الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
192 - الظلم
*
قال في تهذيب اللغة: "وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه"
(1)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وقال كثير من أهل السنة والحديث والنظار بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه"
(2)
.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: 82].
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: "ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك، أوَلم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه:{يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]
(3)
.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "وكذا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه فسره بالشرك، فيكون الأمن من تأبيد العذاب. وعن عمر رضي الله عنه أنه فسره بالذنب، فيكون الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم
* التحفة العراقية لابن تيمية 121، فتح الباري لابن رجب 1/ 144، أحكام القرآن القرطبي 11/ 249 - 5/ 157 - 1/ 309، تيسير العزيز الحميد ص 71، فتح المجيد ص 71، حاشية كتاب التوحيد ص 23، القول المفيد لابن عثيمين ط 1 - 1/ 56، ط 2 - 1/ 72 ومن المجموع 9/ 48، الدرر السنية 1/ 470، شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 6/ 77.
(1)
تهذيب اللغة للأزهري 14/ 383.
(2)
مجموع الفتاوى 8/ 507، وانظر 18/ 145.
(3)
أخرجه البخاري (3360).
مهتدون في الدنيا"
(1)
.
وقال ابن القيم: "ولما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} قال الصحابة: وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فلما أشكل عليهم المراد بالظلم وظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لا يكون آمنا أجابهم بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، وهذا والله الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل، فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام مانع من الأمن والهدى المطلق، ولا يمنع ذلك أن يكون مطلق الظلم مانعا من مطلق الأمن ومطلق الهدى فتأمله فالمطلق للمطلق والحصة للحصة"
(2)
.
قال الإمام ابن رجب معلقًا على حديث ابن مسعود: "معنى هذا: أن الظلم يختلف: فيه ظلم ينقل عن الملة كقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]؛ فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأعظم ذلك أن يوضع المخلوق في مقام الخالق، ويُجعل شريكًا له في الربوبية وفي الإلهية، سبحانه وتعالى عما يشركون.
وأكثر ما يرد في القرآن وعيد الظالمين، يراد به الكفار، كقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ
(1)
انظر تيسير العزيز الحميد ص 71.
(2)
الصواعق المرسلة 1/ 221.
اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الآيات [إبراهيم: 42]، وقوله تعالى:{وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} الآيات [الشورى: 44] ومثل هذا كثير.
ويراد بالظلم ما لا ينقل عن الملة، كقوله تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32]، وقوله:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229].
وحديث ابن مسعود هذا: صريح في أن المراد بقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} : أن الظلم هو الشرك.
وجاء في بعض رواياته: زيادةٌ. قال: "إنما هو الشرك""
(1)
.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "وهو نوعان:
أحدهما: ظلم النفس، وأعظمه الشرك، كما قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فإن المشرك جعل المخلوقَ في منزلة الخالق فعبده وتألهه، فوضع الأشياء في غير موضعها، وأكثر ما ذُكِر في القرآن من وعيد الظالمين إنما أُريد به المشركون، كما قال عز وجل:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، ثم يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.
والثاني: ظلمُ العبد لغيره، وهو المذكور في هذا الحديث
(2)
، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة
(1)
فتح الباري لابن رجب 1/ 132.
(2)
يعني الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا) رواه مسلم (577).
يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"، وروي عنه أنه خطب بذلك في يوم عرفة، وفي يوم النحر، وفي اليوم الثاني من أيام التشريق، وفي رواية: ثم قال: "اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه".
وفي الصحيحين عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الظلم ظلمات يوم القيامة""
(1)
.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الظلم كله حرام مذموم، فأعلاه الشرك، فإن الشرك لظلم عظيم، والله لا يغفر أن يشرك به، وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان، وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله، فإذا كان الرجل مشركًا كافرًا فأسلم باطنًا وظاهرًا، بحيث صار مؤمنًا وهو مع إسلامه يظلم الناس ويظلم نفسه، فهو خير من أن يبقى على كفره ولو كان تاركًا لذلك الظلم.
وأما إذا أسلم ظاهرًا فقط، وهو منافق في الباطن، فهذا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار، وأما في الدنيا فقد يكون أضر على المسلمين منه لو بقي على كفره، وقد لا يكون كذلك، فإن إضرار المنافقين بالمؤمنين يختلف باختلاف الأحوال.
لكن إذا أسلم نفاقًا فقد يرجى له حسن الإسلام فيصير مؤمنًا، كمن أسلم تحت السيف، وكذلك من أسلم لرغبة أو لرهبة أو نحو ذلك. فالإسلام والإيمان أصل كل خير وجِماعُه.
وكذلك من كان ظالمًا للناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، فانتقل عن ذلك إلى ما يظلم به نفسه خاصة: من خمر وزنا، فهذا أخف لإثمه وأقل لعذابه.
(1)
جامع العلوم والحكم 1/ 36، 37.
وهكذا النِحَل التي فيها بدعة، وقد يكون الرجل رافضيًا زيديًا، فذلك خير له. وقد يكون جهميًا قدريًا فيصير جهميًا غير قدري، أو قدريًا غير جهمي. أو يكون من الجهمية الكبار، فيتجهم في بعض الصفات دون بعض، ونحو ذلك ..
فهذه الذنوب مع صحة التوحيد خير من فساد التوحيد مع عدم هذه الذنوب. ولهذا نجد الناس يفضِّلون من كان من الملوك ونحوهم إنما نفسه بشرب الخمر والزنا أو الفواحش ويتجنب ظلم الرعية، ويتحرى العدل فيهم، على من كان يتجنب الفواحش والخمر والزنا وينتصب لظلم الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم"
(1)
.
(1)
الاستقامة باختصار 1/ 465، 466.