الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الثابت في الصحيحين) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال:(انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب، فخذوه منها). فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما هذا يا حاطب). قال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم، أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إنه قد صدقكم). فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه، فقال:(إنه شهد بدرا، وما يدريك؟ لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
أهل بيعة الرضوان:
أهل بيعة الرضوان هم الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية على قتال قريش، وألا يفروا حتى الموت، وسببها ما أشيع من أن عثمان قتلته قريش حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم للمفاوضة. وسميت ببيعة الرضوان، لان الله رضي عنهم بها، وعددهم نحو ألف وأربعمائة. والفضيلة التي حصلت لهم هي:
(1)
رضا الله عنهم: لقوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ اذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(الفتح: من الآية18).
(2)
سلامتهم من دخول النار: لان النبي صلى الله عليه وسلم
أخبر انه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة.
(حديث أم بشر في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة.
-
فضل سيرة الصحابة:
إنَّ لسيرة الصحابة رضي الله عنهم فضلٌ عظيم، تلك السيرة العطرة التي نستمد من نورها نوراً ومن ضيائها لَمَعَاناً يُنِيْرُ القلوب، ونقتبس مها شُعْلَةَ الإيمان ونشعل بها مجامر القلوب التي يسرع انطفاؤها في مهب الريح والعواصف المادية، فليس أنقى ولا أصدق من قلوب الرعيل الأول الذين سكنوا الدنيا بقلوبٍ مُعَلَقةٌ بالآخرة، طردوا الدنيا من قلوبهم فكانت في أيديهم، ما أظلت الخضراء ولا اقلت الغبراء أصدق منهم، أولئك الذين تعلموا العلم من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم، رجالاً آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا، كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً، أئمة الهدى وأعلام التقى ومصابيح الدجى، من حلية الأولياء وأعلام النبلاء الأضواء اللامعة والنجوم الساطعة الذين اصطفاهم الله تعالى لصحبة أفضل الأنبياء والمرسلين وكفى بذلك فضلاً، وكفى بذلك فوزاً عظيما، وتأمل كيف أثنى الله على المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان قال الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] هذا الفيء لمن؟ للفقراء المهاجرين الذين أصابهم ما أصابهم في سبيل الله وصبروا أولئك هم الصادقون وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9] ما هي الدار؟ المدينة، من الذي تبوأها قبل المهاجرين؟ الأنصار وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9] لا يجد الأنصار في صدورهم حقداً ولا حسداً على المهاجرين من الفضل الذي أوتيه المهاجرون، فإن المهاجرين أفضل، لكن الأنصار ما حسدوهم على هذه الأفضلية: وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] والذين جاءوا من بعدهم وساروا على هديهم، الذين جاءوا من بعدهم
هم التابعون بإحسان: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ [الحشر:10] وهنا يأتي الشاهد الآن: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] هذا من دعاء التابعين بإحسان، نسأل الله أن يجعلنا منهم (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] لا تجعل في قلوبنا بغضاء ولا حقداً ولا حسداً ولا غلاً للذين آمنوا: رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عبد الله ابن وهب، حدثني مالك بن أنس، قال: أن رهباً كان بالشام، فلما رأى أوائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين قدموا الشام ونظرآه، وقال: والذي نفسي بيده ما بلغ حواري عيسى بن مريم عليهما السلام الذين صلبوا على الخشب ونشروا بالمناشير من الاجتهاد ما بلغ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله ابن وهب: قلت لمالك بن أنس: تسميهم? فسمى أبا عبيدة، ومعاذاً، وبلالاً وسعد بن عبادة.
[*] وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء عن ابن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب العباد فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم فبعثه إلى خلقه، فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابه فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه صلى الله عليه وسلم فما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح.
فالصحابة لهم فضلٌ عظيم وأجرٌ جسيم على هذه الأمة لأنهم كانوا مثلاً أعلى في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولاسيما عهد الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة خطوة لا بد منها في تحقيق الأهداف التي تسعى الأمة لتحقيقها في هذه الحياة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أمرنا بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده كما في الحديث الآتي:
(حديث العرباض بن سارية في صحيحي أبي داوود والترمذي) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بتقوى الله و السمع و الطاعة و أن أمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة.
