الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني الحاجة إلى معرفة أعراف العرب حال النزول عند تفسير نُصُوص الأحكام الكلية
والمراد بأعراف العرب التي يُحتاج إلى معرفتها عند تفسير النُّصُوص: ما كان عليه العرب حال النزول من أعراف وعادات في أقوالهم، وأفعالهم، ومجاري أحوالهم، مما له تأثير في فهم النَّصّ وتفسيره وإن لم يكن ثمَّ سبب خَاصّ (1).
فقد يُشْكِل تفسير نَصٍّ من كتاب أَوْ سنة، فإذا وقف المفسر على حال العرب وعرفها وما كانت تفعله وتقوله وقت نزول القرآن أَوْ ورود الحديث كان ذلك كاشفًا لمعنى الآية أَوْ الحديث (2).
يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): "لا بُدَّ في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان
(1) مستفاد من الموافقات 3/ 351.
(2)
الموافقات 2/ 82، 3/ 351، مجموع الفتاوى 29/ 83 - 85، مذكرة الشنقيطي 221، رفع الحرج للباحسين 353.
للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يَصِحُّ العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثمَّ عرف فلا يَصِحُّ أَنْ يجرى في فهمها على ما لا تعرفه، وهذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب" (1).
ويقول أيضًا: "معرفة عادات العرب في أقوالها، وأفعالها، ومجاري أحوالها حالة التنزيل وإن لم يكن ثمَّ سبب خَاصّ لا بُدَّ لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلَّا وقع في الشبه والإِشكالات التي يتعذر الخروج منها بهذه المعرفة"(2).
فالعلم بأعراف العرب ومجاري أحوالها في كلامها وفعالها حال نزول القرآن وورود الحديث مما يساعد على كشف معنى النَّصّ وتفسيره ببيان مجمله، وتخصيصه، أَوْ تقييده، حيث ثبت ذلك العرف بطريق شرعي.
ولذلك أمثلة، منها ما يلي:
1 -
قوله- تعالى-: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33].
فظاهر الآية يَدُلُّ على المنع من الإِكراه على الزنى إذا كانت الأمة لا ترضاه، وهذا غير مراد قطعًا؛ لأَنَّ جريمة الزنى لا تجوز بحالٍ رضيت الأمة أَمْ لم ترض، وإنَّما جاء النهي بهذه الصيغة مراعاةً
(1) الموافقات 2/ 82.
(2)
الموافقات 3/ 351.
لما كان عليه العرب في أعرافهم وعاداتهم، فقد كان بعضهم يكرهون الإِماء على البغاء مع إرادتهن التعفف (1).
فعن جابر- رضي الله عنه: "أَنَّ جارية لعبد الله بن أبي سلول يقال لها: مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، كان يكرههما على الزنى، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله- سبحانه وتعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] "(2).
2 -
قوله- تعالى-: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)} [البقرة: 189].
فقد جاءت الآية مبينة جواز دخول الحاج بعد إحرامه لبيته من بابه، خلافًا لما كان عليه الأنصار؛ إذ كانوا إذا أحرموا بالحج ورجع أحدهم إلى بيته قبل تمام حجه لا يدخل من باب بيته، بل كان يتسنم من ظهر البيت (3)، فعن البراء أَنّه قال:"كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] "(4).
(1) العرف للمباركي 191.
(2)
رواه مسلم 4/ 2320، وهو برقم 3029/ 27.
(3)
تفسير القرطبي 2/ 344، تفسير الشوكاني 1/ 189.
(4)
متفق عليه، فقد رواه البخاري (الفتح 8/ 183)، وهو برقم 4512، ومسلم 4/ 2319، وهو برقم 23/ 3026.
فمعرفة هذه العادة عن العرب بينت معنى الآية وأوضحتها، وأظهرت فقه المسألة، فلا يحرم على الحاج الدخول من باب البيت وهو مُحْرِم بِنَصِّ القرآن.
3 -
قوله- تعالى-: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)} [النجم: 49]، قال الشاطبي:"فَعيَّن هذا الكوكبَ- وهو الشِّعْرَى- لكون العرب عَبَدَتَه وهم خزاعة، ابتدع ذلك لهم أبو كبشة، ولم تعبد العرب من الكواكب غيرها، فلذلك عينت"(1).
4 -
عن معمر بن عبد الله قال: "كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلًا بمثل"، قال: وكان طعامنا يومئذٍ الشعير (2).
قال الشنقيطي (ت: 1393 هـ): "فمن يقول بأَنَّ علة الربا غير الطعم خَصَّصَ عموم الطعام في هذا الحديث بالشعير؛ للعرف المقارن للخطاب"(3)؛ لأَنَّه إذا أُطْلِق (الطعامُ) عند الصَّحَابة في المدينة انصرف إلى الشعير.
* * *
(1) الموافقات 3/ 352.
(2)
رواه مسلم 3/ 1214، وهو برقم 1592.
(3)
مذكرة أصول الفقه 221.