الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَمَّا السوابق القضائية فأبينها فيما يلي:
السوابق القضائية ووظيفتها في تقرير حكم الواقعة:
المراد بالسوابق القضائية: ما صدر من الأحكام القضائية على وقائع معينة لم يسبق تقرير حكم كلي لها.
إنَّ القضاء حيٌّ متحرك يتحرك مع الإِنسان؛ لأَنَّه يعيش معاناته، ويعالج أقضيته، فإذا حدث للقاضي من الأقضية ما لا قول فيه للعلماء، ثم اجتهد في تأصيلها، وتقعيدها، وحكم فيها فيكون ذلك أصلًا يستضيء به من بعده؛ ولذلك كان بعض الفقهاء إذا قرر حكمًا أَوْ رجحه يقول:"وعليه العمل"، فالسوابق القضائية إذا جرى تقعيدها، وتأصيلها، وصَحَّ مأخذها عُدَّت مستندًا للقاضي في حكمه القضائي في تقرير حكم الواقعة الكلي.
وقد كان القضاء بما قضى به الصالحون منهجًا عند سلفنا، فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيما روى عنه عبد الرحمن بن يزيد يقول:"من عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله، ولا قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه"(1).
(1) رواه النسائي 8/ 230، وهو برقم 5397، 5398، والبيهقي في السنن الكبرى =
ففي هذا الأثر دلالة على مكانة السوابق القضائية، ورجوعِ القاضي لها، واستنادِه إليها ما دام قد صَحَّ مأخذُها، وعُلم أصلُها، وبان تقعيدُها.
وقد ذكر الفقهاء أَنَّ من آداب القاضي كونَه مطَّلعًا على أحكام من قبله من القضاة، بصيرًا بها؛ كي يستضيء بها، ويستفيد منها (1).
وليحذر القاضي من السوابق القضائية ما لا أصل لها، أَوْ بأن من الأدلة ما هو أقعد منها (2)، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول:"لا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك، وهُديتَ فيه رشدك أَنْ تراجع فيه الحق، فإنَّ الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"(3).
= 10/ 115، قال عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول لابن الأثير 10/ 180: وإسناده حسن.
(1)
معين الحكام لابن عبد الرفيع 2/ 608، الروض المربع 7/ 524، فتاوى ورسائل 12/ 333.
(2)
إعلام الموقعين 1/ 110، القضاء في عهد عمر للطريفي 2/ 632، 1038.
(3)
رواه الدارقطني في سننه 2/ 111، وهو برقم 4426، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 150، وصححه الألباني في الإِرواء 8/ 241، وهو قطعة من خطاب عمر المُوَجَّه إلى أبي موسى الأشعري، والذي رواه أبو المليح الهذلي.
فائدة: كلمات لابن خلدون حول تقرير القاضي الحكمَ الفقهي للواقعة القضائية.
لقد ذكر ابن خلدون (ت: 808 هـ) طريقة تقرير القاضي للحكم الفقهي للنازلة في عبارات مختصرة محررة أحببت ذكرها مستقلة، يقول: "إذا تصور - يعني القاضي - الواقعةَ كالشمس ليس دونها سحاب فليميز بين ما اتفقا عليه واختلفا فيه، فإذا وضحت القضية جيدًا فحينئذ يستحضر قول الله العلي:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 48]
…
إذا تدبر ما أمره به الله - تعالى - فليستحضر حكم تلك الواقعة لا برأي واستحسان
…
بل بالنقل الصريح، أَوْ بذل الجهد في درك الحق من أهل الاجتهاد وبطرقه المعتبرة
…
وربما تركبت الواقعة من عدة أبواب فليفحص عن ذلك، وليميز لكل باب محله منها، ثم ينقح الواقعة بأخذ ما يتعين اعتباره وإلغاء ما لا مدخل له في الحكم بحذفٍ، إن اختل زلت قدم الحاكم؛ {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)} [القارعة: 9، 11]، ثم يطبق الحكم العدل على ما ينقح له، فإذا وضح له أَنه طبقه سواء كرر التأمل والتفحص حتَّى يتبين ذلك كالشمس المضيئة فحينئذ يحاول المصالحة بين الخصمين - ثم ذكر شيئًا من أحكام الصلح وموجباته - وقال: فإذا لم تبق مرية البتة استحضر قول الله - تعالى - لأعبد البشر داود - على نبينا وعليه الصلاة والسلام-: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)} [ص: 26]
…
إذا لم يتبين له القضاء، فإن كان لغبش في الواقعة استوضحها واستجلاها بالبحث، وإن كان لعدم استحضار الحكم، أَوْ اعتياص تطبيقه على الواقعة، أَوْ نحو ذلك راجع فيه من يثق بعلمه ودينه وعقله ولو في مدينة أخرى
…
وما من عجلة
…
ثم إذا رجع إليه الجواب كَرَّرَ النظر فيه، وراجع الكتب المعتمدة حتَّى يحضح الحال جدًّا" (1).
* * *
(1) مزيل الملام 113 - 120.