الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"ليس الزهد لبس المرقع من الثياب، ولا اعتزال الناس والبعد عن المجتمع، ولا صيام الدهر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيد الزاهدين، وكان يلبس الجديد من الثياب، ويتزين للوفود وفي الجمع والأعياد، ويخالط الناس، ويدعوهم إلى الخير ويعلمهم أمور دينهم، وكان ينهى أصحابه رضي الله عنهم عن صيام الدهر، وإنما الزهد التعفف عن الحرام، وما يكرهه الله تعالى، وتجنب مظاهر الترف والإفراط في متع الدنيا، والإقبال على عمل الطاعات، والتزود للآخرة بخير الزاد، وخير تفسير له سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
…
الشيخ عبد الرزاق عفيفي
…
الشيخ عبد الله بن
ديان
…
الشيخ عبد الله بن قعود.
"فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء"(24/ 369).
باب: بيان تفضيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة
اعلم أن ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول مهم؛ فالفضول كالخيل المسومة مثلاً، إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفه بركوبها وهو قادر على المشي والمهم كالأكل والشرب، ولسنا نقدر على تفصيل أصناف الفضول فإن ذلك لا ينحصر، وإنما ينحصر المهم الضروري، والمهم أيضاً يتطرق إليه الفضول في مقداره وجنسه وأوقاته، فلا بد من بيان وجه الزهد فيه، والمهمات ستة أمور: أولاً: المطعم.
ثانياً: الملبس.
ثالثاً: المسكن.
رابعاً: أثاث المسكن.
خامساً: المنكح.
سادساً: المال والجاه.
- وإليك بيان كيفية الزهد في هذه المهمات الست:
-
أولاً بيان الزهد في المطعم:
لا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه ولكن له طول وعرض، فلا بد من قبض طوله وعرضه حتى يتم به الزهد؛ فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر، فإن من يملك طعام يومه فلا يقنع به، وأما عرضه ففي مقدار الطعام وجنسه ووقت تناوله؛ أما طوله فلا يقصر إلا بقصر الأمل، وأقل درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدة الجوع وخوف المرض، ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدخر من غدائه لعشائه، وهذه هي الدرجة العليا. الدرجة الثانية: أن يدخر لشهر أو أربعين يوماً. الدرجة الثالثة: أن يدخر لسنة فقط، وهذه رتبة ضعفاء الزهاد، ومن ادخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهداً محال؛ لأن من أمل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جداً فلا يتم منه الزهد إلا إذا لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدي الناس، كداود الطائي فإنه ورث عشرين ديناراً فأمسكها وأنفقها في عشرين سنة، فهذا لا يضاد أصل الزهد إلا عند من جعل التوكل شرط الزهد، وأما عرضه فبالإضافة إلى المقدار، وأقل درجاته في اليوم والليلة نصف رطل، وأوسطه رطل، وأعلاه مد واحد، وهو ما قدره الله تعالى في إطعام المسكين في الكفارة، وما وراء ذلك فهو من اتساع البطن والاشتغال به، ومن لم يقدر على الاقتصار على مد لم يكن له من الزهد في البطن نصيب، وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله كل ما يقوت، ولو الخبز من النخالة، وأوسطه خبز الشعير والذرة، وأعلاه خبز البر غير منخول، فإذا ميز من النخالة وصار حواري فقد دخل في التنعم وخرج عن آخر أبواب الزهد فضلاً عن أوائله. وأما الأدم: فأقله الملح أو البقل والخل، وأوسطه الزيت أو يسير من الأدهان أي دهن كان، وأعلاه اللحم أي لحم كان، وذلك في الأسبوع مرة أو مرتين، فإن صار دائماً أو أكثر من مرتين في الأسبوع خرج عن آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهداً في البطن أصلاً، وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرة وهو أن يكون صائماً، وأوسطه أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل، ويأكل ليلة ولا يشرب، وأعلاه أن ينتهي إلى أن يطوي ثلاثة أيام أو أسبوعاً وما زاد عليه، ولينظر إلى أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم الأدم.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر على أهله الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا يوقد في بيتهم النار، طعامهم الأسودان: التمر والماء
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في الصحيحين) أنها قالت لعروة: ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة، ما كان يُعَيِّشُكُم؟ قالت: الأسودان التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم فيسقينا.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين: المراد بالهلال الثالث هلال الشهر الثالث وهو يرى عند انقضاء الشهرين وبرؤيته يدخل أول الشهر الثالث.
وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار: لا يوقد في شيء من بيوته نار لا لخبز ولا لطبخ.
ما كان يُعَيِّشُكُم؟ بضم أوله يقال أعاشه الله أي أعطاه العيش.
الأسودان التمر والماء: قال الصغاني الاسودان يطلق على التمر والماء والسواد للتمر دون الماء فنعتا بنعت واحد تغليبا وإذا اقترن الشيئان سميا باسم أشهرهما.
منائح: جمع منيحة بنون وحاء مهملة
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً، ولا شاة مسموطة حتى لقي الله.
[*] قال الحافظ بن حجر في الفتح:
ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً: وأكل المرقق إنما هو لدفع طيبات الدنيا اختيارا لطيبات الحياة الدائمة.
ولا شاة مسموطة: المسموط الذي ازيل شعره بالماء المسخن وشوى بجلده أو يطبخ وإنما يصنع ذلك في الصغير السن الطري وهو من فعل المترفين من وجهين أحدهما المبادرة إلى ذبح ما لو بقي لازداد ثمنه وثانيهما أن المسلوخ ينتفع بجلده في اللبس وغيره.
(حديث أنس رضي الله عنه الثابت في صحيح البخاري) قال: ما علمت النبي صلى الله عليه وسلم أكل على سُكُرُّجَةٍ قطُّ، ولا خُبِزَ له مرقَّق قطُّ، ولا أكل على خِوَان قطُّ. قيل لقتادة: فعلى ما كانوا يأكلون؟ قال: على السُّفَر.
[*] قال صاحب تحفة الأحوذي:
(سُكُرُّجَةٍ) بِضَمِّ السِّينِ وَالْكَافِ وَالرَّاءِ وَالتَّشْدِيدِ إِنَاءٌ صَغِيرٌ يُؤْكَلُ فِيهِ الشَّيْءُ الْقَلِيلُ مِنَ الْأُدْمِ وَهِيَ فَارِسِيَّةٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُوضَعُ فِيهِ الْكَوَامِخُ وَنَحْوُهَا كَذَا فِي النِّهَايَةِ.
قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ: تَرْكُهُ الْأَكْلَ فِي السُّكُرُّجَةِ إِمَّا لِكَوْنِهَا لَمْ تَكُنْ تُصْنَعُ عِنْدَهُمْ إِذْ ذَاكَ أَوِ اسْتِصْغَارًا لَهَا؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ لِأَنَّهَا كَانَتْ تُعَدُّ لِوَضْعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَلَمْ يَكُونُوا غَالِبًا يَشْبَعُونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَاجَةٌ بِالْهَضْمِ انْتَهَى.
(عَلَى خِوَانٍ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَيُضَمُّ أَيْ مَائِدَةٍ.
وكان يربط الحجر على بطنه من الجوع:
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت في السلسلة الصحيحة) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يربط الحجر على بطنه من الغرث.
الغرث: الجوع
(حديث عائشة رضي الله عنها الثابت في صحيحي الترمذي وابن ماجة) قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين.
(حديث أبي هريرة رضي الله عنه الثابت الثابت في الصحيحين) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا.
قوتاً: أي شيءٌ يسدُ الرمق.
[*] قال الإمام ابن حجر في الفتح:
قوتاً: أي اكفهم من القوت بما لا يرهقهم الى ذل المسألة ولا يكون فيه فضول تبعث على الترفه والتبسط في الدنيا وفيه حجة لمن فضل الكفاف لأنه إنما يدعو لنفسه وآله بأفضل الأحوال.
(حديث عبد الله بن عمر الثابت في صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً و قنَّعه الله بما آتاه.
[*] قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم:
ورُزق كفافاً: الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف:
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً) أي ما يكف عن الحاجات، ويدفع الضرورات والفاقات، ولا يلحقه بأهل الترفهات. قال القاضي: الفلاح الفوز بالبغية
(وقنعه اللّه بما آتاه) بمد الهمزة أي جعله قانعاً بما أعطاه إياه ولم يطلب الزياد لمعرفته أن رزقه مقسوم لن يعدو ما قدر له والفلاح الفوز بالبغية في الدارين والحديث قد جمع بينهما والمراد بالرزق الحلال منه فإن المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم مدح المرزوق وأثبت له الفلاح وذكر الأمرين وقيد الثاني بقنع أي رزق كفافاً وقنعه اللّه بالكفاف فلم يطلب الزيادة وأطلق الأوّل ليشمل جميع ما يتناوله الإسلام ذكره الطيبي وصاحب هذه الحالة معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف فلم يفته من حال الفقراء إلا السلامة من قهر الرجال وذل المسألة.
