الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
193 - الظن بالله
حسن الظن بالله تعالى من أعلى المقامات الإيمانية، أما إساءة الظن به فقد ذمه الله وذكر أنه من صفات المشركين والمنافقين قال تعالى:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6] وتقدم أن التسخط من أقدار الله يتنافى مع كمال التوحيد. وكثير من الناس قصروا مقام الظن بالله تعالى، بل إن أغلبهم وقع في ضده من إساءة الظن بربهم عز وجل.
فيجب حسن الظن بالله قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: "لأن ذلك من واجبات التوحيد، ولذلك ذم الله من أساء الظن به، لأن مبنى حسن الظن على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة المتوكل عليه، فإذا تم العلم بذلك أثمر له حسن الظن بالله. وقد ينشأ حسن الظن من مشاهدة بعض هذه الصفات وبالجملة فمن قام بقلبه حقائق معاني أسماء الله وصفاته، قام به من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة، لأن كل صفة لها عبودية خاصة، وحسن ظن خاص"
(1)
.
* الدليل من الكتاب: قال تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ
* تيسير العزيز الحميد ص 685. فتح المجيد ص 561. حاشية كتاب التوحيد لابن قاسم ص 385. القول المفيد لابن عثيمين ط 1 - 3/ 143، ط 2 - 3/ 179 ومن المجموع 10/ 969. القول السديد لابن سعدي المجموعة 3/ 50. الآثار الواردة في سير أعلام النبلاء د: جمال بن أحمد 167.
(1)
تيسير العزيز الحميد 685.
فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] وقال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6].
* الدليل من السنة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الله عز وجل: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأنا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي في نَفسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"
(1)
.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله الأنصَارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ مَوْتِهِ بثَلاثَةِ أيَّامٍ يَقُولُ: "لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُم إِلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بالله عز وجل"
(2)
.
وفي قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} قال ابن القيم: "فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمر سيضمحل، وأنه يسلِمه للقتال وقد فُسِّر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره ولا حكمه له فيه ففُسِّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أنُ يُتِمَّ أمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم ويظهره على الدين كله وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون والمشركات به سبحانه وتعالى في (سورة الفتح) حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ
(1)
أخرجه مسلم (2675).
(2)
أخرجه مسلم (2877).
وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)} [الفتح: 6]
…
فمن ظن به أنه لا ينصر رسوله ولا يُتمَّ أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائه ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا؛ فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته
…
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءَه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته، فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركهم هملًا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب بها دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صِدْقَه وصِدقَ رسله وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد أو أنه يعاقبه بما لا صنع فيه ولا اختيار له ولا قُدرةَ ولا إرادةَ في حصوله بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به فقد ظن به ظن السوء
…
ومن ظن به أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا يسخط ولا يوالي ولا يعادي ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين بها القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه
المفلحين فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين أو يفرق بين المتساويين من كل وجه أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبد الآبدين بتلك الكبيرة ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين وقد استنفد ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء. وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسلُه أو عطَّل حقائقَ ما وصف به نفسه ووصفته به رسله فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أن له ولدا أو شريكًا أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويتوسلون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه فيدعونهم ويحبونهم كحبه ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما يناله بطاعته والتقرب إليه فقد ظن به خلاف حكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته وهو مِن ظن السوء، ومن ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يعوضه خيرًا منه أو من فعل لأجله شيئًا لم يعطه أفضل منه فقد ظن بن ظن السوء، ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله فقد ظن به ظن السوء وظن به خلاف ما هو أهله، ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه بما يثيبه به إذا أطاعه وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله، ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه ثم اتخذ من دونه وليًا ودعا من دونه ملكًا أو بشرًا حيًا أو ميتًا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به ظن السوء وذلك
زيادة في بعده من الند وفي عذابه، ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أعداءه تسليطًا مستقرًا دائما في حياته وفي مماته وابتلاه بهم لا يفارقونه فلما مات استبدوا بالأمر دون وصية وظلموا أهل بيته وسلبوهم حقهم وأذلوهم، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائما من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق وهو يرى قهرهم لهم وغصبهم إياهم حقهم وتبديلهم دين نبيهم، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده ولا ينصرهم ولا يديلهم بل يديل أعداءهم عليهم أبدًا، أو أنه لا يقدر على ذلك بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم في ذلك:
فإن تنجُ منها تنج من ذي عظيمة
…
وإلا فإني لا إِخالك ناجيا
فليعتنِ اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء ومنبع كل شر المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كذلك كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى.
فلا تظنُنَّ بربكَ ظنَّ سَوْء
…
فإن الله أولى بالجميلِ
ولا تظنُنَّ بنفسكَ قطَّ خيرًا
…
وكيف بظالمِ جان جهولِ
وقُلْ يا نفس مأوى كلِّ سوءٍ
…
أيُرجى الخيرَ من مَيْتٍ بخيلِ
وظُنَّ بنفسكَ السُّوآى تجدها
…
كذاكَ وخيرها كالمستحيلِ
وما بك من تُقىً فيها وخيرٍ
…
فتلكَ مواهبُ الربِّ الجليلِ
وليس بها ولا منها ولكِن
…
من الرحمنِ فاشكُر للدليلِ"
(1)
وكلامه المنقول قد ذكر بعضه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد. قال الشيخ ابن عثيمين معلقا على ذلك: "وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور:
الأول: أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح 12].
الثاني: أن ينكر أن يكون ما جرى بقضاء الله وقدره، لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته.
الثالث: أن ينكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق الحمد، لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبا وسفها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئا أو يشرعه إلا لحكمة قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافًا كبيرًا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله، سبحانه وتعالى.
ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالوا: لأنه لا يسأل عما يفعل، وهذا من أعظم سوء الظن بالله، لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيهًا؛ فما بالك بالخالق الحكيم؟. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا
(1)
زاد المعاد 3/ 228 إلى 236.