الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
239 - كفر النعمة
*
النعم كلها من عِنْد الله تعالى ونكرانها وعدم القيام بطاعة المُنعِمِ بها محرم ويطلق عليه العلماء (كفر دون كفر) أو الكفر الأصغر وهو لا يوجب الخلود في النار بل قد يغفره الله عز وجل كما يغفر سائر المعاصي، لكن صاحبه على خطر.
قال في التعريفات: "الكفران: ستر نِعمة المُنْعِم بالجحو، أو بعمل هو كالجحود في مخالفة المنعم"
(1)
.
ويطلق على إضافة النعم لغير الله بالقول كفر لأنه تناسى المنعم الحقيقي ولم يقم بالشكر الذي هو من أجل العبادات.
قال ابن رجب: "فإضافة النعم إلى غير المنعم بها بالقول كفر للمنعم في نعمه وإن كان الاعتقاد يخالف ذلك"
(2)
.
* الدليل من الكتاب: قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل.112]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي
* التمهيد لابن عبد البر 16/ 284، 23/ 265. شرح مسلم للنووي 2/ 60، الباري لابن رجب 3/ 336. شرح مسائل الجاهلية للألوسي ص 67، 589، 633. تيسير العزيز الحميد ص 633، فتح المجيد ص 483، 517، حاشية كتاب التوحيد لابن قاسم ص 297، 324، القول المفيد لابن عثيمين ط 1 - 2/ 311، 3/ 39، ط 2 - 2/ 375، 3/ 48 ومن المجموع 10/ 784، 865. القول السديد لابن سعدي المجموعة 3/ 41، 45. شرح مسائل الجاهلية 1/ 483.
(1)
التعريفات ص 237.
(2)
شرح البخاري 6/ 337.
إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50].
وفي قوله تعالى: {هَذَا لِي} قال مجاهد: "أي بعملي، وأنا محقوق بهذا"
(1)
.
وقال ابن جرير: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} عند الله، لأن الله راض عني برضاه عملي، وما أنا عليه مقيم"
(2)
.
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] قال ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى مخبرًا عن الإنسان أنه في حال الضراء يتضرع إلى الله وينيب إليه ويدعوه، وإذا خوله نعمة منه بغى وطغى، وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي لما يعلم الله تعالى من استحقاقي له، ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا. قال قتادة: على علم عندي على خير عندي"
(3)
.
وفي تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49]. قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره فإذا أصاب الإنسان بؤس وشدة دعانا مستغيثا بنا من جهة ما أصابه من الضر {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} يقول ثم إذا أعطيناه فرجًا مما كان فيه من الضر بأن أبدلناه بالضر رخاء وسعة وبالسقم صحة وعافية فقال إنما أعطيت الذي أعطيت من الرخاء والسعة في المعيشة والصحة في البدن والعافية على علم عندي يعني على علم من الله بأني له أهل لشرفي ورضاه بعملي عندي يعني فيما
(1)
تفسير ابن جرير الطبري 25/ 3.
(2)
تفسير ابن جرير الطبري 25/ 3.
(3)
تفسير ابن كثير 4/ 58.
عندي
…
وقال مجاهد في قوله: {أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي على شرف أعطانيه"
(1)
.
قال ابن عثيمين: "معنى الآية يدور على وجهين:
الوجه الأول: أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته.
الوجه الثاني: أنه أنكر أن يكون لله الفضل، وكأنه هو الذي الفضل على الله، لأن الله أعطاه ذلك لكونه أهلا لهذه النعمة.
فيكون على كلا الأمرين غير شاكر لله عز وجل والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله، فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها، بل كل ما نحصل عليه من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله، فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله سبحانه، قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل 530] حتى ولو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله عز وجل
…
"
(2)
.
* الدليل من السنة: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك قال: لون حسن وجلد ويذهب عني الذي قذرني الناس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره فأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، قال: فأي المال أحب إليك قال: الإبل أو البقر - شك إسحاق - فأعطي ناقة عشراء. وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي أحب إليك، قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه وأُعطي شعرًا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك قال: البقر أو الإبل فأعطي بقرة حاملا
(1)
تفسير ابن جرير الطبري 24/ 12.
(2)
مجموع الفتاوى لابن عثيمين 10/ 868. وانظر: القول المفيد لابن عثيمين ط 1 - 3/ 42.
قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك. قال: أن يرد الله إليّ بصري فأبصر به الناس، فمسحه فردّ الله بصره، قال: فأي المال أحب إليك قال الغنم فأعطي شاة والدا، فأنتج هذان وولّد هذا فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللّون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلّغ به في سفري فقال: الحقوق كثيرة، فقال: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله عز وجل المال، فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته فقال: له مثل ما قال لهذا وردّ عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت، قال: وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فردّ الله إليّ بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت. فوالله لا أجهدك بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك"
(1)
.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله: "وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر، فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمته، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أديا حق الله، فحل عليهما السخط. وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضى من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها، وهي: الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى
(1)
أخرجه البخاري (3464)، (6653)، ومسلم (2964).
