الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الإمام ابن تيمية: "مع أنهم - أي الصحابة والتابعين - نقلوا قنوته الذي لا يشرع بعينه وإنما يشرع نظيره فإن دعاءه لأولئك المعينين وعلى أولئك المعينين ليس بمشروع باتفاق المسلمين بل إنما يشرع نظيره فيشرع أن يقنت عند النوازل يدعو للمؤمنين ويدعو على الكفار في الفجر وفي غيرها من الصلوات وهكذا كان عمر يقنت لما حارب النصارى بدعائه الذي فيه اللهم العن كفرة أهل الكتاب إلى آخره وكذلك علي رضي الله عنه لما حارب قوما قنت يدعو عليهم وينبغي للقانت أن يدعو عند كل نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة وإذا سمى من يدعو لهم من المؤمنين ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنًا"
(1)
.
وفي قوله "اللهم العن فلانًا وفلانًا
…
" قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "قوله فلانًا وفلانًا يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام كما بينه في الرواية التي بعدها وفيه جواز الدعاء على المشركين في الصلاة وتسمية المدعو عليهم ولهم بأسمائهم في الصلاة وأن ذلك لا يضر الصلاة"
(2)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين: "ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم! أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك"
(3)
.
ثالثًا: حكم لعن الفاسق المعين:
روى البخاري من حديث عمر رضي الله عنه أن رجلًا كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يُضْحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يومًا فأمر به فجلده، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلا إنه يُحبُّ الله ورسوله"
(4)
. وروى مسلم من
(1)
مجموع الفتاوى 22/ 270، 271.
(2)
تيسير العزيز الحميد ص 220.
(3)
القول المفيد من مجموع فتاوى ابن عثيمين 9/ 249.
(4)
أخرجه البخاري في باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج عن الملة رقم (6780).
حديث بريدة أنَّ خالد بن الوليد لما رمى المرجومةَ بحجر فنضح الدم على وجهه، فَسَبَّها، فسمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم سبَّهُ إياها، فقال: "مهلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابتْ توبةً لو تابها صاحبُ مكس
(1)
لغفر له"
(2)
.
قال القرطبي رحمه الله: "وذكر ابن العربي أن لعن العاصي المعين لا يجوز اتفاقًا"
(3)
.
وقال ابن تيمية رحمه الله: "وقد تنازع الناس في لعنة الفاسق المعين فقيل إنه جائز كما قال ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الفرج بن الجوزي وغيره، وقيل إنه لا يجوز كما قال ذلك طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم كأبي بكر عبد العزيز وغيره، والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج بن يوسف وأمثاله وأن يقول كما قال الله تعالى {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ثم ذكر حديث حمار وقال: فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنة هذا المعين الذي كان يكثر شرب الخمر معللًا ذلك بأنه يحب الله ورسوله مع أنه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر مطلقًا؛ فدل ذلك على أنه يجوز أن يلعن المطلق ولا تجوز لعنة المعين الذي يحب الله ورسوله"
(4)
.
ولا يشكل على القول بعدم الجواز ورود اللعن في كتاب الله قال ابن تيمية: "فأما قول الله تعالى {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فهي آية عامة كآيات الوعيد بمنزلة قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وهذا يقتضي أن هذا الذنب سبب اللعن والعذاب لكن قد يرتفع موجبه لمعارض راجح إما توبة، وإما حسنات ماحية، وإما مصائب مكفرة، فمن أين يعلم الإنسان أن يزيد أو غيره من الظَلَمة لم يتب من
(1)
قال ابن الأثير: المكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشَّار. النهاية (م ك س).
(2)
أخرجه مسلم (1695)، وأبو داود (4442).
(3)
الجامع لأحكام القرآن 2/ 189.
(4)
منهاج السنة النبوية 4/ 569 - 570.
هذه، أو لم تكن له حسنات ماحية تمحو ظلمه؟ ولم يُبتل بمصائب تكفر عنه، وأن الله لا يغفر له ذلك مع قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور لهم" وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد، والجيش عدد معين لا مطلق وشمول المغفرة لآحاد هذا الجيش أقوى من شمول اللعنة لكل واحد واحد من الظالمين فإن هذا أخص والجيش معينون"
(1)
.