إن تاريخ عصر الخلفاء الراشدين مليء بالدروس والعبر وهي متناثرة في بطون الكتب والمصادر والمراجع، سواء كانت تاريخية أو حديثية أو فقهية أو أدبية أو تفسيرية، فنحن في أشد الحاجة لجمعها وترتيبها وتوثيقها وتحليلها، فتاريخ الخلافة الراشدة -إذا أحسن عرضه- يغذي الأرواح ويهذب النفوس، وينور القلوب ويبني العقول، ويشحذ الهمم، ويقدم الدروس، ويسهل العِبَر، وينضج الأفكار، ويوضح معالمها، وصفات قادتها، ونظام حكمها، وأخلاق جيلها، وعوامل ازدهارها، وأسباب زوالها، فنستفيد من ذلك في إعداد الجيل المسلم الذي يتربى على منهاج النبوة وفقه الخلافة الراشدة، ونتعرف على حياة عصر من قال الله تعالى فيهم:(وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) " [التوبة: 100].
وقال تعالى (مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) " [الفتح: 29].
والصحابة خير القرون بنص السنة الصحيحة كما في الحديث الآتي:
(حديث ابن مسعود في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه و يمينه شهادته.
وقد أشاد النبي صلى الله عليه وسلم بفضلهم كما في الحديث الآتي:
(حديث أبي سعيد في صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو انفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه).
[*] وقال فيهم عبد الله بن مسعود: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم". (1)
(1) شرح السنة للبغوي (1/ 214، 215).
فالصحابة قاموا بتطبيق أحكام الإسلام ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها فعصرهم خير العصور، فهم الذين علموا الأمة القرآن الكريم، ورووا السنن والآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتاريخهم هو الكنز الذي حفظ مدخرات الأمة في: الفكر والثقافة والعلم والجهاد، وحركة الفتوحات، والتعامل مع الشعوب والأمم، فتجد الأجيال في هذا التاريخ المجيد ما يعينها على مواصلة رحلتها في الحياة على منهج صحيح، وهدى رشيد، وتعرف من خلاله حقيقة رسالتها ودورها في دنيا الناس.
وهاك غيضٌ من فيض ونقطةٌ من بحر مما ورد في فضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:
[*] أَخرج أَبو نُعيم في الحلية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إِنَّ الله نظر في قلوب العباد فاختار محمداً صلى الله عليه وسلم فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه. ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحاباً، فجعلَهم أَنصارَ دينه ووزراءَ نبيِّه صلى الله عليه وسلم فما رآه المؤمنون حسناً فهو حسنٌ وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيحٌ).
[*] وأَخرج أبو نُعيم أَيضاً عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (من كان مُستنّاً فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمّة، أبرَّها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلَّها تكلُّفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه، فتشبَّهوا بأَخلاقهم وطرائقهم؛ فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله ربِّ الكعبة: كذا في الحلية وأَخرج أَيضاً عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أنتم أَكثرُ صياماً وأَكثرُ صلاةً وأَكثرُ اجتهاداً من أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن، قال: هم كانوا أزهد في الدنيا وأَرغب في الآخرة) كذا في الحلية.
[*] وأخرج أيضاً عن أَبي وائل قال: سمع عبد الله رجلاً يقول: أين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فقال عبد الله: (أولئك أَصحاب الجابية، اشترط خمسُ مائة من المسلمين أن لا يرجعوا حتى يُقتلوا، فحلقوا رؤوسهم ولقُوا العدو فقُتلوا إِلا مخبرٌ عنهم) كذا في حلية الأَولياء.
[*] وأَخرج أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما أَنه سمع رجلاً يقول: أَين الزاهدون في الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فأَراه قبرَ النبي صلى الله عليه وسلم وأَبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: (عن هؤلاء تسأَل) كذا في الحلية.
[*] وأَخرج ابن أَبي الدنيا عن أَبي أَراكة يقول: صليتُ مع علي رضي الله عنه صلاة الفجر، فلما انفَتَلَ عن يمينه مكث كأَنَّ عليه كآبةً، حتى إِذا كنت الشمس على حائِط المسجد قِيدَ رُمْح صلَّى ركعتين ثم قَلَب يده فقال:(والله لقد رأَيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يُشبههم لقد كانوا يُصبحون صُفْراً شُعْثاً غُبْراً بين أعينهم كأَمثال رُكَب المِعزى، قد باتوا لله سُجّداً وقياماً، يتلُون كتاب الله، يتراوحون بين جباهم وأقدامهم، فإِذا أَصبحوا فذكروا الله مادُوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تنبل ثيابهم، والله لكأَنّ القومَ باتوا غافلين) ثم نهض فما رُئِيَ بعد ذلك مفترَّاً يضحك حتى قتله ابن مُلْجَم عدوُّ الله الفاسق، كذا في البداية. وأخرجه أيضاً أبو نُعيم في الحلية والدينَوَرِي والعسكري وابن عساكر كما في الكنز.
