربا، ويطعمون أطفالهم من الربا، سيارتهم ومساكنم رباً ويأتيك ويسأل: هل يقص الشارب أو يحلق؟ ويقول: الضحى أربع ركعات أم ركعتان!
الله يحرم الربا، ويعلن الحرب والقتال لمن يأكل الربا، وهؤلاء يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون وهم أغنياء ولكن كله رباً، أنا أوقف هؤلاء أمام قلم ابن المبارك.
يقول ابن المبارك استعرت قلماً بأرض الشام، فذهب عليّ أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
دمشق في سوريا ومرو في جهة شرق إيران أو شمال إيران، استعار قلماً من رجل دمشقي يكتب به، فكتب به ووضعه في جيبه ونسي أن يرده وركب بغلته وسافر ما يقارب خمسة عشر أو عشرين يوماً، فلما دخل مرو نظر فإذا القلم في جيبه، قلم لا يساوي درهماً، لكنه ركب البغلة ورجع ووصل إلى الدمشقي وقال: هذا قلمك، فانظروا هذا الورع العظيم.
وبعض الناس جهاراً نهاراً يتلاعب بالأموال، ويحاول أن يحتال بكل وسيلة ليخدع عباد الله، من أجل أن يحصل على شيء من المال، فانظر إلى هذا، أين هذا الورع؟ قلم واحد لا يساوي درهماً، الناس الآن لا يسألون عن هذا، ولا يسأل أحدهم عن هذه الأمور البسيطة، حتى لو حدثتهم أنت عن هذا لضحكوا عليك؛ لأن بعض الناس أصبح يأكل من الحرام كالجبال.
الآن مثلاً: كثير من التجار أموالهم رباً، يأكلون ويشربون ويلبسون من الربا، ويطعمون أطفالهم من الربا، سيارتهم وفللهم رباً ويأتيك ويسأل: هل يقص الشارب أو يحلق؟ ويقول: الضحى أربع ركعات أم ركعتان!
يقول عليه الصلاة والسلام عن صاحب الربا وهو يدعو الله: {يارب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، فأنى يستجاب له!} الله يحرم الربا، ويعلن الحرب والقتال لمن يأكل الربا، وهؤلاء يصلون ويصومون ويحجون ويعتمرون وهم أغنياء ولكن كله رباً، أنا أوقف هؤلاء أمام قلم ابن المبارك.
قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به، كان من أثبت الناس في السنة، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك، فاتهمه على الإسلام، أي: اعرف أن في إسلام هذا الذي يغمز ابن المبارك شيئاً؛ لأن هذا إمام نصر الله به الدنيا، وقالوا: كنا نعد خصال ابن المبارك، وكان فيه العلم والفقه، والأدب والنحو واللغة، والزهد والفصاحة والشعر، وقيام الليل والعبادة والحج، والغزو والشجاعة، والفروسية والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف على أصحابه.
ولما احتضر ابن المبارك في السفر قال: أشتهي سويقاً، كان جائعاً ويريد سويقاً، أي سويق الشعير الذي يلت بالتمر أو بغيره، قال: فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان ـ كان هذا الرجل يعمل عند السلطان صاحب السويق ـ وكان معنا في السفينة، فذكرنا لابن المبارك فقال: دَعَوه، فمات ولم يأكله، مادام يعمل هذا العمل أنا لا أريده، لا يدري من أين أتى الدخل، وهذه نظرية للسلف، لأنهم يقولون: الذي لا يظهر دخله أو يكون عند الظلمة ففي دخله شبهة، حتى إن الإمام أحمد ما رأى أن يمر على الجسر الذي بناه أبو مسلم الخراساني على دجلة، كان يأتي الإمام أحمد ببغلته من طريق بعيد ولا يمر على الجسر، قالوا: لماذا؟ قال: "بناه من الظلم من أموال المسلمين"، قالوا: ترى أن نصلي في مسجد أبي مسلم الخراساني، قال:"لا، لا تصلوا فيه" لأنه جزاه الله خيراً ما قصر، قتل ألف ألف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم بنى مسجداً، أي: قدم مشروعاً للأمة، بنى مسجداً جامعاً وذبح مليوناً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم المصلين الصائمين.
