الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يغمروكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون"
(1)
.
وقال محمد بن مخلد العطار: "سمعت إبراهيم الحربي يقول: لا أعلم عصابة خير من أصحاب الحديث، إنما يغدو أحدهم، ومعه محبرة، فيقول: كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف صلى، إياكم أن تجالسوا أهل البدع، فإن الرجل إذا أقبل ببدعة ليس يفلح"
(2)
.
وموضوع "هجر المبتدع" يجب أن يفهم ضمن منهج أهل السنة والجماعة بمراعاة مقاصده، وأحكامه، وضوابطه الشرعية المبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد.
والناس في هذا الباب بين إفراط وتفريط. فمنهم من يعرض عنه، ولا يعلمه ألبتة، أو يقصّر فيه. ومنهم من يبالغ فيه، ولا يراعى قواعده وأصوله؛ فتنشأ من ذلك وتترتب عليه مفاسد عظيمة، وهو من نقص الفقه والبصيرة في الدين.
*
ضوابط مهمة في الهجر
(3)
:
الأول: مراعاة المقصود الشرعي للهجر، وإدراك أنه عقوبة شرعية جعلت لزجر المبتدع وتأديبه، ورده عن غيه، ليتوب ويؤوب، ومنع بدعته من الفشو والانتشار في المجتمع المسلم، حتى لا تؤثر على كيانه وتماسكه، وتحفظ عليه دينه، وعقيدته.
(1)
حلية الأولياء 2/ 272، سير أعلام النبلاء 4/ 472.
(2)
سير أعلام النبلاء 13/ 358.
(3)
مستفاد من كتاب الآثار الواردة في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء 2/ 746 - 748، وقد اعتمد في صياغة هذه الضوابط على المصادر التالية:
أ - مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، المجلد الثامن والعشرون.
ب - الاعتصام للشاطبي.
ج - هجر المبتدع للشيخ بكر أبو زيد.
د - حقيقة البدعة وأحكامها للباحث سعيد بن ناصر الغامدي.
الثاني: هجر المبتدع قربة إلى الله، فلابد من مراعاة شرطي قبول الأعمال فيها، وهما: الإخلاص والمتابعة، والحذر من متابعة هوى النفس في ذلك.
الثالث: التأكد والتثبت قبل الإقدام على الهجر، من الأمور التالية:
أ - أن الأمر الذي وقع فيه مما دلت النصوص والقواعد الشرعية على بدعيته.
ب - ثبوته عنه، وعدم أخذ الناس بالتخرص والظن.
ج - خلوه من الموانع والأعذار، كالجهل والتأول ونحوهما.
الرابع: مراعاة المصلحة والمفسدة المترتبة على الهجر، ومراعاة قواعد الترجيح عند تعارض المصالح والمفاسد، بتحقيق أكمل المصلحتين، ودرء أعظم المفسدتين.
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله:"فإذا كانت المصلحة المبتغاة من الهجر معارضة بمفسدة راجحة من تفويت مصلحة أرجح من المصلحة المترتبة على هذا الهجر، أو حصول مفسدة أعظم هي أسخط لله من مفسدة هذه المخالفة، لم يشرع الهجر في هذه الحالة، وكان التأليف أنفع، وبمقاصد الشريعة أليق"
(1)
.
الخامس: مراعاة اختلاف مراتب البدعة، من جهة كونها كفرًا أو غير كفر، ومن جهة كون صاحبها مستترًا بها أو معلنًا لها، ومن جهة كونها حقيقة أو إضافية، ومن جهة اجتهاده فيها أو كونه مقلدًا، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه
(2)
.
السادس: مراعاة الأماكن التي ظهرت فيها البدعة، وحال أهل تلك البدعة، وحال الهاجرين لهم. ففرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، وبين الأماكن الأخرى التي ليست كذلك. وفرق في حال المهجور بين القوي في الدين وبين الضعيف فيه
(3)
.
(1)
المجموع الثمين 1/ 31، 32.
(2)
انظر: الاعتصام للشاطبي 1/ 167، 174.
(3)
فإن القوي في دينه يؤاخذ بأشد مما يؤاخذ به الضعيف فيه، كما في قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. انظر: فتح الباري لابن حجر 8/ 123.
ولا بد من مراعاة اختلاف حال الهاجرين أنفسهم، من حيث القوة والضعف، والقلة والكثرة.
فإذا كانت الغلبة والظهور لأهل السنة، كانت مشروعية "هجر المبتدع" قائمة على أصلها، وأما إن كانت القوة والكثرة لأهل البدع، ولا حول ولا: إلا بالله، فإنه لا يحصل المقصود الشرعي للهجر، فلا المبتدع ولا غيره يرتدع بذلك، بل يخشى من زيادة الشر وتفاقمه، وبالتالي لا يشرع الهجر، وإنما يلجأ إلى مسلك التأليف.
