الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
المقَدّمَة
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أَنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أَنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أَمَّا بعد:
فإنَّ موضوع هذا البحث هو: تَوْصِيف الأَقْضِيَة، الذي هو تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع القضائية، والذي تُحلَّى فيه الوقائع القضائية الثابتة بطرق الحكم المعتدّ بها بالأَوْصاف الشرعية المقررة في مُعَرِّفَات الحُكْم الكلي (1)، فتصير الأحكام الكلية مُنزَّلة على
(1) مُعَرِّفَات الحُكْم الكلي هي: السبب، والشرط، وعدم المانع، وسيأتي تفصيلها في الفصل الأول من الباب الأول.
الوقائع والأعيان بخصوصها بدلًا من بقائها عامة مجردة كائنة في الأذهان؛ إذ إنَّ الله- عز وجل إنَّما شرع الأحكام والتكاليف لتطبق على الأشخاص والأعيان وقائع حية، لا لتبقى في الأذهان صُوَرًا مثالية (1).
وهذا يكشف علاقة هذا الفن- تَوْصِيف الأَقْضِيَة- بغيره من علوم الشريعة؛ أصولًا وفقهًا، فإذا كان أصول الفقه يهدف إلى بيان صفة استنباط الأحكام الكلية من مصادرها الشرعية- الكتاب، والسُّنَّة، والِإجماع، والقياس، وغيرها-، وكان الفقه هو محصلة هذا الاستنباط، وهو حكم على أفعال العباد بوجوب، أَوْ حرمة، أَوْ كراهة، أَوْ استحباب، أَوْ إباحة، أَوْ صحة، أَوْ بطلان، أَوْ ثبوت ملك، أَوْ رفعه، أَوْ ضمان، أَوْ نفيه- فإنَّ فن تَوْصِيف الأَقْضِيَة موضوعَ بحثنا يضبط طريقة تنزيل الأحكام الكلية الفقهية على الوقائع القضائية.
ولتنزيل الأحكام على الوقائع قواعد وأصول ضابطة تعين القاضي والمفتي على التطبيق الصحيح للأحكام الشرعية على الوقائع؛ قضائية، أَوْ فتوية، وتقيه بتوفيق الله- عز وجل من التخبط والزلل، كما يحتاج القاضي فيه إلى بيان طريقة تقرير الحكم
(1) يطلق المثال على: صورة الشيء الذي يمثل صفاته [الوسيط لمجمع اللغة 2/ 854].
الكلي الملاقي للواقعة، وتفسيره، وتقرير الواقعة القضائية المؤثرة، وإثباتها، وتفسيرها، وطريقة تنزيل الحكم الكلي عليها، وهذا ما عُنِيَ به هذا البحث في الجانب القضائي، ويتبعه الجانب الفتوي.
وهذا الفن- تَوْصِيف الوقائع قضائية أَوْ فتوية- لا يستغني عنه القاضي ولا المفتي، وهو بمثابة أصول الفقه للمستنبط المقرر للأحكام الكلية، فهو يضبط اجتهاد القاضي والمفتي في تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع؛ قضائية أَوْ فتوية، كما يضبط أصول الفقه اجتهاد الفقيه المستنبط من الأَدِلَّة كتابًا وسنة وغيرها.
والوقوف على أصول هذا الفن- تَوْصِيف الأَقْضِيَة- وأحكامه مما يعين على صقل ملكة التطبيق لدى القاضي والمفتي لتُهيِّء صاحبها لتنزيل الأحكام الكلية على الوقائع، فتكون له ملكة قارَّة قادرة على الاهتداء لأحكامه، وإدراك الأحكام العارضة له، فيهتدي لمعاقده، ويتنبه لفروقه؛ لِإتقانه أصوله ومآخذه، وكثرة نظره فيه، وتردده في ممارسته حتى تكون مباشرته عنده سهلة ميسرة، وذلك من أنفس ما يُحصِّله المتدرب في كل فن، وهو من أنفس صفات متلقي الأحكام الشرعية لتنزيلها على الوقائع في الفتيا والقضاء؛ لأَنَّ ثمرة كل علم تطبيقُه.
وقد تناول بعض جوانب هذا الفن- تَوْصِيف الوقائع فتوية أَوْ قضائية- الِإمامُ الشاطبي (ت: 790 هـ) رحمه الله في كتابه:
"الموافقات" وبخاصة ما ذكره في كتاب الاجتهاد- وهو القسم الخامس من "الموافقات" - عند حديثه عن تحقيق المناط الذي لا ينقطع حتى فناء الدنيا.
كما تناول بعض جوانبه العلامة ابن خلدون (ت: 808 هـ) رحمه الله في كتابه: "مزيل الملام عن حكام الأنام"، فقد أشار إلى بعض فروع التَّوْصِيف القضائي إشارات مختصرة.