فلما بنى مسجداً قال الإمام أحمد: "لا تصلوا فيه" فكان الجسر هذا من المشاريع التي نفذها أبو مسلم على نهر دجلة، وكان الإمام أحمد إذا وصل إلى رأس الجسر ضرب البغلة وردها، انظر الورع حتى لا تمر البغلة من على الجسر، فابن المبارك وأمثاله يتورعون من هذا ويخافون كثيراً، يقول سبحانه وتعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113].
وقد رأى الحسن البصري رجلاً ينظر إلى موكب ظالم، قال:[[لا تنظر إليه، قال: وماذا يضر النظر؟ قال: يقول الله: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا َتَمَسَّكُمُ النَّارُ [هود:113]
(6)
توقير ابن المبارك للحديث ولآل البيت:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال ليكن عمدتكم الأثر وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن أبي الحواري قال: جاء رجل من بني هاشم إلى عبد الله ابن المبارك ليسمع منه فأبى أن يحدثه فقال الشريف لغلامه قم فإن أبا عبد الرحمن لا يرى أن يحدثنا فلما قام ليركب جاء ابن المبارك ليمسك بركابه، فقال يا أبا عبد الرحمن تفعل هذا ولا ترى أن تحدثني فقال أذل لك بدني ولا أذل لك الحديث.
توضيح موقف ابن المبارك رحمه الله تعالى:
الهاشمي هذا شريف من الأشراف السادة، جاء والطلاب فقراء عند ابن المبارك، فأراد هذا الشريف أن يأخذ ابن المبارك في مجلس خاص ويحدثه بالحديث، قال ابن المبارك: لا. أنا لا أحدثك وحدك، اجلس مع الطلبة وأنا أحدثك معهم، فقام وقال: أنا استأذنك إذن، قال ابن المبارك: لا أعطيك، فخرج هذا الرجل الشريف، فأمسك ابن المبارك بركابه يهيء له الركاب لأنه من أسرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وحق علينا أن نقدر الطائعين من أسرته عليه الصلاة والسلام، قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23] قال هذا الشريف: تمنعني من الحديث الآن وتهيء لي ركابي، قال:" أذل لك بدني ولا أذل العلم "
(7)
دعاء ابن المبارك عند ختم القرآن:
وكان ابن المبارك رحمه الله يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دعاؤه في السجود، فقد كان للسلف ختمات، ومعظم السلف يختمون القرآن في سبعة أيام، كانوا يحزبون القرآن، يجعلون لليوم الأول ثلاث سور، واليوم الثاني خمس سور، واليوم الثالث سبع، اليوم الرابع تسع سور، واليوم الخامس إحدى عشرة سورة، واليوم السادس ثلاث عشرة سورة، واليوم السابع من (ق) إلى (الناس) وهذا ترتيب وتجزئة للقرآن، فإن لم يستطيعوا ختموه في شهر، فكل يوم جزء وهو ثلاثون جزءاً، وما كانوا يتجاوزون الشهر، فكان ابن المبارك إذا ختم القرآن يجعل آخر ختمة في صلاة؛ فإذا وصل إلى (قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) صلى ركعتين وختم فيها القرآن ودعا وابتهل لأنه يؤثر أن من أحوال إجابة الدعاء ختم القرآن.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الكريم السكري قال كان عبد الله يعجبه إذا ختم القرآن أن يكون دعاؤه في السجود.
(8)
رسالة ابن المبارك إلى الفضيل في الجهاد:
[*] روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملي عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
…
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه
…
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
…
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
…
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا
…
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل اللّه في
…
أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا
…
ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى عليّ الفضيل بن عياض:
حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول اللّه علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه، فقال:"هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ " فقال: يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات؟!
والحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد والسير.
(9)
حفظ ابن المبارك لوقته رحمه الله:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن شقيق البلخي قال: قيل لابن المبارك: إذا صليت معنا لم لا تجلس معنا: قال: أذهب مع الصحابة والتابعين، قلنا له: ومن أين الصحابة والتابعون؟ قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعماللهم فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس، فإذا كان سنة ثمانين فالبعد من كثير من الناس أقرب إلى الله، وفر من الناس كفرارك من الأسد، وتمسك بدينك يسلم الله لك مجهودك.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له ألا تسوحش فقال كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن شقيق البلخي قال: قيل لابن المبارك إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا قال أجلس مع الصحابة والتابعين أنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم أنتم تغتابون الناس.