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: "قال أبو بكر الخلال في كتاب "السنة": الذي ذكره أبو عبد الله في التوقف في اللعنة فيه أحاديث كثيرة لا تخفى على أهل العلم، ويتبع فيه قول الحسن وابن سيرين فهما الإمامان في زمانهما، ويقول: لعنَ اللهو مَنْ قتلَ الحسين بن علي، لعنَ الله مَنْ قتل عثمانَ، لعن الله من قتل عليًا، لعن الله من قتل معاوية بن أبي سفيان، ويقول: لعنةُ الله على الظالمين إذا ذُكِرَ لنا رجلٌ من أهل الفتن على ما تقلده أحمد"
(2)
.
وقال رحمه الله أيضًا: "قال القاضي: فأما فُسَّاقُ أهل الملة بالأفعالِ كالزنى والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس ونحو ذلك فهل يجوز لعنهم أم؟ فقد تَوَقَّفَ أحمد رضي الله عنه عن ذلك في رواية صالح قلت لأبي: الرجلُ يذكر عنده الحجاجُ أو غيرُه يلعنه؟ فقال: لا يعجبني، لو عَمَّ فقال: ألا لعنةُ الله على الظالمين"
(3)
.
وقال أيضًا رحمه الله: "وذكر - يعني القاضي - ما نقله خط أبي حفص العُكْبَري أسنده إلى صالح بن أحمد قلت لأبي: إنَّ قومًا ينسبون إليَّ تولِّي يزيد،
(1)
منهاج السنة النبوية 4/ 571، 572.
(2)
الآداب الشرعية 1/ 286.
(3)
الآداب الشرعية 1/ 288.
فقال: يا بُنَيَّ، وهل يتولَّى يزيد أحدٌ يؤمنُ بالله واليوم الآخر؟ فقلت: ولم لا تلعنه؟ فقال: ومتى رأيتني ألحنُ شيئًا؟ لِمَ لا نلعن مَنْ لعنه الله عز وجل في كتابه؟ فقلت: وأين لعن الله يزيد في كتابه؟ فقرأ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23]. فهل يكون في قطع الرحم أعظم من القتل؟
قال القاضي: وهذه الرواية إنْ صَحَّتْ فهي صريحةٌ في معنى لعن يزيد
(1)
.
قال الشيخ تقي الدين: الدلالة مبنية على استلزام المطلق للمعين، انتهى كلامه"
(2)
.
وجاء في رواية أبي طالب قال سألت أحمدَ بن حنبل عَمَّنْ قال: لعن الله يزيد بن معاوية. فقال: "لا تكلّمْ في هذا، الإمساكُ أحَبُّ إليَّ"
(3)
.
قال ابن مفلح: "قال ابن الجوزي: هذه الرواية تدل على اشتغال الإنسان بنفسه عن لَعْنِ غيره. والأولى - على جواز اللعنة - كما قلنا في تقديم التسبيح على لعنه إبليس. وسَلَّمَ ابن الجوزي أن تركَ اللعنِ أوْلى، وقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ادعُ الله على المشركينَ، قال: "إني لم أُبْعَث لَعَّانا وإنما بُعثتُ رحمةً"
(4)
"
(5)
.
وذكر ابن حجر رحمه الله جواز لعن الفاسق المسلم المجاهر بفسقه المشتهر به
(1)
لعل هذا وما قبله مأخذ قول العلامة الكيا الهراسي من فقهاء الشافعية إذ سئل عن لعن يزيد فقال: للشافعي فيه قولان تصريح وتلويح، ولأحمد فيه قولان تصريح وتلويح، ولنا قول واحد صريح لا تلويح: لعنة الله عليه.
(2)
الآداب الشرعية 1/ 290.
(3)
الآداب الشرعية 1/ 286.
(4)
أخرجه مسلم (2599) من حديث أبي هريرة.
(5)
الآداب الشرعية 1/ 286.
خاصة إذا كان ضرره بيّنًا وأذاه وظلمه للمسلمين ظاهرًا
(1)
.
وقال القرطبي: "ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سُمِّي أو عيِّن أم لا؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن فإذا تاب منها وأقلع وطهَّره الحد فلا لعنة تتوجه عليه"
(2)
.