وما ورد في المرجعين السابقين ينير الطريق لمن يبحث في هذا الفن ويبتغي تأصيله وتقعيده.
ولا تخلو بعض كتب السابقين في أدب القضاء والفتيا من إشارات في هذا المجال.
وقد تناول الدكتور عبد المجيد بن عمر النجار (معاصر) فقه التطبيق لأحكام الشريعة عند الِإمام الشاطبي، وهو الفصل الرابع من كتابه:"فصول في الفكر الِإسلامي بالمغرب"، وقد رتب ما كتبه الِإمام الشاطبي عن الاجتهاد في التطبيق من كتابيه:"الموافقات" و"الاعتصام".
ومع أهمية ما ذكره العلماء السابقون- الشاطبي، وابن خلدون- إلَّا أَنه لا تزال في الموضوع زيادة لمستزيد؛ جمعًا، وتأصيلًا، وتقعيدًا، وتفريعًا، وتمثيلًا، وتنظيمًا، وترتيبًا، و"ليس على مستنبط الفنّ إحصاء مسائله، وإنما عليه تعيين موضع العلم،
وتنويع فصوله وما يتكلَّم فيه، والمتأخِّرون يلحقون المسائل من بعده شيئًا فشيئًا إلى أن يكمل، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216، 232، آل عمران: 66] " (1)، فوجب مواصلة سير العلماء السابقين، وكان هذا هو أحد الأسباب الباعثة على بحثه.
ينضاف إلى ذلك: حاجة القضاة والمفتين ممن هم في بداية عهدهم بالقضاء والفتيا إلى مؤلَّف يضم القواعد، والأصول، والفروع التي ترسم لهم طريق الفتيا والحكم، وتُعَرِّفُهم صفة تنزيل الأحكام على الوقائع، فتمهد الطريق لهم وتذلُله، وتطوي عنهم بعده، وتنير لهم جوانبه، وهذا ما عُنِيَ به هذا البحث.
ومما تجدر الِإشارة إليه عن بواعث الكتابة في هذا الموضوع أَنَّ اهتمامي به والتفكير في بحثه لم يكن وليد كتابته، بل كان اهتمامي به قديمًا قِدَم دخولي في ولاية القضاء بعد تكليفي بذلك فور تخرجي في كلية الشريعة بالرياض عام 1398 هـ، فقد عملت ملازمًا قضائيًّا - قاضيًا متدربًا- لفترة امتدت حوالي ثلاثة أعوام، وكنت خلال هذه الفترة أرقب طريقة تطبيق الأحكام على الوقائع القضائية مما يقرره القضاة في المحاكم، ثم محاكم التمييز، ثم مجلس القضاء الأعلى، ثم بعد مباشرتي لأعمال القضاء- بعد انتهاء فترة التدريب- زاد اهتمامي بذلك؛ تطبيقًا، وقراءة؛ لأستعين بذلك على ما أنا فيه من
(1) المقدمة لابن خلدون 3/ 1365.
الفصل في الأقضية بين الناس، وكنت أدوِّن ما أقتنصه من قواعد، وفروع فقهية أَوْ إجرائية أَوْ تطبيقية حين القراءة؛ لأتذكرها متى احتجت، ولأستشهد بها متى احتججت، وقد اجتمع عندي من ذلك أصول وقواعد وفوائد تشجع على الكتابة في هذا الموضوع.
وقد كانت المصادر والمراجع التي أفدت منها في بحث هذا الموضوع متنوعة؛ أصولية، وفقهية، ولغوية، وغيرها مما هو مبين في فهرس المراجع.
فقد أفدت من الشاطبي فيما كتبه في: "الموافقات" عن الاجتهاد، بخاصة ما ذكره عن تحقيق المناط الذي لا ينقطع حتى فناء الدنيا، كما أفدت من كتابه المذكور في مواضع متفرقة.
كما أفدت من ابن خلدون في كتابه: "مُزِيل المَلام عن حُكَّام الأَنَام"، وأفدت مما كتبه الأصوليون في المباحث الأصولية التي تناولتها في هذا البحث.
كما أفدت مما كتبه علماء القواعد الفقهية فيما يتعلق بتفسير الوقائع، وأفدت من كتب اللغة فيما يتعلق بالتعريفات اللغوية، كما أفدت من كتب الفقه بعضَ القواعد الفقهية والأمثلة التفريعية، وغير ذلك من كتب أهل العلم في أدب الفتيا والقضاء، والتفسير وعلومه، وشروح الحديث، وكلُّ ذلك موضَّح في حواشي هذا البحث ومُبيَّن فيه تبيينًا موثقًا.