كان رحمه الله يفر من المجالس العامة، وإذا حضر مجلساً اندفع في الحديث يحدثهم قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
(10)
زهد ابن المبارك رحمه الله:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن محمد ابن عبيد، قال: دفع إلى رجل من أهل مرو كتاباً فيه سئل عبد الله بن المبارك: ما ينبغي للعالم أن يتكرم عنه، قال: ينبغي أن يتكرم عما حرم الله تعالى عليه، ويرفع نفسه عن الدنيا فلا تكون منه على بال، قال: وسئل عبد الله وقيل له: ما ينبغي أن يجعل عظة شكرنا له؟ قال: زيادة آخرتكم ونقصان دنياكم، وذلك أن زيادة آخرتكم لا تكون إلا بنقصان دنياكم، وزيادة دنياكم لا تكون إلا بنقصان آخرتكم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المبارك قال: حب الدنيا في القلب والذنوب احتوشته فمتى يصل الخير إليه؟
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن سنيد بن داود يقول: سألت ابن المبارك: من الناس؟ قال العلماء، قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قلت: فكم الغوغاء؟ قال: خزيمة وأصحابه، قلت: فمن السفله؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن أحمد بن أبي الحواري، حدثني بعض أصحابنا قال: جاء عبد الله بن أبي العباس الطرسوسي وكان والياً بمرو إلى منزل عبد الله بن المبارك بالليل ومعه كاتبه والدواة والقرطاس معه، قال: فسأله عن حديث فأبى أن يحدثه، ثم سأله عن حديث فأبى أن يحدثه ثلاث مرار فقال لكاتبه: اطو قرطاسك، ما أرى أبا عبد الرحمن يرانا أهلاً أن يحدثنا، فلما قام يركب مشى معه ابن المبارك إلى باب الدار فقال له: يا أبا عبد الرحمن لم لم ترنا أهلاً أن تحدثنا وتمشي معنا؟ فقال: إني أحببت أن أذل لك بدني ولا أذل لك حديث رسول الله.
(11)
منابذة ابن المبارك للمبتدعين:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك: يكون مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن عمر السرخسي يقول إن الحارث قال: أكلت عند صاحب بدعة أكلة فبلغ ذلك ابن المبارك فقال: لا كلمتك ثلاثين يوماً.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن بن المبارك يقول إنا لنحكي كلام اليهود والنصاري ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن شقيق يقول قلت لعبد الله بن المبارك كيف يعرف ربنا عز وجل قال في السماء على العرش قلت له إن الجهمية تقول هذا قال لا نقول كما قالت الجهمية هو معنا ها هنا قلت الجهمية يقولون إن الباري تعالى في كل مكان والسلف يقولون إن علم الباري في كل مكان ويحتجون بقوله تعالى " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ " يعني بالعلم ويقولون إنه على عرشه استوى كما نطق به القرآن والسنة وقال الأوزاعي وهو إمام وقته كنا والتابعون متوافرون تقول إن الله تعالى فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ومعلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشيبه ولا تكييف فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقية لا مثل لها وكذلك صفاته تعالى موجودة لا مثل لها أخبرنا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الحسن بن شقيق قال سألت ابن المبارك كيف ينبغي لنا أن نعرف ربنا قال على السماء السابعة على عرشه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ها هنا في الأرض.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك أن رجلا قال له يا أبا عبد الرحمن قد خفت الله تعالى من كثرة ما أدعو على الجهمية قال لا تخف فإنهم يزعمون أن ألهك الذي في السماء ليس بشيء.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أحمد بن يونس قال: سمعت ابن المبارك قرأ شيئا من القرآن ثم قال من زعم أن هذا مخلوق فقد كفر بالله العظيم.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العلاء بن الأسود قال: ذكر جهم عند ابن المبارك فقال: عجبت لشيطان أتى الناس داعيا * إلى النار وانشق اسمه من جهنم.
(12)
خشية ابن المبارك لله تعالى:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن الفضيل بن عياض قال: قال ابن المبارك: أكثركم علماً ينبغي أن يكون أشدكم خوفاً، وقال لي ابن المبارك: استعد للموت ولما بعد الموت، قال الفضيل: فشهق علي شهقة فلم يزل مغشياً عليه عامة الليل.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء لايجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه.