[*] وأَخرج أبو نعيم أَيضاً عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكِناني على معاوية فقال له: صِفْ لي علياً، فقال: أَوَ تُعْفيني يا أمير المؤمنين؟ قال لا أُعفيك، قال:(أما إِذْ لا بدَّ؛ فإنَّه كان ـ والله ـ بعيد المدى، شديد القوى، يقول فَصْلاً ويحكم عدلاً، يتفجَّرُ العلمُ من جوانبه، وتنطِق الحكمةُ من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنسُ بالليل وظلمته، كان ـ والله ـ غزير العَبْرة، طويل الفكرة، يقلِّبُ كفّه ويخاطب نفسه، يُعجبه من اللباس ما قَصُر. ومن الطعام ما جَشُب، كان ـ والله ـ كأَحدنا يُدنينا إِذا أتيناه، ويُجيبنا إِذا سأَلناه، وكان مع تقرُّبِه إِلينا وقربهِ منا لا نكلمه هيبة له، فإِن تبسم فَعَنْ مثل اللؤلؤ المنظوم، يُعَظِّمُ أَهل الدين، ويُحبُّ المساكين، لا يطمعُ القويُّ في باطله، ولا ييأَسُ الضعيف من عدله، فأَشْهدُ بالله لقد رأيتُه في بعض مواقفه ـ وقد أَرخى الليل سدوله وغارت نجومه ـ يميلُ في محرابه قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأَني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا: يتضرع إِليه ثم يقول للدنيا: إِليَّ تَغَرَّرْتِ؟ إِليَّ تشوَّفتِ؟ هيهات هيهات، غُرِّي غيري، قد بتَتُّكَ ثلاثاً. فعمرُك قصيرٌ، ومجلسُك حقيرٌ، وخطرُك يسير، آه، آه، من قلة الزاد وبعد السفر ووحشةِ الطريق) فَوَكَفَتْ دموع معاوية على لحيته يملكها وجعل ينشفها بكمه ـ وقد اختنق القوم بالبكاء ـ فقال: (كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وَجْدُك عليه يا ضرار)؟ قال: "وَجْد مَنْ ذُبح واحدها في حِجْرها، لا ترقأُ دمعتها، ولا يسكن حزنها) ثم قام فخرج. وأَخرجه أيضاً ابن عبد البر في الإستيعاب عن الحِرماني ـ رجل من همْدان ـ عن ضِرار الصُدَائي بمعناه.
[*] وأخرج أبو نُعيم عن قتادة قال: سُئل ابن عمر رضي الله عنهما هل كان أَصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون قال: (نعم والإِيمانُ في قلوبهم أعظمُ من الجبال) كذا في الحلية. وأَخرج هنَّاد عن سعيد بن عمر القرشي أنَّ عمر رضي الله عنه رأى رُفْقة من أهل اليمن رحالهم الأَدَمُ فقال: (من أحبَّ أن ينظر إلى شَبَهٍ كانوا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هؤلاء) كذا في كنز العمال.
[*] وأَخرج الحاكم في المستدرك عن أَبي سعيد المَقْبُري قال: لما طُعن أبو عبيدة رضي الله عنه قال: يا معاذُ صلِّ بالناس، فصلى معاذ بالناس، ثم مات أبو عبيدة بن الجراح، فقام معاذ في الناس فقال:(يا أيّها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإِن عبد الله لا يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أَن يغفر له. ثم قال: إنكم أيها الناس، قد فُجِعتم برجل ـ والله ـ ما أَزعم أَني رأيت من عباد الله عبداً قطُّ أَقل غِمْراً، ولا أبرأ صدراً، ولا أَبعد غائلة، ولا أَشد حباً للعاقبة، ولا أَنصح للعامة منه، فترحَّموا عليه ثم أَصْحِروا للصلاة عليه، فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً). فاجتمع الناس وأُخرج أَبو عبيدة رضي الله عنه وتقدَّم معاذ رضي الله عنه فصلّى عليه، حتى إذا أُتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو ابن العاص والضحَّاك بن قيس، فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنّوا عليه التراب، فقال معاذ بن جبل:(يا أبا عبيدة، لأثنِيَنَّ عليك ولا أقول باطلاً أَخاف أَن يلحقني بها من الله مَقْتٌ: كنتَ ـ والله ـ ما علمتُ من الذاكرين الله كثيراً، ومن الذين يمشون على الأَرض هَوْناً وإِذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، ومن الذين إِذا أَنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً، وكنت والله من المُخبتين، المتواضعين، الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويُبغضون الخائنين المتكبرين).