المنعم، وبذلها فيما يحب.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل، والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلًا بها، لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها، لم يشكرها أيضًا، ومن عرف النعمة والمنعم، لكن جحدها كما يجحدها المنكر لنعمة المنعم عليه بها، فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه، لم يشكره أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها. فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له"
(1)
.
وبوب الشيخ محمد بن عبد الوهاب بباب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل.83]. فقال الشيخ سليمان بن عبد الله: "المراد بهذه الترجمة التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية، كنسبة النعم إلى غير الله؛ فإن ذلك باب من أبواب الشرك الخفي، وضده باب من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعًا: "من أولي معروفًا فلم يجد له جزاء إلا الثناء فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره"
…
ونقل في معنى قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قول ابن جرير "هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها وسرابيل الثياب، والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم"
(2)
.
(1)
تيسير العزيز الحميد 627، 628، طبع المكتب الإسلامي.
(2)
تيسير العزيز الحميد ص 589، تفسير ابن جرير الطبري 14/ 157.
قال ابن القيم ما معناه: "لما أضافوا النعمة إلى غير الله فقد أنكروا نعمة الله بنسبتها إلى غيره، فإن الذي يقول هذا جاحد لنعمة الله عليه غير معترف بها، وهو كالأبرص والأقرع اللذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكراها وقالا: إنما ورثنا هذا كابرًا عن كابر، وكونهما موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم إذ أنعم بها على آبائهم ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه"
(1)
.
ففي قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} قال عون بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا"، وعلَّق على قوله هذا الشيخ ابن عثيمين فقال: "وهذا القول من قائله فيه تفصيل:
إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقًا مطابقًا للواقع، فهذا لا بأس به.
وإن أراد بها السبب، فلذلك ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون سببًا خفيًا لا تأثير له إطلاقًا، كأن يقول: لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا؛ فهذا شرك أكبر لأنه يعتقد بهذا القول أن لهذا الولي تصرفًا في الكون مع أنه ميت، فهو تصرف سري خفي.
الثانية: أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعًا أو حسًا؛ فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه، وأن لا يتناسى المنعم بذلك.
الثالثة: أن يضيفه إلى سبب ظاهر، لكن لم يثبت كونه سببًا لا شرعًا ولا حسًا؛ فهذا نوع من الشرك الأصغر، وذلك مثل: التَولة، والقلائد التي يقال: أنها تمنع العين، وما أشبه ذلك؛ لأنه أثبت سببًا لم يجعله الله سببًا، فكان مشاركًا لله في إثبات الأسباب"
(2)
.
وقال في موضع آخر: "أما الاعتماد على السبب الشرعي أو الحسي المعلوم، فقد تقدم أنه لا بأس به وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" لكن
(1)
تيسير العزيز الحميد ص 589، 590.
(2)
القول المفيد على كتاب التوحيد من مجموع فتاوى ابن عثيمين 10/ 787.
قد يقع في قلب الإنسان إذا قال: لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا، قد يقع في قلبه شيء من الشرك بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب وهو الله عز وجل
(1)
.
ومنعه في "التيسير" حيث نهى عن إضافة النعم لغير الله ولو كان المنعم سببًا حقيقيًا واستدل بالحديث المخرج في الصحيحين عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنْ الليْلَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَال رَبُّكُمْ؟ " قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وكافر، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ"
(2)
. قال الشيخ سليمان بن عبد الله "
…
فيكون نسبة ذلك إلى طيب الريح وحذق الملاح من جنس نسبة المطر إلى الأنواء وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك دون خلق الله وأمره، وإنما أراد أنه سبب لكن لا ينبغي أن يضيف ذلك إلا إلى الله وحده؛ لأن غاية الأمر في ذلك أن يكون الريح والملاح سببا أو جزء وسبب ولو شاء الرب تبارك وتعالى لسلبه سببيته فلم يكن سببا أصلًا فلا يليق بالمنعم المطلوب منه الشكر أن ينسى من بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير ويضيف النعم إلى غيره بل يذكرها مضافة منسوبة إلى مولاها والمنعم بها وهو المنعم على الإطلاق كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله} ، فهو المنعم بجميع النعم في الدنيا والآخرة وحده لا شريك له فإن ذلك من شكرها وضده من إنكارها"
(3)
.
(1)
مجموع الفتاوى لابن عثيمين 10/ 795. وانظر: القول المفيد لابن عثيمين ط 1 - 2/ 322.
(2)
أخرجه البخاري (846)(1038)(4147)(7503)، ومسلم (71).
(3)
تيسير العزيز الحميد ص 592.