(13)
تواضع ابن المبارك رحمه الله:
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن ابن المبارك قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه يصير عند نفسه أذل من الكلب.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله بن المبارك يقول: أحب الصالحين ولست منهم، وأبغض الطالحين وأنا شر منهم، ثم أنشأ عبد الله يقول:
الصمت أزين بالفتى
…
من منطق في غير حينه
والصدق أجمل بالفتى
…
في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوقاره
…
سمة تلوح على جبينه
فمن الذي يخفى عليك
…
إذا نظرت إلى قرينه
رب امريء متيقن
…
غلب الشقاء على يقينه
فأزاله عن رأيه
…
فابتاع دنياه بدينه
(14)
حسن أدب ابن المبارك في تذكير الناس بما تغافلوا عنه:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن حميد قال عطس رجل عند ابن المبارك فقال له ابن المبارك أيش يقول الرجل إذا عطس قال الحمد لله فقال له يرحمك الله.
(15)
حرص ابن المبارك على إخفاء العمل رحمه الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن عيسى قال كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرطوس وكان ينزل الرقة في خان فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلا فلما رجع سأل عن الشاب فقال محبوس على عشرة آلاف درهم فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش فأخرج الرجل وسرى ابن المبارك فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة فقال لي يا فتى أين كنت لم أرك قال يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين قال وكيف خلصت قال جاء رجل فقضى ديني ولم أدر قال فأحمد الله ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البزاز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله فازدحم إليه الناس فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك واذا هو يكتم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو فقال وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا.
(16)
دعوة ابن المبارك لكسب المال ليستعين به على طاعة الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن علي بن الفضيل قال: سمعت أبي يقول لابن المبارك أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا قال يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون وجهي وأكرم عرضي وأستعين به على طاعة ربي قال يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا.
(17)
حفظ ابن المبارك وإتقانه رحمه الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال الحسن بن عيسى أخبرني صخر صديق ابن المبارك قال كنا غلمانا في الكتاب فمررت أنا وابن المبارك ورجل يخطب فخطب خطبة طويلة فلما فرغ قال لي ابن المبارك قد حفظتها فسمعه رجل من القوم فقال هاتها فأعادها وقد حفظها.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد سمعت ابن المبارك قال لي أبي لئن وجدت كتبك لأحرقنها قلت وما علي من ذلك وهي في صدري.
(18)
كان ابن المبارك مستجاب الدعوة رحمه الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن العباس بن مصعب قال: حدثني بعض أصحابنا قال سمعت أبا وهب يقول مر ابن المبارك برجل أعمى فقال له اسألك أن تدعو لي أن يرد الله علي بصري فدعا الله فرد عليه بصره وأنا أنظر.
(19)
حُسن أداء ابن المبارك للأمانة رحمه الله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن عرفة قال: قال لي ابن المبارك استعرت قلما بأرض الشام فذهبت على أن أرده فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
(20)
حُسن تدبر ابن المبارك للقرآن:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال نعيم بن حماد قال رجل لابن المبارك قرأت البارحة القرآن في ركعة فقال لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر (أَلْهَاكُمُ التّكّاثُرُ) إلى الصبح ما قدر أن ي يتجاوزها يعني نفسه.
(21)
دعوة ابن المبارك إلى التغافل عن مساوئ الإنسان إذا غلبت محاسنه مساوئه:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك: قال إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن.
(22)
دعوة ابن المبارك إلى البعد عن السلطان:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محبوب بن الحسن قال: سمعت ابن المبارك يقول من بخل بالعلم ابتلي بثلاث إما موت يذهب علمه وإما ينسى وإما يلزم السلطان فيذهب علمه.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الحسن بن الربيع قال: لما احتضر ابن المبارك في السفر قال أشتهي سويقا فلم نجده إلا عند رجل كان يعمل للسلطان وكان معنا في السفينة فذكرنا ذلك لعبد الله فقال دعوه فمات ولم يشربه.
(23)
دعوة ابن المبارك إلى طول الصمت:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حبيب الجلاب قال: سألت ابن المبارك ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال غريزة عقل، قلت فإن لم يكن؟ قال حسن أدب، قلت فإن لم يكن؟ قال أخ شفيق يستشيره، قلت فإن لم يكن؟ قال صمت طويل قلت فإن لم يكن؟ قال موت عاجل.