[*] وأخرج الطبراني عن رِبْعي بن حِرَاش قال: استأذن عبد الله ابن عباس على معاوية رضي الله عنهم وقد عَلِقت عنده بطون قريش وسعيد ابن العاص جالس عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد، والله لأُلقِيَنَّ على ابن عباس مسائل يعيَى بجوابها، فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيى بمسائلك، فلما جلس قال له معاوية: ما تقول في أَبي بكر؟ قال: (رحم الله أبا بكر، كان ـ والله للقرآن تالياً، وعن المَيْل نائياً، وعن الفحشاء ساهياً، وعن المنكر ناهياً، وبدينه عارفاً، ومن الله خائفاً. وبالليل قائماً، وبالنهار صائماً، ومن دنياه سالماً وعلى عدل البرية عازماً، وبالمعروف آمراً وإِليه صائراً، وفي الأحوال شاكراً، ولله في الغدو والرواح ذاكراً، ولنفسه بالمصالح قاهراً. فاق أَصحابه ورعاً وكفافاً وزهداً وعفافاً وبرّاً وحِياطة زهادة وكفاءة، فأعقبَ الله مَنْ ثَلَبه اللعائن إِلى يوم القيامة).
قال معاوية: فما تقول في عمر بن الخطاب؟ قال: (رحم الله أبا حفص، كان ـ والله ـ حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحلَّ الإيمان، ومعاذَ الضعفاء، ومعقلَ الحنفاء، للخَلْق حصناً، وللناس عوناً، قام بحق الله صابراً محتسباً حتى أَظهر الله الدين وفتح الديار، وذُكِر الله في الأقطار والمناهل وعلى التلال وفي الضواحي والبقاع، وعند الخَنى وقوراً، وفي الشّدة والرخاء شكوراً، ولله في كل وقت وأَوان ذكوراً، فأَعقب الله من يبغضه اللعنة إِلى يوم الحسرة).
قال معاوية رضي الله عنه: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: (رحم الله أبا عمرو، كان ـ والله ـ أَكرم الحَفَدة، وأَوصلَ البررة، وأَصبرَ الغزاة، هجّاداً بالأَسحار. كثيرَ الدموع عند ذكر الله، دائمَ الفكر فيما يعنيه الليلَ والنهارَ، ناهضاً إِلى كل مكرمة، يسعى إلى كل منجية، فرّاراً من كل مُوبقة، وصاحب الجيش والبئر، وخَتَن المصطفى على ابنتيه، فأعقب الله من سبَّه الندامة إلى يوم القيامة).
قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟ قال: (رحم الله أَبا الحسن كان ـ والله ـ علمَ الهدى، وكهفَ التقى، ومحل الحجى، وطَوْدَ البهاء، ونور السُّرَى في ظلم الدُّجَى، داعياً إلى المَحَجَّة العظمى، عالماً بما في الصحف الأُولى، وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلِّقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للجَوْر والأَذى. وحائداً عن طرقات الرَّدَى، وخيرَ من آمن واتقى، وسيِّدَ من تقمَّص وارتدى، وأَفضلَ من حجَّ وسعى، وأسمحَ من عدل وسوَّى، وأَخطبَ أَهل الدنيا إِلا الأنبياء والنبي المصطفى، وصاحب القبلتين، فهل يوازيه موحِّدٌ؟ وزوج خير النساء، وأبو السبطين، لم تَرَ عيني مثله ولا ترى إِلى يوم القيامة واللقاء، من لعنه فعليه لعنةُ الله والعباد إِلى يوم القيامة).
قال: فما تقول في طلحةَ والزبير؟ قال: (رحمة الله عليهما، كانا ـ والله ـ عفيفَين، برّين، مسلمَين، طاهرَين، متطهِّرَين، شهيدَين، عالَمَين، زَلا زلَّة والله غافرٌ لهما إِن شاء الله بالنُّصرة القديمة والصُّحبة القديمة والأفعال الجميلة).