الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن داود بن أبي هند، قال: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير، قال: ما أراني إلا مقتولاً، وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبين لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء، ثم سألنا الله الشهادة فكلا صاحبي رزقها وأنا أنتظرها، قال: فكأنه رأى أن الإجابة، عند حلاوة الدعاء.
[*] أخرج الحافظ أبو نعيم ٍ في حلية الأولياء عن عمرو بن سعيد، قال: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دعا ليقتل، فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة.
[*]
وقفات مع الحوار الذي دار بين سعيد بن جبير والحجاج:
وهب سعيد حياته للإسلام، ولم يَخْشْ إلا الله، ولد في الكوفة، يفيد الناس بعلمه النافع، ويفقه الناس في أمور دينهم ودنياهم، فقد كان إمامًا عظيمًا من أئمة الفقه في عصر الدولة الأموية، حتى شهد له عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالسبق في الفقه والعلم، فكان إذا أتاه أهل مكة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء (يقصد سعيد بن جبير، وكان سعيد بن جبير يملك لسانًا صادقًا وقلبًا حافظًا، لا يهاب الطغاة، ولا يسكت عن قول الحق، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، فألقى الحجاج بن يوسف القبض عليه بعد أن لفق له تهمًا كاذبة، وعقد العزم على التخلص منه، لم يستطع الحجاج أن يسكت لسانه عن قول الحق بالتهديد أو التخويف، فقد كان سعيد بن جبير مؤمنًا قوي الإيمان، يعلم أن الموت والحياة والرزق كلها بيد الله، ولا يقدر عليه أحد سواه.
اتبع الحجاج مع سعيد بن جبير طريقًا آخر، لعله يزحزحه عن الحق، أغراه بالمال والدنيا، وضع أموالا كثيرة بين يديه، فما كان من هذا الإمام الجليل إلا أن أعطى الحجاج درسًا قاسيًا، فقال: إن كنت يا حجاج قد جمعت هذا المال لتتقي به فزع يوم القيامة فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل كل مرضعة عما أرضعت. لقد أفهمه سعيد أن المال هو أعظم وسيلة لإصلاح الأعمال وصلاح الآخرة، إن جمعه صاحبه بطريق الحلال لاتِّقاء فزع يوم القيامة (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء 88: 89].
ومرة أخرى تفشل محاولات الحجاج لإغراء سعيد، فهو ليس من عباد الدنيا ولا ممن يبيعون دينهم بدنياهم، وبدأ الحجاج يهدد سعيدًا بالقضاء عليه، ودار هذا المشهد بينهما:
الحجاج: ويلك يا سعيد!
سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار.
الحجاج: أي قتلة تريد أن أقتلك؟
سعيد: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله ما تقتلني قتلة إلا قتلتك قتلة في الآخرة.
الحجاج: أتريد أن أعفو عنك؟
سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت فلا براءة لك ولا عُذر.
الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه. فلما خرجوا ليقتلوه، بكي ابنه لما رآه في هذا الموقف، فنظر إليه سعيد وقال له: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ وبكي أيضًا صديق له، فقال له سعيد: ما يبكيك؟
الرجل: لما أصابك.
سعيد: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا: قوله تعالى: (مَآ أَصَابَ مِن مّصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلَا فِيَ أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّن قَبْلِ أَن نّبْرَأَهَآ)[الحديد: 22] [الحديد، ثم ضحك سعيد، فتعجب الناس وأخبروا الحجاج، فأمر بردِّه،
فسأله الحجاج: ما أضحكك؟
سعيد: عجبت من جرأتك على الله وحلمه عنك.
الحجاج: اقتلوه.
سعيد: (وَجّهْتُ وَجْهِيَ لِلّذِي فَطَرَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[الأنعام: 79]
الحجاج: وجهوه لغير القبلة.
سعيد: (فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ)[البقرة: 115]
الحجاج: كبوه على وجهه.
سعيد: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىَ)[طه: 55] الحجاج: اذبحوه.
سعيد: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، خذها مني يا حجاج حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعا سعيد ربه فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، ومات سعيد شهيدًا في إحدى عشر رمضان سنة خمسٍ وتسعين هجرية، وله من العمر سبع وخمسون سنة، مات ولسانه رطب بذكر الله.