(حديث عبيد الله بن محصن الثابت في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في جسده عنده قوتُ يومه فكأنما حيزت له الدنيا.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(من أصبح منكم آمنا في سربه) بكسر السين على الأشهر أي في نفسه وروي بفتحها أي في مسلكه وقيل بفتحتين أي في بيته
(معافى في جسده) أي صحيحاً بدنه
(عنده قوت يومه) أي غذاؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك، يعني من جمع اللّه له بين عافية بدنه وأمن قلبه حيث توجه وكفاف عيشه بقوت يومه وسلامة أهله فقد جمع اللّه له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها بأن يصرفها في طاعة المنعم لا في معصية ولا يفتر عن ذكره
(فكأنما حيزت) بكسر المهملة
(له الدنيا) أي ضمت وجمعت
(بحذافيرها) أي بجوانبها أي فكأنما أعطي الدنيا بأسرها، ومن ثم قال نفطويه: إذا ما كساك الدهر ثوب مصحة * ولم يخل من قوت يحلى ويعذب فلا تغبطن المترفين فإنه * على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب وقال: إذا القوت يأتي لك والصحة والأمن * وأصبحت أخا حزن فلا فارقك الحزن وفيه حجة لمن فضل الفقر على الغنى.
[*] قال يحيى بن معاذ الرازي: الزاهد الصادق قوته ما وجد، ولباسه ما ستر، ومسكنه حيث أدرك، الدنيا سجنه، والقبر مضجعه، والخلو مجلسه، والاعتبار فكرته، والقرآن حديثه، والرب أنيسه، والذكر رفيقه، والزهد قرينه، والحزن شأنه، والحياء شعاره، والجوع إدامه، والحكمة كلامه، والتراب فراشه، والتقوى زاده، والصمت غنيمته والصبر معتمده، والتوكل حسبه، والعقل دليله، والعبادة حرفته والجنة مبلغه إن شاء الله تعالى.
- ثانيا ً كيفية الزهد في الملبس:
وأقل درجته ما يدفع الحر والبرد ويستر العورة. وهو كساء يتغطى به، وأوسطه قميص وقلنسوة ونعلان، وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل. وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو مجاوز حد الزهد.
وشرط الزاهد: أن لا يكون له ثوب يلبسه إذا غسل ثوبه. بل يلزمه القعود في البيت. فإذا صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع ألوان الزهد من حيث المقدار. أما الجنس فأقله المسوح الخشنة وأوسطه الصوف الخشن وأعلاه القطن الغليظ. وأما من حيث الوقت فأقصاه ما يستر سنة، وأقله ما يبقى يوماً حتى رقع بعضهم ثوبه بورق الشجر وإن كان يتسارع الجفاف إليه، وأوسطه ما يتماسك عليه شهراً وما يقاربه فطلب ما يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل وهو مضاد للزهد، وإلا إذا كان المطلوب خشونته، ثم قد يتبع ذلك قوته ودوامه؛ فمن وجد زيادة من ذلك فينبغي أن يتصدق به، فإن أمسكه لم يكن زاهداً بل كان محباً للدنيا، ولينظر فيه إلى أحوال الأنبياء والصحابة كيف تركوا الملابس:
(حديث عائشة في الصحيحين) أنها أخرجت كساءاً وإزاراً غليظاً فقالت: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين.
(حديث أبي أُمامةَ في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البذاذةُ من الإيمان. [*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(البذاذة) بفتح الموحدة وذالين معجمتين قال الراوي: يعني التقحل بالقاف وحاء مهملة رثاثة الهيئة وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس إيثاراً للخمول بين الناس
(من الإيمان) أي من أخلاق أهل الإيمان إن قصد به تواضعاً وزهداً وكفاً للنفس عن الفخر والتكبر لا إن قصد إظهار الفقر وصيانة المال وإلا فليس من الإيمان من عرَّض النعمة للكفران وأعرض عن شكر المنعم المنان فالحسن والقبح في أشباه هذا بحسب قصد القائم بها إنما الأعمال بالنيات (تنبيه) قال العارف ابن عربي: عليك بالبذاذة فإنها من الإيمان وورد اخشوشنوا وهي من صفات الحاج وصفة أهل القيامة فإنهم غبر شعث عراة حفاة وذلك أنفى للكبر وأبعد من العجب والزهو والخيلاء والصلف وهي أمور ذمها الشرع والعرف فلذلك جعلها من الإيمان وألحقها بشعبه فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا اللّه وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ولا شك أن الزهو والعجب والكبر أذى في طريق سعادة المؤمن ولا يماط هذا الأذى إلا بالبذاذة فلذلك جعلها من الإيمان.
