الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - أن لا يَتَعَوَّد اللسان على السب واللعن:
لأن استمراء ذلك واعتياده يجعل الإنسان لا يتعاظم أنْ يلعن غير الكافر بغير حق وفي قول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم "مَهْ يَا عَائِشَة فَإِنَّ الله لَا يُحِبّ الفُحْش وَالتَّفَحُّش" قال النووي: ""مَهْ" كَلِمَة زَجْر عَنْ الشَّيْء. وَأَمَّا الْفُحْش فَهُوَ الْقَبِيح مِنْ الْقَوْل وَالْفِعْل. وَقِيلَ: الْفُحْش مُجَاوَزَة الْحَدّ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث اسْتِحْبَاب تَغَافُل أَهْل الْفَضْل عَنْ سَفَه الْمُبْطِلِينَ إِذَا لَمْ تترتَّب عَلَيْهِ مَفْسَدَة"
(1)
.
وقال الحافظ: "وَالَّذِي يَظْهَر أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ أَنْ لا يَتَعَوَّدِ لِسَانهَا بِالْفُحْشِ، أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهَا الإِفْرَاط فِي السَّبّ"
(2)
.
4 - النهي عن ذلك وبيان ما جاء في قول الله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها سنين كسني يوسف، يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: "اللهم العن فلانًا وفلانًا" لأحياء من العرب حتى أنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية"
(3)
.
وروى أنس رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد شج وجهه فجعل يسلت الدم على وجهه ويقول: "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله عز وجل" فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} "
(4)
.
(1)
شرح النووي على صحيح مسلم 14/ 147.
(2)
فتح الباري 11/ 43.
(3)
أخرجه البخاري (4560)، ومسلم (675).
(4)
أخرجه مسلم (1791).
قال الطحاوي: "فتأملنا هذه الآثار وكشفناها لِنَقفَ على الأَوْلى منها بما نزلت فيه هذه الآيةُ من المعنيين المذكورين فيها، فاحتملَ أن يكون نزولُها في وقتٍ واحد يُرادُ بها السببان المذكوران في هذه الآثار، فوجدنا ذلك بعيدًا في القلوب، لأن غزوة أحد كانت في سنة ثلاثِ، وفتح مكة كان في سنة ثمانِ، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم كان لمن دَعَا له في صلاته قبلَ فتح مكة، فبعيدٌ في القلوبِ أن يكونَ السببان اللذان قيل إن هذه الآية نزلتْ في كل واحد منهما كانَ نزولُها فيهما جميعًا.
واحتملَ أن يكونَ نزولُها كان مرتين: مرةً في السبب الذي ذَكَرَ عبدُ الله بن عُمر، وعبدُ الرحمن بن أبي بكر: أَنَّ نزولَها كان فيه، ومرةَّ في السبب الذي ذَكَرَ أنسٌ أَنَّ نزولَها فيه، فدخل على ذلك ما نفاهُ لأنه لو كانَ ذلك كذلك لكانت موجودةً في القرآن في موضعين، كما وُجِدَت {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية في موضعين: أحدهما في سورة براءة [73]، والآخر في سورة التحريم [9]، ولَمَّا لم يكنْ ذلك كذلك في الآية المَتْلُوّة في هذه الآثار، بَطَلَ هذا الاحتمال أيضًا.
واحتملَ أن يكونَ نزلتْ قُرآنًا لواحدِ من السببين المذكورين في هذه الآثار، والله أعلمُ بذلك السبب أيُّهما هو؟ ثم أُنزَلت بعدّ ذلكَ للسببِ الآخر، لا على أَنَّها قُرآن لاحقٌ لما نَزَلَ فيه من القرآن، ولكن على إعلام الله تعالى نبيَّه عليه السلام بها أنه ليسَ له من الأمر شيء، وأن الأمور إلى الله تعالى وحده، يتوب على من يشاء، ويعذب من يشاء، ولم نجد من الاحتمالات لما في هذه الآثار أحسنَ من هذه الاحتمال، فهو أولاها عندنا بما قيل في احتمال نزول الآية المتلوة فيها بها، والله نسأله التوفيق"
(1)
.
وقال الحافظ في الفتح: "يحتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعًا فإنهما كانا في
(1)
شرح مشكل الآثار 2/ 42 - 44.
قصة واحدة"
(1)
. وقال: "ووقع في رواية يونس عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة نحو حديث ابن عمر لكن فيه اللهم العن لحيان ورعلا وذكوان وعصية قال ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال: وهذا إن كان محفوظًا احتمل أن يكون نزول الآية تراخى عن قصة أحد؛ لأن قصة رعل وذكوان كانت بعدها - وفيه بعد والصواب أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم بسبب قصة أحد والله أعلم"
(2)
.
