الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يخالفه صحابي آخر، فهذا معدود من أدلة شرعية الأحكام، وهو حجة مقدم على القياس عند الأئمة الأربعة وأكثر الحنابلة (1).
8 - المصلحة المرسلة (الاستصلاح):
والمراد بها عند الأصوليين: كل منفعة داخلة في مقاصد الشرع دون أَنْ يكون لها شاهد خاص بالاعتبار أَوْ الإِلغاء (2).
فالعمل بها فيه رعاية للضروريات الخمس من الدين، والنفس، والعقل والعرض، والمال في جانب الوجود والعدم، في النفع جلبًا، وفي الضر دفعًا، وذلك مثل جمع الصَّحَابَة للمصحف بعد وقعة اليمامة، وليس هناك نَصٌّ على جمعه حَثًّا أَوْ منعًا.
وقيل في المصلحة بأَنَّها مرسلة؛ إشارة إلى أَنَّه لم يجئ نَصٌّ خاص في اعتبارها أَوْ إلغائها؛ ذلك بأَنَّه إذا جاء نَصٌّ فيتبع ولا مقام للمصلحة، وإنَّما حجية المصلحة فيما أرسل عن النَّصّ الخاص، فيراعى فيها ما يصلح الضروريات الخمس جلبًا للمنفعة ودفعًا للمفسدة.
واختلف في الاعتداد بها دليلًا على شرعية الأحكام:
فذهب قوم إلى عدم الاستدلال بها، قال الشوكاني (ت: 1250 هـ): وإليه ذهب الجمهور.
(1) شرح الكوكب المنير 4/ 422، 2/ 212، شرح مختصر الروضة 3/ 185، أصول مذهب الإِمام أحمد 391.
(2)
ضوابط المصلحة للبوطي 33، الاستصلاح للزرقاء 39، أصول مذهب الإِمام أحمد 413.
وذهب آخرون إلى الاعتداد بها دليلًا من أدلة شرعية الأحكام مطلقًا، وهذا محكي عن مالك (ت: 179 هـ)، والشافعي (ت: 204 هـ) في القديم (1).
والذي يترجح عندي إعمالُها بشروط سوف نأتي على ذكرها، قال ابن دقيق العيد (ت: 702 هـ): "الذي لا شك فيه أَنَّ لمالك ترجيحًا على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في الاستعمال لها على غيرها"(2).
وقال القرافي (ت: 684 هـ): "هي عند التحقيق في جميع المذاهب "لأَنَّهم يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلَّا ذلك" (3).
وقال الشنقيطي (ت: 1393 هـ): "واعلم أَنَّ مالكًا يراعى المصلحة المرسلة في الحاجيات والضرويات كما قرره علماء مذهبه"(4)، وهكذا تراعى المصلحة في التحسينات؛ فيقدم
(1) إرشاد الفحول 42، 214، شرح الكوكب المنير 4/ 433، شرح مختصر الروضة 3/ 204، 209، الاعتصام 2/ 113، أصول مذهب الإِمام أحمد 413، 414، 420.
(2)
نقلًا عن البحر المحيط 6/ 77، وعن إرشاد الفحول 242.
(3)
نقلًا عن البحر المحيط 6/ 77، وعن إرشاد الفحول 242.
(4)
مذكرة أصول الفقه 169.
الضروري، ثم الحاجي، ثم التحسيني (1).
ويقدم ما تعلق بالدين، ثم النفس، ثم العقل، ثم العرض، ثم المال (2)، وهذا في الجملة؛ إذ للِإنسان أَنْ يقدم نفسه دون عرضه وماله، وإذا قتل فهو شهيد.
ويدل على حجية العمل بالمصلحة: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم ومنهم الخلفاء الراشدون عملوا بها في وقائع كثيرة مشتهرة مما طرأ لهم من حوادث وجَدَّ لهم من طوارئ لم يكن فيها نصٌّ ولا قياس، مثل: جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن في مجموعة واحدة، وتدوين عمر رضي الله عنه الدواوينَ في عهده (3).
شروط العمل بالمصلحة المرسلة:
يشترط للعمل بالمصلحة المرسلة ما يلي (4):
1 -
اندراجها في مقاصد الشرع العامة بأَنْ تكون ملائمة لمقاصد الشريعة ومحققه لها.