(حديث معاذ في صحيح الجامع) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إياك و التنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(إياك والتنعم فإن عباد اللّه ليسوا بالمتنعمين) لأن التنعم بالمباح وإن كان جائزاً لكنه يوجب الأنس به ثم إن هذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده فلا ينافيه ما ورد في المستدرك وغيره أن المصطفى صلى الله عليه وسلم أهديت له حلة اشتريت بثلاثة وثلاثين بعيراً وناقة فلبسها مرة على أنه وإن داوم على ذلك فليس غيره مثله فإن المعصوم واقف على حدود المباح فلا يحمله ذلك على ما يخاف غائلته من نحو بطر وأشر ومداهنة وتجاوز إلى مكروه ونحو ذلك وأما غيره فعاجز عن ذلك فالتفريج على تنعمه بالمباح خطر عظيم لإبعاده عن الخوف قال العارف الجنيد: دخلت على العارف السري وهو يبكي فسألته فقال: جاءته البارحة الصبية فقالت: يا أبت هذا الكوز أعلقه لك يبرد فنمت فرأيت جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء فقلت: لمن أنت قالت: لمن لا يشرب الماء المبرد فكسرت الكوز.
[*] وعد على قميص عمر رضي الله عنه اثنتا عشرة رقعة بعضها من أدم.
[*] واشترى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ثوباً بثلاثة دراهم ولبسه وهو في الخلافة وقطع كميه من الرسغين وقال: الحمد لله الذي كساني هذا من رياشه.
[*] وقال الثوري وغيره: البس من الثياب ما لا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند الجهال، وكان يقول: إن الفقير ليمر بي وأنا أصلي فأدعه يجوز، ويمر بي واحد من أبناء الدنيا وعليه هذه البزة فأمقته ولا أدعه يجوز.
[*] وقال بعضهم: قومت ثوبي سفيان ونعليه بدرهم وأربعة دوانق.
[*] وقال ابن شبرمة: خير ثيابي ما خدمني وشرها ما خدمته.
[*] وقال بعض السلف: البس من الثياب ما يخلطك بالسوقة، ولا تلبس منها ما يشهرك فينظر إليك.
[*] وقال أبو سليمان الداراني: الثياب ثلاثة: ثوب لله وهو ما يستر العورة، وثوب للنفس وهو ما يطلب لينه، وثوب للناس وهو ما يطلب جوهره وحسنه.
[*] وقال بعضهم: من رق ثوبه رق دينه.
وكان جمهور العلماء من التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين إلى الثلاثين درهماً، وكان الخواص لا يلبس أكثر من قطعتين قميص ومئزر تحته، وربما يعطف ذيل قميصه على رأسه.
وقال بعض السلف: أول النسك الزي.
[*] وقال علي كرم الله وجهه: إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغني ولا يزري بالفقير فقره. ولما عوتب في خشونة لباسه قال: هو أقرب إلى التواضع وأجدر أن يقتدي به المسلم.
[*] وقال علي لعمر رضي الله عنهما: إن أردت أن تلحق بصاحبيك فارفع القميص ونكس الإزار واخصف النعل وكل دون الشبع.
[*] وقال عمر: اخشوشنوا وإياكم وزي العجم كسرى وقيصر.
[*] وقال علي كرم الله وجهه: من تزيا بزي قوم فهو منهم.
وعلى الزاهد أن يحذر لباس الشهرة فإنه حرام فضلاً عن كونه يعارض الزهد من كل جانب
(حديث ابن عمر في صحيحي أبي داوود وابن ماجة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لبس ثوبَ شُهْرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مَذَلةٍ ثم يُلْهِبُ فيه النار.
[*] قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير:
(من لبس ثوب شهرة) قال القاضي: الشهرة ظهور الشيء في شنعة بحيث يشتهر به.
(ألبسه اللّه يوم القيامة) التي هي دار الجزاء وكشف الغطاء
(ثوب مَذَلةٍ) أي يشمله بالذل كما يشمل الثوب البدن في ذلك الجمع الأعظم بأن يصغره في العيون ويحقره في القلوب لأنه لبس شهوة الدنيا ليفتخر بها على غيره فيلبسه اللّه مثله