غريزة عقل: أي يكون عنده عقل، لأن بعض الناس سكوته أحسن من كلامه، وبعض الناس يعجبك حتى يتكلم، فإذا تكلم سقط، فالأحسن في مثل هذا أن يصمت.
كان أبو حنيفة جالساً فقدم عليه رجل عليه شارة وأبهة، وجمال ووسامة وعمامة، وكان أبو حنيفة ماداً رجله، فضم رجله وتهيأ لاستقبال الرجل، واستقبله وأجلسه بجانبه، وهابه واستحى منه، فسكت الرجل فكان أبو حنيفة يستحي منه ويتكلم معه بوقار، ثم بدأ الرجل يسأل ويتكلم ـ أنطقه الله الذي أنطق كل شيء ـ قال: يا إمام! متى يفطر الصائم؟ قال: أبو حنيفة إذا غربت الشمس، قال: فإذا لم تغرب إلا نصف الليل؟ -حلها الآن! سمعتم عن شمس لا تغرب إلا نصف الليل، فلماذا يأتي الليل إذاً؟! سبب مجيء الليل غروب الشمس- قال: فإذا لم تغرب الشمس إلا نصف الليل؟ فمدد أبو حنيفة رجليه الإثنتين وقال: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه.
(24)
دعوة ابن المبارك إلى بالغ الاهتمام بإخلاص النية:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال لا يقع موقع الكسب على العيال شيء ولا الجهاد في سبيل الله وقال رب عمل صغير تكثره النية ورب عمل كثير تصغره النية.
{إنما الأعمال بالنيات} ربما تعمل عملاً قليلاً لكن بنيتك وإخلاصك وصدقك يكبر هذا العمل، فمثلاً من يتصدق بعشرة ريالات، لكنه لا يجد إلا هي وفي قلبه من الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وحب نصرة الإسلام وأن ينفع الله عز وجل بهذا الدين فيأجره الله كالجبال.
وبعضهم يتصدق بالمليون لكن فيه من الرياء والسمعة وحب الذكر، من يتبرع في مشاريع الخير الآن والجهاد، والفقراء والمساكين، ثم يطلب من الصحافة أن تعلن باسمه في الصحف والتلفاز والراديو، ما حكم هذا في الإسلام؟! فيأتون يقرءون على الأسماع، والصحف الصباحية: تبرع بمائة ألف ريال فلان بن فلان بن فلان، أين الإخلاص؟!
فإنه من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به بنص السنة الصحيحة وتأمل في الأحاديث الآتية بعين البصيرة:
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن يُرائي يُرائي الله به.
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
(حديثُ أبي هريرةَ صحيح مسلم): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معي غيري تركته وشركه.
(حديثُ جندب ابن عبد الله في الصحيحين): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سمَّعَ سمَّعَ الله به ومن
(حديثُ أبي أُمامة صحيح النسائي): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى لا يقبلُ من العملِ إلا ما كان خالصاً وابتُغيَ به وَجهُهُ.
كان السلف إذا أراد أحدهم أن يتصدق جعل يده اليسرى في جيبه، وكان علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنه وأرضاه إذا أظلم الليل ونام الناس، أخذ الصدقات وحملها على كتفه ووزعها على فقراء المدينة
، فلا يعلم الفقير من الذي أعطاه، لكن الواحد الأحد يعلم.
فيا أيها الإخوة لنتجنب الشهرة في أعمال الخير، ولنحذر الرياء والتبجح بما قدمنا قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23]
(25)
دعوة ابن المبارك إلى الانشغال بصحيح الحديث عن سقيمه:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال في صحيح الحديث شغل عن سقيمة.
يقول: يكفيك الحديث الصحيح عن غيره، فتشاغل به واستنبط منه، تجد بعض الناس حاطب ليل يتكلم من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، والأحاديث الصحيحة لا يمسها، حتى إني أعلم أن بعض الشباب يركز مثلاً على غير الكتب الستة ليبرز للناس، ليقولوا: ماشاء الله يقرأ حتى وصل إلى الطبراني! فدائماً يقول: رواه الطبراني، رواه الدار قطني، رواه ابن خزيمة، هذا إذا كان طالب العلم متضلعاً في طلب الحديث، أو أحوجه العلم إلى ذلك الأثر فلا بأس، أما أن يذهب يقفز هناك ويترك كتب العلم المشهورة فهذا فيه نظر.