(1) الموافقات 2/ 21، المقاصد العامة 165.
(2)
الإِيضاح لابن الجوزي 177 - 178.
(3)
رحلة الحج إلى بيت الله الحرام للشنقيطي 175، أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها للربيعة 242.
(4)
الاعتصام 2/ 129، 133، ضوابط المصلحة للبوطي 115، 119، 129، 161، 216، 248، رسائل الإِصلاح 1/ 154، مقاصد الشريعة لليوبي 531، فتاوى ورسائل 12/ 121، الجريمة لأبو زهرة 282، 287.
2 -
عدم معارضتها للكتاب، أَوْ السُّنَّة، أَوْ الإِجماع، أَوْ لقياس أقوى منها.
3 -
أَنْ تكون فيما يعقل معناه من العاديات ونحوها، لا العبادات المحضة.
4 -
عدم تفويتها لمصلحة أهم منها.
5 -
أَنْ تكون عامة لا خاصة بشخص معين.
6 -
أَنْ يكون المقرر لها أهلًا للاجتهاد والاستنباط؛ لأَنَّ المصالح تحتاج إلى معرفة تحقيق مناطها، وإلى تقديم بعضها على بعض عند التزاحم، أَوْ عند معارضتها لمفسدة، وهذا لا يعرفه إلَّا أهل الاجتهاد ممن اتخذ الكتاب والسنة عمدة الاستنباط، فالشريعة لا تقرر من الآراء المجردة عن الدليل، يقول الجويني (ت: 478 هـ): "من ظنَّ أَنَّ الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء فقد رد الشريعة واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة، ولو جاز ذلك لساغ رجم من ليس محصنًا إذا زنى في زمننا
…
ولجاز الازدياد على مبالغ الزكوات عند ظهور الحاجات.
وهذه الفنون في رجم الظنون، ولو تسلطت على قواعد الدين لاتخذ كل من يرجع إلى مسكة من عقل فكره شرعًا، ولانتحاه ردعًا ومنعًا، فتنهض هواجس النفوس حالَّةً محل الوحي إلى الرسل، ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة فلا يبقى للشرع مستقر وثبات
…
فالحق المتبع ما نقله الأثبات عن سيد الورى، وما سواه
محال، وماذا بعد الحق إلَّا الضلال؟ وما أقرب هذا المسلك من عقد من يتخذ سنن الأكاسرة والملوك المنقرضين عمدةَ الدين، ومن تشبث بهذا فقد انسلَّ عن ربقة الدين انسلال الشعرة من العجين" (1).
والمصلحة المرسلة دليل من أدلة شرعية الحكم، فالشرع يقرر الاعتداد بكل مصلحة مرسلة لم يشهد لها دليل جزئي خاص من كتاب أَوْ سنة أَوْ إجماع أَوْ غيرها بإعمال ولا إلغاء، بل شهدت لها عموم مقاصد الشريعة، ولم يعارضها ما هو أقوى منها من الأدلة من كتاب، أَوْ سنة، أَوْ إجماع، أَوْ قياس، ولم تُفَوِّت ما هو أقوى منها من المصالح، وهذا حكم كلي مجرد يُخَرَّج عليه ما لا حصر له من الصور والوقائع.
لكن معرفة وقوع المصالح في فروع وجزئيات الواقعات مما قد لا ينفرد به الفقيه، بل قد يحتاج إلى أهل الخبرة والاختصاص في المحل الذي يحقق مناط مصلحته؛ لأَنَّ أهل الخبرة يُبينون للفقيه دليل وقوع الحكم (2)، فكون المصلحة المرسلة معتدًّا بها مما لا يعلم إلَّا بالشرع، وأَمَّا كون الشيء الفلاني مصلحة، فهذا مما قد يحتاج فيه مع الفقه إلى الخبرة، فالفقيه محتاج للحكم عليه إلى معرفة رأي أهل الخبرة والاختصاص فيه (3)، مثل: معرفة بيع المغيبات في الأرض من
(1) الغياثي 220 - 222.
(2)
انظر في أدلة وقوع الأحكام وأدلة شرعيتها والفرق بينهما ما سبق في المطلبين: الأول، والثاني، من الفصل الثالث من الباب الأول.
(3)
مجموع الفتاوى 29/ 429، إعلام الموقعين 2/ 5، بدائع الفوائد 4/ 12، 15.