الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويستفاد مما تقدم أَنَ تَوْصِيف الأَقْضِيَة هو: تنزيل الحكم الكلي على الواقعة القضائية لمطابقتها له.
أَوْ هو: تطبيق الحكم الكلي على الواقعة القضائية بعد اكتمال المرافعة.
ويمكننا صياغة ذلك بصيغة ثالثة فنقول: إنَّ تَوْصِيف الأَقْضِيَة هو: تحلية الواقعة القضائية الثابتة- بالأوصاف الشرعية المقررة في مُعَرِّفَات الحُكْم الكلي بعد اكتمال المرافعة.
وهذا تعريف للتَوْصِيف الموضوعي؛ لأَنَّه هو المراد عند الِإطلاق، وسوف يأتي تعريف لأنواع أخرى من التَّوْصِيف، وذلك عند ذكرها في موضعها من هذا الكتاب- إن شاء الله- (1).
شرح المراد بتوصيف الأقضية مركبًا:
المراد بـ "تحلية الواقعة القضائية الثابتة": أَنَّ الواقعة القضائية بعد تقرير القاضي لها بطرق الحكم من شهادة ونحوها، واستنباط ما خفي من أوصافها وإظهاره- تُحَلَّى بالأوصاف الشرعية المقررة في مُعَرِّفَات الحُكْم الكلي، فهو التحديد لصفاتها الشرعية.
والمراد بـ "الأوصاف الشرعية المقررة في مُعَرِّفَات الحُكْم الكلي" هي الأوصاف المقررة في الحكم الكلي المذكورة في مُعَرِّفَات
(1) انظر أقسام التَّوْصِيف في الموضوع الرابع والخامس من هذا التمهيد.
الحُكْم من السبب، والشرط، وعدم المانع، فيقابل كل وصف في الحكم الكلي بنظيره في الواقعة القضائية الثابتة، فإذا تحققت تلك المقابلة بين تلك الأوصاف تكون الواقعة قد تحلت بها.
فتَوْصِيف الأَقْضِيَة يعني: أَنَّ القاضي حقق النظر في الواقعة القضائية المنظورة لديه، فتقرر لديه انطباق أوصاف الحكم الكلي عليها، فاتصفت الواقعة بأوصاف الحكم الكلي.
فتقرير القاضي بأَنَّ العقد المتنازع فيه عقد بيع، أَوْ سلم، أَوْ هبة، أَوْ إجارة، أَوْ جعالة هو تَوْصِيف له؛ وذلك يعني أَنَّ أوصاف الحكم الكلي قد انطبقت على ذلك العقد، وهكذا تقرير القاضي بأَنَّ العيب المتنازع فيه موجب للخيار، أَوْ بأَنَّ القتل من قبيل العمد العدوان، أَوْ بأنَّ ما وقع بين الطرفين هو مواعدة وليس معاقدة؛ لأَنَّ أوصاف الحكم الكلي المقررة فيه قد انطبقت عليه، - تقرير القاضي ذلك هو تَوْصِيف للمتنازع فيه تمامًا كما يفعل الطبيب في تَوْصِيف الشكوى بأَنَّها الداء الفلاني؛ تطبيقًا لمعلوماته وخبرته في هذا المجال، وكما يفعل المهندس التقني في تَوْصِيف عطل السيارة بأَنَّه خلل في جهاز محركها الفلاني؛ تطبيقًا لمعلوماته وخبرته في هذا المجال، فإنَّه إذا عرف الطبيب الداء، وعرف المهندس التقني خلل السيارة سهّل على الأول العلاج ووصف الدواء، وعلى الثاني إصلاحَ السيارة، ودون ذلك يظل يخبط خبط عشواء لا يدري إصابته من خطئه.
وإذا كانت الأمثلة من أهم ما يشرح ويبين ما يقرره الباحث فإنَّنا سوف نضرب مثلًا نبين به كيف يتم تَوْصِيف الأَقْضِيَة، فنقول:
لو أَنَّ رجلًا ادعى على آخر بأَنَّه قد تعاقد معه للمناداة على بيته، على أَنَّه متى تم البيع استحق عوض المناداة، إلَّا أنَّه أثناء المناداة على البيت حال صاحبُ البيت بين المنادي وبين إتمام المناداة على البيت حتى عقد البيع، وباع صاحب البيت بيته على آخر، وطلب المدعي إلزام المدعى عليه (صاحب الدار) بتسليم كامل العوض المتفق عليه للمناداة، وقد أجاب المدعى عليه على الدعوى بالمصادقة على العقد، وأَنَّه حال بين المنادي وإتمام العمل، ورفض تسليم العوض المتفق عليه أَوْ شيئًا منه محتجًا بأَنَّه لم يتم البيع على يدي المنادي، وطلب رد الدعوى.
فعلى القاضي هنا تَوْصِيف هذا العقد المتفق عليه بين الطرفين والذي تصادقا على وقوعه: هل هو من باب الِإجارة أَوْ الجعالة؟ ، فنحن أمام واقعةٍ وقائعُها ما مرَّ سابقًا مما تصادق عليه الخصمان
…
وعلى القاضي توصيفها، وتوصيفها يستدعي البحث عن الحكم الكلي الملاقي لها (مُعَرِّفَات الحُكْم وهو الحكم الوضعي + الحكم التكليفي) ويكون ذلك في صياغة شرعية للحكم مبينًا فيه مُعَرِّفَات الحُكْم (الحكم الوضعي + الحكم التكليفي)، وبالبحث عن ذلك وجدنا أنَّ الفقهاء يقررون: بأَنَّ من دفع إلى دلال دارًا وقال له: بعْ هذه، فقام الدلّال وعرضه على جماعة من المشترين، وعرف ذلك
صاحب الدار فامتنع من البيع، وباع السلعة بنفسه على ذلك المشتري أَوْ غيره- لم يلزمه أجرة الدلال، وإنَّما له أجرة المثل؛ لأَنَّ ذلك من قبيل الجعالة (1)، والجعالة إذا فسخ الجاعل قبل إتمام العمل فللعامل أجرة المثل (2)، فإذا نزَّلنا الحكم الكلي المقرر فقهًا والمشار إليه قريبًا على الأوصاف المذكورة في الواقعة نجده ينطبق على الأوصاف المذكورة في الواقعة، فيقرر القاضي انطباقه على الواقعة، وأَنَّ ذلك من باب الجعالة، ويلزمه بأثرها، وهو الحكم الكلي من تسليم أجرة المثل للمدعي؛ لأَنَّ المدعى عليه فسخ العقد قبل تمام العمل، فقول القاضي بأَنَّ ذلك جعالة هو المقصود بالتَّوْصِيف، ولازمه هو تسليم أجرة المثل؛ لأَنَّ الحكم الكلي يقتضيه، وهكذا في كل واقعة بعد تهيئتها يجري توصيفها بإعطائها الوصف الشرعي المقرر في الحكم الكلي.
على أَنَّنا قبل أَنْ نضع القلم من شرح وبيان المراد من تَوْصِيف الأَقْضِيَة شرعًا نقرر بأَنَّ: تَوْصِيف الأَقْضِيَة لا بُدَّ له من حكم كلي مُفَسِّر، وواقعة قضائية مفسَّرة، مع مراعاةٍ لأصول التوصيف، وهذا ما سنتناوله في هذا الكتاب.
* * *
(1) الاختيارات ص 157، فتاوى ورسائل 9/ 6.
(2)
منار السبيل 1/ 456.