فيا أيها الإخوة: يوجد من الوعاظ والخطباء من يأتي إلى الحديث الضعيف ويشرحه للناس، أليس عندنا أحاديث صحيحة؟ أليس عندنا البخاري ومسلم؟ أنا أنصح الخطباء إذا تكلموا أن ينقلوا من القرآن ومن الصحيحين أو مما صححه الشيخ الألباني حفظه الله مثل صحيح أبي داود و صحيح الترمذي و صحيح النسائي و صحيح ابن ماجة و صحيح الأدب المفرد وصحيح الجامع والسلسلة الصحيحة وصحيح الترغيب والترهيب، وهذا يكفي الناس، أما من يأتي بالغرائب، حديث علقمة، حديث ثعلبة، والناس يحبون الغرائب، حتى تجد في الترهيب والترغيب حديثاً يقول: {من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله بنى الله له سبعين قصراً في الجنة، في كل قصر سبعين حورية، على كل حورية سبعين وصيفة، في كل سبعين وصيفة سبعين
…
} فيبقى في السبعين ساعة ونصف! كله موضوع، ألا تكفينا الأحاديث في البخاري ومسلم والكتب الصحاح السالف ذكرها؟!
فلا تشغل الأمة بالحديث الضعيف ولا الموضوع، ولا بالغرائب والخرافات والخزعبلات.
(26)
دعوة ابن المبارك إلى التلقي عن الثقة:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن المسيب بن واضح أنه سمع ابن المبارك وسأله رجل عمن يأخذ فقال قد يلقي الرجل ثقة وهو يحدث عن غير ثقة وقد يلقى الرجل غير ثقة يحدث عن ثقة ولكن ينبغي أن يكون ثقة عن ثقة.
(27)
سلامة لسان ابن المبارك من الخوض في الصحابة:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك يقول السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة ولا أقول لأحد منهم هو مفتون.
معنى كلام ابن المبارك رحمه الله: " السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة، ولا أقول أن أحداً منهم مفتون " يقول: الذي وقع بين الصحابة في الجمل وصفين فتنة، لكن لا أقول لأحد منهم: مفتون؛ لأن الله عصم الصحابة في مجموعهم من الفتنة فليسوا بأهل فتنة رضي الله عنهم، بل كلهم -إن شاء الله- في الجنة، لكن أن نقول: أنهم مفتونون أو نخوض فيهم، فحذارِ حذارِ من هذا، وليس من السداد أن يتكلم الإنسان في أعراض الصحابة، أو يخوض فيما شجر بينهم فإن الله قد غفر لهم سيئاتهم، وتقبل منهم حسناتهم، أسأل الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.
(28)
دعوة ابن المبارك إلى الخوف من أن يسلب الإنسان الإيمان وهو لا يشعر:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن المبارك قال إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت يراها هدى وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
" إن البصراء ـ يعني: الأتقياء ـ لا يأمنون من أربع ": ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع الله سبحانه وتعالى فيه، وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة، وفضل قد أعطيه العبد لعله مكر واستدراج، وزيغ قلب في ساعة "
ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع الله سبحانه وتعالى فيه: فأنت خائف دائماً من الذنب الماضي، لا تدري ماذا يُصنع فيه، لأنه ليس عندك وثيقة أنه قد غفر لك.
وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة: لا تدري ما يأتي من الفتن، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قد يفاجأ العبد بفتنة تذهب عليه دينه، فعليه أن يعتصم بالله، وأن يخلص وأن يلتجئ إلى الله أن يعصمه من الفتن.
وفضل قد أعطيه العبد لعله مكر واستدراج: بعض الناس يمكر به سبحانه وتعالى بمال أو بغنى أو بمنصب حتى يتلفه بهذا الشيء ويظن أنه خير، ولكنه قد يكون شراً وضلالة قد زينت وهو يراها هدى.
وزيغ قلب في ساعة: فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر، ببدعة وهوى وارتكاب الشبهات والشهوات، هذا مما يزيغ به قلب العبد.
(29)
كان ابن المبارك لا يخشى في الحق لومة لائم:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن قال إبراهيم بن نوح الموصلي قدم الرشيد عين زربة فأمر أبا سليم أن يأتيه بابن المبارك قال فقلت لا آمن أن يجيب ابن المبارك بما يكره فيقتله فقلت يا أمير المؤمنين هو رجل غليظ الطباع جلف فأمسك الرشيد.