وفي كل هذه الأحوال لا بد من الدعوة إلى السنة والحث، والنهي عن البدعة والتحذير منها، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتالي هي أحسن، وتحمل الأذى في ذلك والصبر، باحتساب المثوبة والأجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:"فإذا لم يكن في هجرانه - أي المبتدع - انزجار أحد ولا انتهاء أحد بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها، لم تكن الهجرة مأمورا بها كما ذكره أحمد عن أهل خراسان إذ ذاك: أنهم لم يكونوا يقوون بالجهمية. فإذا عجزوا عن إظهار العداوة لهم، سقط الأمر بفعل هذه الحسنة. وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة، فلو ترك رواية الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم. فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب: كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرًا من العكس. ولهذا كان الكلام في هذه المسألة فيه تفصيل"
(1)
.
السابع: التفريق بين من كان داعية إلى بدعته، وبين من ليس كذلك.
(1)
مجموع الفتاوى 28/ 212. وانظر: 20/ 57، 58.
فالداعية إلى البدعة يزجر ويهجر، بخلاف غيره فإنه ينظر في حقه إلى الأمور السالفة الذكر
(1)
.
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن مقاطعة مرتكب الجريمة: ما موقف الداعية منها ولا سيما إن كان من الأقارب؟
الجواب: "هذا فيه تفصيل: يشرع هجره ومقاطعته إذا أعلن المنكر وأصر ولم ينفع فيه النصح شرع لقريبه أو جاره هجره، وعدم إجابة دعوته، وعدم السلام عليه، حتى يتوب لله هذا المنكر.
هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لما تخلف كعب بن مالك وصاحباه عن غزوة تبوك بغير عذر شرعي، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يُكَلَّمُوا ويُهجروا، فهُجروا جميعًا حتى تابوا وتاب الله عليهم.
أما إن كان هجر الشخص قد يترتب عليه ما هو أنكر من فعله، لأنه ذو شأن في الدولة أو ذو شأن في قبيلته، فيترك هجره ويعامل بالتي هي أحسن ويرفق به حتى لا يترتب على هجره ما هو شر من منكره وما هو أقبح من عمله، والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم. لم يعامل رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول بمثل ما عامل به الثلاثة وهم كعب وصاحباه، بل تلطف به ولم يهجره، لأنه رئيس قومه، ويخشى من سجنه وهجره فتنة للجماعة في المدينة، فلهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفق به حتى مات على نفاقه، نسأل الله العافية.
وهنا مواضع أخرى جرت للرسول صلى الله عليه وسلم على بعض الناس، لم يهجرهم بل رفق بهم حتى هداهم الله. فالرفق في الدعوة من ألزم أمورها، وبالله التوفيق"
(2)
.
وفى آخر هذا الباب يحسن بنا أن أن نقف مع كلامٍ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
(1)
الآثار الواردة ص 748.
(2)
مجموع فتاوى الشيخ ابن باز ص 617.
حيث سُئل عمَّن يجب أو يجوز بغضه وهجره، فكان من جوابه: "
…
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله.
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعًا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قومًا ويهجر آخرين، كما أن الثلاثة الذي خلفوا كانوا خيرًا من أكثر المؤلفة قلوبهم، لما كان أولئك سادة مطاعون في عشائرهم، فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم، وهؤلاء كانوا مؤمنين، والمؤمنون سواهم كثير، فكان في هجرهم عز الدين، وتطهيرهم من ذنوبهم، وهذا كما أن المشروع في العدو القتال تارة، والمهادنة تارة، وأخذ الجزية تارة، كل ذلك بحسب الأحوال والمصالح.
وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل، ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع، كما كثر القدر في البصرة، والتنجيم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم، وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه.
وإذا عرف هذا، فالهجرة الشرعية هي من الأعمال التي أمر الله بها رسوله، فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله، وأن تكون موافقة لأمره، فتكون خالصة لله صوابًا، فمن هجر لهوى نفسه، أو هجر هجرًا غير مأمور به: كان خارجًا عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه، ظانة أنها تفعله طاعة لله.
والهجر لأجل حظ الإنسان لا يجوز أكثر من ثلاث، كما جاء في الصحيحين
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث؛ يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" فلم يرخص في هذا الهجر أكثر من ثلاث، كما لم يرخص في إحداد غير الزوجة أكثر من ثلاث. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"تفتح أبواب الجنة كل اثنين وخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظِروا هذين حتى يصطلحا". فهذا الهجر لحق الإنسان حرام، وإنما رخص في بعضه، كما رخص للزوج أن يهجر امرأته في المضجع إذا نشزت، وكما رخص في هجر الثلاث.
فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله، وبين الهجر لحق نفسه، فالأول مأمور به، والثاني منهي عنه؛ لأن المؤمنين إخوة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم"، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن:"ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ " قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين". وقال في الحديث الصحيح: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية، فهو من جنس الجهاد في سبيل الله، وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، والمؤمن عليه أن يعادى في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 9 - 10] فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم.
فليتدبر المؤمن الفرقَ بين هذين النوعين. فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر، وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة: استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة"
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى 28/ 206 - 209.