وفي معنى الآية: قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "قوله فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} قال ابن عطية: كان النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم فقيل له بسبب ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي عواقب الأمور بيد الله فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء لربك. وقال غيره: المعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء وإنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم فعلى هذا يكون قوله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} اعتراض المعطوف والمعطوف عليه وقال ابن إسحق أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم"
(3)
.
وقال الحافظ المباركفوري: "أي لست تملك إصلاحهم ولا تعذيبهم بل ذلك ملك الله فاصبر أو يتوب عليهم بإسلام أو يعذبهم بالقتل والأسر والنهب فإنهم ظالمون بالكفر والمعنى أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك أو
(1)
فتح الباري 7/ 365.
(2)
فتح الباري 7/ 366.
(3)
تيسير العزيز الحميد ص 218.
الهزيمة أو التوبة إن أسلموا أو العذاب إن أصروا على الكفر"
(1)
.
وروى الإمام أحمد عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم العن فلانًا، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية". قال: فنزلت هذه الآية {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فتيب عليهم كلهم"
(2)
.
وقال الحافظ ابن حجر معلقًا على الحديث السابق: "والثلاثة الذين سماهم قد أسلموا يوم الفتح، ولعل هذا هو السر في نزول قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} "
(3)
.
وقال الإمام ابن خزيمة بعد أن ذكر الأحاديث في ذلك: "ففي هذه الأخبار دلالة على أن اللعن منسوخ بهذه الآية لا أن الدعاء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن كان في أيدي أهل مكة من المسلمين أن ينجيهم الله من أيديهم، إذ غير جائز أن تكون الآية نزلت {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} في قوم مؤمنين في يدي قوم كفار يعذبون، وإنما أنزل الله عز وجل هذه الآية {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فيمن كانوا يدعو النبي صلى الله عليه وسلم عليهم باللعن من المنافقين والكفار فأعلمه الله عز وجل أن ليس للنبي صلى الله عليه وسلم من الأمر شيء في هؤلاء الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يلعنهم في قنوته وأخبر أنه إن تاب عليهم فهداهم للإيمان أو عذبهم على كفرهم ونفاقهم فهم ظالمون وقت كفرهم ونفاقهم لا من كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم من المؤمنين أن ينجيهم من أيدي أعدائهم من الكفار، فالوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش
(1)
تحفة الأحوذي 8/ 282.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (5674).
(3)
فتح الباري 7/ 366.
بن أبي ربيعة والمستضعفون من أهل مكة لم يكونوا ظالمين في وقت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينجيهم من أيدي أعدائهم الكفار ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لهم بالنجاة من أيدي كفار أهل مكة إلا بعدما نجوا من أيديهم لا لنزول هذه الآية التي نزلت في الكفار والمنافقين الذين كانوا ظالمين لا مظلومين ألا تسمع خبر يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلم يدع لهم فذكرت ذلك له فقال أوما تراهم قد قدموا فأعلم صلى الله عليه وسلم أنه إنما ترك القنوت والدعاء بأن نجاهم الله إذ الله قد استجاب لهم فنجاهم لا لنزول الآية التي نزلت في غيرهم ممن هو ضدهم إذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينجيهم مؤمنون مظلومون، ومن كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم باللعن، كفار ومنافقون ظالمون فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يترك لعن من كان يلعنهم وأعلم أنهم ظالمون وأن ليس للنبي صلى الله عليه وسلم من أمرهم شيء وأن الله إن شاء عذبهم أو تاب عليهم فتفهموا ما بينته تستيقنوا بتوفيق خالقكم غلط من احتج بهذه الأخبار أن القنوت من صلاة الغداة منسوخ بهذه الآية"
(1)
.
وقال شيخ الإسلام: "وليس لأحد أن يحتج على النسخ (أي نسخ القنوت) بما في الصحيحين عن ابن عمر أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: "اللهم العن فلانًا وفلانًا وَفلانًا بَعد ما يقول: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} فإن هذا إنما يدل على ترك اللعنة لهم لكونه ليس له من الأمر شيء لجواز توبتهم، وهذا إذا كان نهيا فلا فرق فيه بين الصلاة وخارج الصلاة والكلام إنما هو في الدعاء الجائز خارج الصلاة كالدعاء لمعينين مستضعفين والدعاء على معينين من الكفار بالنصرة عليهم لا باللعنة ونحو ذلك"
(2)
.
(1)
صحيح ابن خزيمة 1/ 316.
(2)
مجموع الفتاوى 21/ 156.