أمر الحجاج بن يوسف بفصل رأس سعيد بن جبير عن جسده بعد محاكمة صورية، وهنا يتضح أن للطغاة منطقهم الشاذ .. ولكنهم في غيبة الوعي السليم وفي حرمان من توفيق الله وعصمته يرتكبون من الآثام ما لا يمكن تصوره بالفعل، غير أنهم يدركون الحقيقة بعد فوات الأوان، وحين لا ينفع الندم، ولا يبقي أمامه إلا أن يواجه العقاب، وأشد ألوان العقاب، هو عقاب الملك العلاّم الذي لا يغفل ولا ينام، يوم يؤخذ بالنواصي والأقدام، يعاقبه على هذا الإجرام جزاءاً بما ارتكبه من الرزايا والآثام، فكل بني آدم مرده إلى الله مهما مررت السنون وانصرمت الأيام، وعند الله تجتمه الخصوم ويُقْتَص من الظالم للمظلوم، فيا أيها المظلوم يا صاحب الحقِ المهضوم يا من صار مَغْمُومَاً من جُرْحِهِ المَكْلُوم يا من كان غَيْظُهُ من الظلم مَكْتُوم يا من صار وَجُهُ من الأسى مَحْمُوم هَوِّنْ عَلَيْك يا أخي، فإن الدنيا أمرها معلوم، فهي للظالم لا تدوم سيقتَصُ الله لك من فِعله المشئوم وعند الله تَجْتَمِعُ الخصوم ويُقْتَصُ من الظَالِم للمَظلوم، يقتصُ لجرحه المكلوم وحقهِ المهضوم، يجتمعون عند الملك العزيزِ الوهَّاب، فالمظلوم ينتظر النصر والظالم ينتظر العقاب، تجتمعون عند العلي الكبير عند من يحاسب على الخطأ والتقصير ولا يظلم الفتيل والنقير.
استجابة دعوة سعيد بن جبير على الحجاج " اللهم اقصم أجله، ولا تسلطه علي أحد يقتله من بعدي"
وصعدت دعوة سعيد إلي السماء، فلقيت قبولا واستجابة من الله والواحد القهار، كيف لا والله تعالى يقول: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ [النمل: 62]، واسنة الصحيحة طافحةٌ بالدليل الأوفى على استجابة دعوة المظلوم، منها ما يلي:
(حديث ا بن عباس في الصحيحين) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ ابن جبل حين بعثه إلى اليمن: إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم فتُردُ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائمَ أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب.
الشاهد: قوله صلى الله عليه وسلم[واتقِ دعوةَ المظلومِ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب]
(حديث خزيمة بن ثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحْمَلُ على الغمام يقول الله: و عزتي و جلالي لأنصرنك و لو بعد حين.
(اتقوا دعوة المظلوم) أي اجتنبوا دعوة من تظلمونه وذلك مستلزم لتجنب جميع أنواع الظلم على أبلغ وجه وأوجز إشارة وأفصح عبارة لأنه إذا اتقى دعاء المظلوم فهو أبلغ من قوله لا تظلم وهذا نوع شريف من أنواع البديع يسمى تعليقاً ثم بين وجه النهي بقوله.
(فإنها تُحمل على الغمام) أي يأمر الله برفعها حتى تجاوز الغمام أي السحاب الأبيض حتى تصل إلى حضرته تقدس
(يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك) بلام القسم ونون التوكيد الثقيلة وفتح الكاف أي لأستخلصن لك الحق ممن ظلمك
(ولو بعد حين) أي أمد طويل بل دل به سبحانه على أنه يمهل الظالم ولا يهمله
(حديث ابن عمر في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة.
(اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) كناية عن سرعة الوصول لأنه مضطر في دعائه وقد قال سبحانه وتعالى {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه} وكلما قوي الظلم قوي تأثيره في النفس فاشتدت ضراعة المظلوم فقويت استجابته والشرر ما تطاير من النار في الهواء شبه سرعة صعودها بسرعة طيران الشرر من النار.
(حديث أبي هريرة في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعوة المظلوم مستجابة و إن كان فاجرا ففجوره على نفسه.
(دعوة المظلوم مستجابة) أي يستجيبها اللّه تعالى يعني فاجتنبوا جميع أنواع الظلم لئلا يدعو عليكم المظلوم فيجاب
(وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه) ولا يقدح ذلك في استجابة دعائه لأنه مضطر ونشأ من اضطراره صحة التجائه إلى ربه وقطعه قلبه عما سواه وللإخلاص عند اللّه موقع وقد ضمن إجابة المضطر بقوله تعالى: (أَمّن يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ)[النمل: 62].
صعدت دعوة سعيد إلي السماء، فلقيت قبولا واستجابة من الله والواحد القهار، فلقد أصيب الحجاج بعد قتله لسعيد بن جبير بمرض عضال أفقده عقله، وصار كالذي يتخبطه الشيطان من المس، وكان كلما أفاق من مرضه قال بذعر: مالي ولسعيد بن جبير
وبعد فترة قصيرة من قتل سعيد بن جبير مات الحجاج الثقفي شر موته، وتحققت دعوة سعيد فيه، فلم يسلطه الله علي أحد يقتله من بعده.