الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث استئناف النظر في حكم واقعة لتغيّر الأعراف والمصالح لا يُعَدُّ تغييرًا في أصل الخطاب الشرعي
مما سبق يتضح أَنّنا قد نجد في مُدَوَّنَات الفقهاء وكتبهم أحكامًا مبنية على أعراف طارئة، أَوْ مصالح مؤقتة، أَوْ خبرات وتجارب تغيرت، أَوْ أحوال للناس زالت وحَلَّ غيرها محلها، فهنا على الفقيه، والقاضي، والمفتي في مواجهة ذلك اعتبارُ هذه المسائل من النوازل المستجدة، والنظر استئنافًا في تقرير حكمها؛ لأَنَّ تغير الحكم لتغير العرف أَوْ المصلحة ونحو ذلك ليس تغييرًا في أصل الخطاب الشرعي، وإنَّما اختلفت صورة الواقعة فقرر الحكم الفقهي الملاقي لها، فالواقعة غير الواقعة، والحكم غير الحكم، بل المجتهد انتقل من حكم لآخر؛ لأَنَّ أصول الشريعة اقتضت له حكمًا قبل الانتقال، وحكمًا بعد الانتقال، فلا يقال: إنَّ الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان، بل باختلاف الصورة الحادثة (1).
(1) البحر المحيط للزركشي 1/ 166.
وعلى هذا تواردت كلمات كوكبة من المحققين، أذكر طرفًا منها:
قال الشاطبي (ت: 684 هـ): "واعلم أَنَّ ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد فليس في الحقيقة باختلاف في أصل الخطاب؛ لأَنَّ الشرع موضوع على أنَّه أبديٌّ دائمٌ، ولو فرض بقاء الدنيا من غير نهاية والتكليف كذلك لم يحتج الشرع إلى مزيد.
وإنَّما معنى الاختلاف أَنَّ العوائد إذا اختلفت رجعت كل عادة إلى أصل شرعي يحكم عليها، كما في البلوغ مثلًا؛ فإنَّ الخطاب التكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف، فسقوط التكليف قبل البلوغ ثم ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنَّما وقع الاختلاف في العوائد أَوْ الشواهد (1) وكذلك الحكم بعد الدخول بأَنَّ القول قول الزوج في دفع الصداق؛ بناءً على العادة، أَوْ أَنَّ القول قول الزوجة بعد الدخول - أيضًا -؛ بناءً على نسخ تلك العادة، ليس باختلاف في حكم، بل الحكم: أَنَّ الَّذي ترجح جانبه بمعهود أَوْ أصل فالقول قوله بإطلاق؛ لأَنَّه مدعى عليه، وهكذا سائر الأمثلة، فالأحكام ثابتة تتبع أسبابها حيث كانت بإطلاق" (2).
(1) مراده بالشواهد: القرائن الحالية - كما سوف يمثل -.
(2)
الموافقات 2/ 285، 286.
ويقول القرافي (ت: 684 هـ) فيما يروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنَّه قال: "تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور"(1)، يقول:"لم يُرِدْ رضي الله عنه نسخَ حكمٍ، بل المجتهد فيه ينتقل له الاجتهاد لاختلاف الأسباب"(2).
ويقول محمد الزرقاني (ت: 1122 هـ) - تعليقًا على قول مالك (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور)(3) - يقول: "وليس هذا من التمسك بالمصالح المباينة للشرع كما توهمه بعضهم، وإنَّما مراده أَنْ يحدثوا أمرًا تقتضي أصول الشريعة فيه غير ما اقتضته قبل حدوث ذلك الأمر، ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال"(4).
ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم (ت: 1389 هـ): "وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان، وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث، فإنَّه ما من قضية كائنة ما كانت إلَّا وحكمها في كتاب الله - تعالى -، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم نَصًّا، أَوْ ظاهرًا، أَوْ استنباطًا، أَوْ غير ذلك، عَلِمَ ذلك مَنْ عَلِمَه وجهله من جهله، وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال ما ظنه من قَلَّ
(1) ذكره القرافي في الفروق 4/ 179.
(2)
الفروق 4/ 179.
(3)
ذكره ابن حجر في الفتح 13/ 144، والزرقاني في شرح الموطأ 2/ 7.
(4)
شرح الموطأ 2/ 7.
نصيبهم، أَوْ عَدِمَ معرفةَ مدارك الأحكام وعِلَلَها، حيث ظنوا أَنَّ معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية؛ ولهذا تجدهم يخافون عليها، ويجعلون النُّصُوص تابعة لها منقادة إليها مهما أمكنهم، فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه، وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأقوال والأزمان، مراد العلماء منه ما كان مستصحبة فيه الأحوال الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم" (1).
وسرُّ المسألة: أَنَّ العرف، والمصلحة المؤقتة، ونحوها إنَّما هي مناطات الأحكام، فإذا تغير المناط المبني عليه الحكم السابق وجب استئناف النظر في حكم الواقعة المتغير مناطها.
فالأحكام الكلية الفقهية قارَّة لا تتغير، والمتغير هو مناط الواقعة، والمجتهد انتقل في الحكم عليها من أصل إلى آخر، والحكم السابق باقٍ للمسألة الأولى على مناطها السابق من أوصافها وأوضاعها الأولى لم ينسخ ولم يغير، والواقعة التي تغير مناطها تُوَاجَه باجتهاد جديد، ويقرر لها حكم مستأنف مبني على الاجتهاد الجديد.
* * *
(1) فتاوى ورسائل 12/ 288، 289.