وقال ابن تيمية: "وأما ما نقله عن أحمد فالمنصوص الثابت عنه من رواية صالح أنه قال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا لما قيل له: ألا تلعن يزيد؟ فقال ومتى رأيت أباك يلعن أحدًا؟.
وثبت عنه أن الرجل إذا ذكر الحجاج ونحوه من الظلمة وأراد أن يلعن يقول: ألا لعنة الله على الظالمين وكره أن يلعن المعين باسمه، ونقلت عنه رواية في لعنة يزيد وأنه قال: ألا ألعن من لعنه الله، واستدل بالآية لكنها رواية منقطعة ليست ثابته عنه، والآية لا تدل على لعن المعين ولو كان كل ذنب لعن فاعله يلعن المعين الذي فعله للعن جمهور الناس وهذا بمنزلة الوعيد المطلق لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وجدت شروطه وانتفت موانعه، وهكذا اللعن وهذا بتقدير أن يكون يزيد فعل ما يُقطع به الرحم. ثم إن هذا تحقق في كثير من بني هاشم الذين تقاتلوا من العباسيين والطالبيين فهل يلعن هؤلاء كلهم؟ وكذلك من ظَلَم قرابةً له لا سيما وبينه وبينه عدة آباء أيلعنه بعينه ثم إذا لُعن هؤلاء لعن كل من شمله ألفاظه وحينئذ فيلعن جمهور المسلمين .... وأما أبو الفرج بن الجوزي فله كتاب في إباحة لعنة يزيد رد فيه على الشيخ عبد المغيث الحربي فإنه كان ينهى عن ذلك، وقد قيل إن الخليفة الناصر لما بلغه نهى الشيخ عبد المغيث عن ذلك قصده وسأله عن ذلك وعرف عبد المغيث
(1)
فتح الباري 9/ 207.
(2)
تفسير القرطبي 2/ 189.
أنه الخليفة، ولم يُظهر أنه يعلمه فقال: يا هذا أنا قصدي كف ألسنة الناس عن لعنة خلفاء المسلمين وولاتهم وإلا فلو فتحنا هذا الباب لكان خليفة وقتنا أحق باللعن، فإنه يفعل أمورًا منكرة أعظم مما فعله يزيد، فإن هذا يفعل كذا ويفعل كذا وجعل يعدد مظالم الخليفة حتى قال له ادع لي يا شيخ وذهب"
(1)
.
وقال ابن مفلح: "قال الشيخ تقي الدين: فصار للأصحاب في الفساق ثلاثة أقول:
أحدها: المنعُ عمومًا وتعيينًا إلا برواية النص.
والثاني: إجازتها.
والثالث: التفريقُ وهو المنصوص.
لكن المنع من المعين هل هو: منع كراهة، أو منع تحريم؟ ثم قال في الرد على الرافضي: لا يجوز واحتج بنهيه عليه السلام عن لعنة الرجل الذي يدعى حمارًا، وقال: هنا ظاهر كلامه الكراهة، وبذلك فَسَّرَهُ القاضي فيما بَعْدُ لمّا ذكر قول أحمد: لا تعجبني لعنة الحَجَّاج ونحوه، لو عَمَّ فقال: ألا لعنةُ الله على الظالمين"
(2)
.
والفاسق المعين قد يكون قام به من الأعمال القلبية والبدنية ما يمنع لحوق اللعنة به - فقد تكون له مع الله توبة، أو حسنات ماحية، أو يصاب بمصائب مكفرة من عقوبات الدنيا، وقد يحصل له في البرزخ من الشدة أو في عرصات القيامة ما يكون سبب لزوال العقوبة عنه - وقد تزول بدعاء المؤمنين كالصلاة عليه وشفاعة الشفيع المطاع.
قال ابن تيمية: "
…
فإن ما أمر الله به من حقائق الإيمان التي بها يصير العبد من المؤمنين حقًّا أعظم نفعًا من نفع ترك بعض الذنوب الظاهرة كحب الله ورسوله فإن هذا أعظم الحسنات الفعلية حتى ثبت في الصحيح أنه كان على عهد النبي
(1)
منهاج السنة النبوية 4/ 573، 575.
(2)
الآداب الشرعية 1/ 289.