(30)
تحذير ابن المبارك من الكبر والعجب والعياذ بالله:
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبو وهب المروزي قال: سألت ابن المبارك ما الكبر قال أن تزدري الناس فسألته عن العجب قال أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك لا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب.
(31)
شجاعة ابن المبارك رحمه الله:
كان ابن المبارك رحمه الله من الشجاعة بالمكان الجهير، وله في ساحة الجهاد نوادر ذائعة، فقد كان في سرية ببلاد الروم خرجت للاستطلاع لا للقتال، ففاجأتها قوة ضخمة من الأعداء، واصطف الفريقان ونهض فارس رومي يدعو للمبارزة وفقًا لما كان معهودًا إذ ذاك، فتقدم إليه بطل مسلم، فلم يستطع نزاله، وخر شهيدًا، وتقدم ثانٍ فكانت النتيجة هي النتيجة، وتخوف المسلمون وذعروا من رهبة هذا الصائل الفاتك. وغلا الدم في رأس ابن المبارك، فخف إليه، واشتد الصراع بين الفارسين، وكل منهما يبدي من أساليب الصيال ما في طوقه كرًّا وفرًّا، في واقعة شديدة، لم ير الناس أرهب منها! ثم حصلت المفاجأة حين طعن ابن المبارك غريمه طعنة أصابت منه مقتلاً فسقط على الأرض، وكبر المسلمون، ورجع ابن المبارك وقد غطى وجهه حتى لا يشتهر بين الناس.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج إليه رجل فقتله ثم آخر فقتله ثم آخر فقتله ثم دعا إلى البزاز فخرج إليه رجل فطارده ساعة فطعنه فقتله فازدحم إليه الناس فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك واذا هو يكتم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو فقال وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا.
لقد كان الإمام العالم يعرف فضل الجهاد، وهو الذي أرسل إلى أخيه الفضيل بن عياض برسالة يقول فيها:
[*] روى الحافظ ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال: أملي عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
…
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه
…
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
…
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
…
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا
…
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل اللّه في
…
أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا
…
ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم، قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى عليّ الفضيل بن عياض:
حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول اللّه علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه، فقال:"هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ " فقال: يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات؟!
والحديث رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد والسير.
(32)
كان ابن المبارك شاعرا مُحْسِنَاً قَوَّالاً بالحق:
[*] قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: وقد كان ابن المبارك رحمه الله شاعرا مُحْسِنَاً قَوَّالاً بالحق قال أحمد بن جميل المروزي قيل لابن المبارك إن إسماعيل بن عليه قد ولي القضاء فكتب إليه
يا جاعل العلم له بازيا * يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذاتها * بحيلة تذهب بالدين
فصرت مجنونا بها بعدما * كنت دواء للمجانين
أين رواياتك في سردها * * عن ابن عون وابن سرين
أين رواياتك فيما مضى * * في ترك أبواب السلاطين
إن قلت أكرهت فما ذا كذا * زل حمار العلم في الطين
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة وأنفذها معي إلى الفضل بن عياض من طرسوس
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه * فنحورنا بدائنا تتخضب
أو كان يتعب خيلة في باطل * فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا * قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في * أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا * ليس الشهيد بميت لايكذب
فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم فقرأه وبكى ثم قال صدق أبو عبد الرحمن ونصح.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن ابن سهم الأنطاكي قال: سمعت ابن المبارك ينشد
فكيف قرت لأهل العلم أعينهم * أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا
والنار ضاحية لابد موردها * وليس يدرون من ينجو ومن يقع
وطارت الصحف في الأيدي منشرة * فيها السرائر والجبار مطلع
إما نعيم وعيش لا انقضاء له * أو الجحيم فلا نبقي ولا تدع
تهوي بساكنها طورا وترفعه * إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا
لينفع العلم قبل الموت عالمه * قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن إسحاق بن سنين أنه روى لابن المبارك
إني امرؤ ليس في ديني لغامره * لين ولست على الإسلام طعانا
فلا أسب أبا بكر ولا عمرا * ولن أسب معاذ الله عثمانا
ولا ابن عم رسول الله أشتمه * حتى ألبس تحت الترب أكفانا
ولا الزبير حواري الرسول ولا * أهدي لطلحة شتما عز أو هانا
ولا أقول علي في السحاب إذا * قد قلت والله ظلما ثم عدوانا
ولا أقول بقول الجهم إن له * قولا يضارع أهل الشرك أحيانا
ولا أقول تخلى من خليقته * رب العباد وولى الأمر شيطانا
ما قال فرعون هذا في تمرده * فرعون موسى ولا هامان طغيانا
الله يدفع بالسطان معضلة * عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الأئمة لم تأمن لنا سبل * وكان أضعفنا نهبا لأقوانا
فيقال إن الرشيد أعجبه هذا فلما أن بلغه موت ابن المبارك بهيت قال إنا لله وإنا أليه راجعون يا فضل إيذن للناس يعزونا في ابن المبارك وقال أما هو القائل الله يدفع بالسلطان معضلة فمن الذي يسمع هذا من ابن المبارك ولا يعرف حقنا.
