الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقهية في الأذهان، ويكون هذا التنزيل كلِّيًّا له صفة العموم والتجريد مهيأً لتنزيله على وقائع لا حصر لها.
أَمَّا التَّوْصِيف القضائي والفتوي فيجري فيه تنزيل الحكم الكلي المقرر في الأذهان على وقائع بأعيانها وأشخاصها، فكأَنَّه تخصيص للحكم الكلي على هذه الواقعة (1).
(ب) أَنَّ التَّوْصِيف الفقهي مما يدخله التقليد، فإذا قال فقيه: إنَّ الكبش مثل الضبع تحقيقًا للمثلية المقررة في قوله- تعالى-: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] جاز تقليده في ذلك.
ولا يقلد في التَّوْصِيف الفتوي والقضائي؛ لأَنَّ مناط الواقعة القضائية أَوْ الفتوية الحادثة لم يتحقق قبل التَّوْصِيف، فكل صورة من الواقعة القضائية أَوْ الفتوية نازلة مستأنفة لم يتقدم لها نظير، ولو فرض أَنَّه تقدم مثلها للقاضي والمفتي فلا بُدَّ من النظر في كونها مثلها أوْ لا، وهذا تَوْصِيف مستأنف (2).
3 - الفرق بين التوصيف الفتوي والتوصيف القضائي:
هناك فروق بين التَّوْصِيف الفتوي والتَّوْصِيف القضائي، ويظهر ذلك في الأمور الآتية:
(1) الموافقات 4/ 89، 92.
(2)
الموافقات 4/ 91، 93، 94.
(أ) أَنَّ التَّوْصِيف الفتوي منزَّل على صدق المستفتي فيما يذكره من وقائع.
أَمَّا التَّوْصِيف القضائي فلا بُدَّ فيه من النظر في ثبوت الوقائع بطرق الحكم والإِثبات المقررة (1).
يقول عبد العزيز بن عبد السلام (ت: 660 هـ): "المفتي أسير المستفتي، والحاكم أسير الحجج الشرعية والظواهر"(2).
ولا يعني ذلك الاسترسال في تصديق كل مستفت فيما يقدمه من وقائع، بل لا بُدَّ من الاحتياط من تلاعب المتلاعبين، وكشف حيل المحتالين (3).
وقد أمر الله- عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالتثبُّت من أعذار المعتذرين بالتخلُّف عن غزوة تبوك الذين لَبِسوا الأعذار ولا عذر لهم (4)، فقال- تعالى-:{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)} [التوبة: 42، 43].
(1) الإِحكام للقرافي ص 26، 28، فتاوى السبكي 2/ 123، شرح عماد الرضا 1/ 59.
(2)
قواعد الأحكام 2/ 91.
(3)
الإِحكام للقرافي ص 118 - 119، إعلام الموقعين 4/ 229، الكشاف 6/ 299.
(4)
تفسير ابن كثير 2/ 374.
2 -
أَنَّ التَّوْصِيف الفتوي لا يترتب عليه إلزام حسي من المفتي، وإنَّما هو بيان لانطباق الأوصاف على الواقعة، وترتيب الحكم الكلي الفقهي من وجوب وإباحة وكراهة ونحوها من غير إلزام.
أَمَّا التَّوْصِيف القضائي فيزيد على ذلك بأَنَّه يترتب عليه إلزام من الحاكم بما تقرر في الحكم الكلي (1).
3 -
أَنَّ التَّوْصِيف الفتوي يجري فيما يترتب عليه الوجوب أَوْ الحرمة، أَوْ الإِباحة، أَوْ الندب، أَوْ الكراهة، أَوْ الصَحَّة، أَوْ البطلان.
أَمَّا التَّوْصِيف القضائي فلا يجري فيما يترتب عليه الندب أَوْ الكراهة؛ لأَنَّ الندب والكراهة حمل على الحث بالفعل أَوْ الترك من غير إلزام، والقضاء إجبار وإلزام (2).
4 -
أَنَّ التَّوْصِيف الفتوي يدخل جميع أبواب العلم؛ في العقائد، والعبادات، والمعاملات، وغيرها.
أَمَّا التَّوْصِيف القضائي فلا يدخل مسائل العلم الكلية كالتنازع في معنى آية أَوْ حديث، أَوْ حكم كلي، كتحريم السباع، وطهارة الأواني والمياه، ونحو ذلك مما يختلف فيه أهل العلم.
(1) فتاوى السبكي 2/ 122 - 123، شرح عماد الرضا 1/ 59.
(2)
بداية المجتهد 2/ 475، الإِحكام للقرافي ص 34.
كما لا يدخل التَّوْصِيف القضائي في العبادات صِحَّةً وفسادًا، وأسبابها وشروطها وموانعها، فالعبادات تَصْحِيحًا وإبطالًا ليست محلًا للقضاء، بل هي محل للفتيا، فلا يحكم القاضي بأَنَّ خروج الدم ينقض الوضوء أَوْ أَنَّه لا ينقضه، نَعَمْ يحكم القاضي بإلزام من امتنع عن أداء الزكاة، وليس ذلك من الحكم في صِحَّة العبادة أَوْ بطلانها.
كما لا يدخل التَّوْصِيف القضائي مسائل العقيدة، كتنازع الناس في الاستواء؛ لأَنَّ حكم الحاكم بصِحَّة هذا أَوْ ذاك مما ليس فيه فائدة (1).
يقول القرافي (ت: 684 هـ): "حكم الحاكم إنَّما يؤثر إذا أنشأه في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية"(2).
وإنَّما لا يدخل التَّوْصِيف القضائي في هذه الأمور لأَنَّه لا إلزام فيها، فلا يتوجه النظر في توصيفها قضاء.
(1) موجبات الأحكام ص 191، معين الحكام للطرابلسي ص 39، 42، الفروق 4/ 48، تبصرة الحكام 1/ 79، 114، تهذيب الفروق 4/ 89، البهجة 1/ 35، الغياثي ص 198، عماد الرضا 1/ 303، مجموع الفتاوى 30/ 238، 27/ 297، 299، 35/ 360، الإِنصاف 11/ 314، مغنى ذوي الأفهام ص 232، مطالب أولى النهي 6/ 535.
(2)
الفروق 4/ 49، وانظر: تهذيب الفروق 4/ 91.
5 -
أَنَّ التَّوْصِيف الفتوي يدخل ما لا يثبت في الذمة ويسقط بفواته، مثل: رد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وإجابة الدعوة.
ولا يدخل التَّوْصِيف القضائي ذلك؛ لأَنَّه لا إلزام فيه (1).
* * *
(1) بداية المجتهد 2/ 475، شرح المنتهى 3/ 589، الكشاف 4/ 481.