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبدة بن عبد الرحيم قال كنت عند فضيل ابن عياض وعنده ابن المبارك فقال قائل إن أهلك وعيالك قد احتاجوا مجهودين محتاجين إلة هذا المال فاتق الله وخذ من هؤلاء القوم فزجره ابن المبارك وأنشأ يقول:
خذ من الجاروش وال * رز والخبز الشعير
واجعلن ذاك حلالا * تنج من حر السعير
وأنا ما اسطعت هدا * ك الله عن دار الأمير
لا تزرها واجتنبها * إنها شر مزور
توهن الدين وتد * نيك من الحواب الكبير
قبل أن تسقط * يا مغرور في حفرة بير
وارض يا ويحك من * دنياك بالقوت اليسير
إنها دار بلاء * وزوال وغرور
ماترى قد صرعت * قبلك أصحاب القصور
كم ببطن الأرض من * ثاو شريف ووزير
وصغير الشأن عبد * خامل الذكر حقير
لو تصفحت وجو * ه القوم في يوم نضير
لم تميزهم ولم * تعرف غنيا من فقير
خمدوا فالقوم صرعى * تحت أشقاق الصخور
واستووا عند مليك * بمساويهم خبير
احذر الصرعة يا * مسكين من دهر عثور
أين فرعون وها * مان ونمرود النسور
أو ما تخشاه أن * يرميك بالموت المبير
أو ما تحذر من * يوم عبوس قمطرير
اقمطر الشر فيه * بعذاب الزمهرير
قال فغشي على الفضيل فرد ذلك ولم يأخذه
ولابن المبارك:
جربت نفسي فما وجدتها لها * من بعد تقوى الإله كالأدب
في كل حالاتها وإن كرهت * أفضل من صمتها عن الكذب
أو غيبة الناس إن عيبتهم * حرمها ذو الجلال في الكتب
قلت لها طائعا وأكرهها * الحلم والعلم زين ذي الحسب
إن كان من فضة كلامك يا * نفس فإن السكوت من ذهب
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي العباس السراج قال: أنشدني يعقوب بن محمد لابن المبارك:
أبإذن نزلت بي يا مشيب * أي عيش وقد نزلت يطيب
وكفى الشيب واعظا غير أني * آمل العيش والممات قريب
وكم أنادي الشباب إذ بان * مني وندائي موليا ما يجيب
وبه
ياعائب الفقر ألا تزدجر * عيب الغنى أكثر لو تعتبر
من شرف الفقر ومن فضله * على الغنى لو صح منك النظر
أنك تعصي لتنال الغنى * وليس تعصي الله كي تفتقر
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن حبان بن موسى قال: سمعت ابن المبارك ينشد
كيف القرار وكيف يهدأ مسلم * والمسلمات مع العدو المعتدي
الضاربات خدودهن برنة * الداعيات نبيهن محمد
القائلات إذا خشين فضيحة * جهد المقالة ليتنا لم نولد
ما تستطيع ومالها من حيلة * إلا التستر من أخيها باليد
[*] أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي إسحاق الطالقاني قال: كنا عند ابن المبارك فانهد القهندز فأتى بسنين فوجد وزن أحدهما منوان فقال عبد الله
أتيت بسنين قد رمتا * من الحصن لما أثاروا الدفينا
على وزن منوين إحداهما * تقل به الكف شيئا رزينا
ثلاثون سنا على قدرها * تباركت يا أحسن الخالقينا
فماذا يقوم لأفواهها * وما كان يملأ تلك البطونا